الأحد  22 كانون الأول 2024

مشاهد من الطفولة: مرحاض الحيِّ| بقلم: سعيد بوخليط

2022-02-10 08:41:30 AM
مشاهد من الطفولة: مرحاض الحيِّ| بقلم: سعيد بوخليط
سعيد بوخليط

من بين أشهر الآثار الأركيولوجية التي ارتبطت بجغرافيا حيِّنا بين دهاليز دروب المدينة القديمة، أذكر تلك المراحيض العمومية المبثوثة في كل حي؛ بجوار المسجد غالبا. قبل حدوث التِّيه، واختلاط المسالك جملة وتفصيلا، ما دام يصعب حسب قناعتي الجزم بأن المدينة، شَقَّت طريقها فعلا نحو الحداثة والعصرنة والتمدّن الحقيقي.

قد يوجد أكثر من مرحاض رئيسي، يتسم بكبر مساحته، تقاسمت أركانه جملة تجاويف صغيرة أشبه بزنازين مظلمة تتسع تقريبا لحيز شخص واحد، تفصل بينها حيطان قصيرة، لا أسقف علوية بتاتا، وأبوابا تغطي فقط النصف، مرتفعة باستفاضة كافية عن الأرض، هكذا تنكشف لمن ينتظر دوره خارجا، إبان خلوتكَ، تفاصيل لا بأس بها من جسمكَ؛ ثم يزداد الوضع استفحالا بالنسبة لذوي القامات القصيرة، واقتربت جدا من الأرض جلستكَ القرفصاء؛ وأنت بصدد  قضاء حاجتكَ.

تنعدم داخلها صنابير مائية للتنظيف، لذلك يضطر المعني بالأمر اضطرارا ومؤخرته شبه عارية، طيّ إما مهرولا حفاظا على ماء الوجه أو مقرفصا مسافة مليمترات معدودة تطول أو تقصر، فاصلة بيت تلك الأقبية عن الصهريج الذي يأخذ مكانه وسط المرحاض، يماثل شكله مسبحا منزليا صغيرا، يتحلق المتوضئون حول جوانبه وحواشيه، في وضعية شبه إباحية، ما دامت تقريبا مؤخراتهم ومقدِّماتهم جلية دون مواربة أمام بعضهم البعض، لا يحجبها افتراضا، سوى انهماك كل واحد منهم على ضبط إيقاعات متواليات دقيقة بين حركات رشيقة ليده اليمنى التي تغرف الماء من الصهريج، ثم تدلقها بجرة ومضة نحو الثانية التي تتكفل بالتنظيف، لذلك غالبا ما تكون الرؤوس منكبة صوب الأسفل، وقد انشغل جميعهم بذات الفعل، من ثمة لا داعٍ للتلصص، فكل مكونات الحضور تمتلك نفس التقاسيم الجسدية، ولا شيء يدعو بالتالي للاستغراب. 

تتوسع أو تتقلص حلقة الصهريج، تبعا لمواعيد آذان الصلاة، ثم تخف الجَلَبة غير تلك الأوقات. لحظتها، تكشِّر المراحيض عن أنيابها، وتفضي بأسرارها الخفية بحيث تطوي حينئذ ظلامها في صمت ارتيابه كرنفالات اللذة الجنسية، وفق تلاوين وتفاصيل عدة.

فضلا عن ذلك، أثَّث  الحيّ مراحيض أخرى صغيرة، بمثابة ملحقة للأول الرئيسي، غير بعيدة كثيرا عنه، تلبِّي غالبا حاجة العابرين الماسة قصد التخلص من إلحاح تراكم سوائل متانتهم؛ أو ماعرف في لغتنا الشعبية بالماء الصغير كمقابل للماء الكبير؛ أي التغوط.

في حين ينعته الأشخاص المسنون بالجنابة وفق معنى ثان، غير الراسخ ضمن أدبيات الفقه الإسلامي.

مراحيض صغيرة، بلا جحور منفردة ولا صهريج، يتبول داخلها الشخص واقفا، لا مجال هنا للتقرفص؛ تفصل بين المرتادين حيطان قصيرة جدا ينتهي طولها تقريبا عند الحزام، تتيح لمتحاورَيْن مثلا الاستمرار في نسج أواصر حديثهما، خلال ذات وقت قضاء الحاجة.

لا زلت أذكر، مشهد الماء المنساب تباعا بلا توقف على امتداد الحائط قصد تنظيف المجرى الصغير الذي يشغل كل مساحة المرحاض. عموما، أجواء المكان لا تخفي نفس خبايا وأسرار المرحاض الكبير الذي يكتنفه الغموض والظلمة ويطويه الخوف والارتياب على جميع المستويات.

هذا المرحاض الصغير، بهندسته المنفتحة والتئام أبعادها، تسعف بنيته أساسا سكارى الحيّ المتحلقين خلال كل مناسبة وغيرها، حول النبيذ الأحمر (الرُّوجْ) أو (''بُولْبّادْرْ''، صاحب العضلات المفتولة)، مثلما تعارفت عليها لغتهم، بقواريره البلاستيكية والزجاجية، لذلك يعثرون في ذلك المرحاض على ملاذ رحيم جدا؛ قصد الاستمرار في سهرهم، وإلا في حالة إغلاقه لسبب قاهر، سيضطرون للالتصاق على طريقة الكلاب بحيطان درب الحي والتبول مما يبعث تعميما لروائح نتنة تجلب عليهم سخط الساكنة، ويزداد الوضع استفحالا عندما يتقيأون، ثم اندلاع معركة طاحنة بين سِكِّيرين أو أكثر، فتأخذ للأسف منحى حرب البسوس.

أستحضر بهذا الخصوص، وقائع معركة حامية الوطيس بين أحد أبناء جيراننا، ضد شاب آخر من صناديد الحي المجاور، انطلقت شرارتها جراء نقاش خلال جلسة خمرية ليلا، تطورت أجواؤها إلى معركة استمرت عشرة أيام، بالتمام والكمال؛ جيئة وذهابا كرّا وفرّا، بحيث تجرى كل يوم مباراة من جولة أو جولتين، وبعد استنفاذ قوتيهما وكذا تدافع الناس حولهما، يضطران إلى الافتراق على وقع الوعد والوعيد؛ غاية موعد إشعار ثان.

للتاريخ والحقيقة، اتسمت فنون قتال الشوارع خلال الزمان الماضي، بكونها بدنية تماما تراهن فقط على القدرات العَضَلية، ولم أر طيلة معاينتي لجوء أحد المتخاصمين إلى آلة حادة حتى يهزم خصمه بسرعة، مثلما صار الأمر بعد ذلك، حينما تراجعت القوى البدنية لصالح المَكْنَنة.

تُفتح أبواب المرحاض الرئيسي فجرا، تزامنا مع موعد أول صلاة، ثم تغلق بعد صلاة العشاء. وتظل مُشرَّعة، على امتداد اليوم، لساكنة الحي والعابرين أيضا، فالخدمة مجانية والفضاء متاح دون حاجز يذكر.

أما بخصوص الحُرَّاس، الذين تكفلوا بمهمة تدبير شؤونه اليومية، فقد استوطنوا ركنا من أركانه، انصبت وظيفتهم أساسا نحو تهيئة وترتيب سلسلة قباقب خشبية يترجَّل عليها مرتادو المرحاض، تشبه جملة وتفصيلا تلك التي اكتشفتها عبر شاشة سينما الحي في معابد شاولين، وكذا حفنة أسطل بلاستيكية صغيرة أو قصديرية للوضوء مترهلة غمر لونها الصدأ، اقتطعت غالبا من حاويات صفيحية أمريكية للزيوت الغذائية، تضمنت واجهتها شعار: مساعدة من الشعب الأمريكي. نفس الهيكل، الذي صنعت منه أيضا ''آلات الموسيقية'' لمغني الأسواق الشعبية والحافلات العمومية.

تكاد تتماثل، فيزيولوجيا هؤلاء الحُرَّاس. تقريبا، نفس الملامح وطبيعة المزاج والطقوس التي تصاحب حضورهم اليومي. وجوه غير أليفة، بل أقرب إلى أهل العالم السفلي، حتما نتيجة مكوثهم داخل تلك المراحيض فترات طويلة، هكذا تقمصتهم أرواح الجن والشياطين.

يظهرون من الوهلة الأولى، انطوائيين في الغالب صامتين لا يكثرون الكلام، ينبعث من نظراتهم شعاع بريق حادّ؛ مرعب. صوتهم مبحوح وأجش، ينمّ عن نغمة مثيرة للسامع، ويزداد ثخانة طبقاته، إن أدمن صاحبه سيجارة غالبا من النوع الرديء أو عشبة الكيف أساسا.

يؤسسون مجلسا صغيرا داخل المرحاض. صندوق يعلوه صندوق ثان، تغلِّفهما قطعة كارتون متآكلة، ووسادة صغيرة مربعة الزوايا، تراكمت أوساخها غاية القرف، ثم مجْمَر كسرت إحدى جوانبه، فأضحى أعرج مائلا نحو جهة على حساب الباقي، دائم توقّد رماده، يتقاسم دفئه إبريق شاي، تناوبا مع طاجين.

تساءلت دائما وأنا صغير، كيف أمكن هؤلاء التلذّذ بطعام أو شراب بجانب القاذورات والروائح الكريهة التي تعمّ مكانا مقزِّزا أصلا، أقرب إلى أقبية معتقلات القرون الوسطى الرهيبة. الجواب الوحيد الذي يحضرني بسرعة، يبرر السر بأنهم من أهل الجن، وفصيلة الكائنات الشريرة، فلا يستطيع أيّ شخص الصمود هناك، سوى تحت إلحاح قضاء الحاجة البيولوجية المستعجلة، والمغادرة بأسرع وقت ممكن نظرا للأهوال والمخاطر المحدقة.

من بين أهل تلك الأمكنة الرهيبة،الذي اكتشفت حضورا له أشبه بإعصار يأتي على الأخضر واليابس في خضم يوميات حيِّنَا، شخصا معتوها يلاحق الجميع قاذفا عشوائيا بعشرات الأحجار القاتلة، إن بادر مستفزّ في غفلة من الحاضرين ونادى عليه باسْمَين يغضبانه جدا: وا ''اتْهِّي ! ''وا ''المَلِكْ جَالُوقْ!"، نسبة إلى معدن ''الجالوق'' (قصدير)، لأنه ارتدى فوق أسماله الرثة صفائح عدة  من ''الجالوق'' مزركشة الألوان، مصدرها علب السردين، تجعله أقرب إلى روبوت حديدي، تحدث دويَّ أصوات ذات موسيقى نشاز، يختلف مدى إيقاعها حسب مشيته أو هرولته، وحتى إبان  سكينته نظرا لحركات جسده الرعناء باستمرار.

بالكاد، تلتقط أذناه أولى حروف تلك الكلمتين، حتى يغدو جِنّا من الطراز النادر مختبئا فقط بين ثنايا صورة إنسان، هكذا ينزل ضربا ورفسا وصفعا بطريقة همجية حيال جلِّ من وجد أمامه، لذلك ظل طيلة فترة بقائه في الحيّ، أصل رعب وفزع لكل الساكنة.

ارتدى، أربعة جلابيب من الصوف انتهت إلى مجرد بقايا بالية تليدة. قدمان  حافيتان؛  شتاؤها كصيفها. شَعْر أشعث وكثّ. ملامح أقرب للعنصر الزنجي، وأساسا عينان مترنِّحتان؛  يشع منهما هول فظيع.

عاش معنا هذا المجنون طيلة سنوات، ثم ذات صباح اختفى جملة وتفصيلا، كأنَّ الأرض ابتلعته، ولم يظهر له أثر قط بعد ذلك. تواترت أقوال وإشاعات بهذا الخصوص، قيل بأنه كان مخبرا للأجهزة الأمنية، بينما انحاز فريق ثان لرواية معاكسة تماما، مفادها أنه جاسوس لجهات معادية للبلاد فافتضح أمره.

في حين، نفى فريق ثالث الروايتين معا، مؤكدا دعاته بأن الرجل ممسوس كليا، تسكنه جِنِّية شريرة، من النوع الفظيع، نتيجة استوطانه مرحاض الحي أمدا طويلا، ورافقته حكايات جراء ذلك.

قال بعضهم، والعهدة عليه، بأنه سمع غير ما مرة خلال مروه أمام المرحاض في وقت متأخر من الليل والناس نيام، تأوهات جنسية غريبة جدا ذات مرجعية نسائية غير إنسانية.

بينما دحض آخرون التأويل أعلاه، مؤكدين في المقابل، بأنه مدمن على الاستمناء وحين بلوغه ذروة انتشائه، يطلق العنان لصوته؛ ويطوي جريا المرحاض للحظات. كما، أضافت جماعة ثالثة، بأنّ مجنون الحي الشهير يأكل الجرذان بشهية غريبة.    

يأوي عند بداية كل مساء إلى مسكنه في المرحاض، حيث أودع أغراضا أسمال شتى، قوارير، سجائر، ومختلفات في غاية العبث والقذارة. يُغلق عليه باب المرحاض، غاية صلاة الفجر.

عموما، احتشادنا نحن صبية الحيّ داخل المرحاض، يتوقف جدليا على حضور المجنون أو غيابه. في الحالة الأولى، يستحيل أن يفكر الواحد منا مجرد الحلم بالاقتراب من عين المكان، وإلا شكَّلت المناسبة، آخر عهد له بالحياة، لكن مع الحالة الثانية، يتحول المرحاض إلى قبلة لنزوعنا الشيطاني واحتفال جماعي على سليقته بطفولتنا.

يتجه همّنا حينئذ، صوب التسابق والتسارع للارتماء في الصهريج، لا سيما خلال فصل الصيف، بحيث ترتقي تلك البِرْكة المائية المتحركة حقا دورتها وفق تقنية معينة، إلى بؤرة فردوسية لإطفاء قيظ مراكش وحرارة الجو، غالبا فترة الظهر، يكون خلالها المرحاض فارغا تماما، فيشكِّل الموعد فرصتنا اليومية الوحيدة كي نبلل أجسادنا بمياه باردة، بل ننظم مسابقات حادة التباري بخصوص، كيفيات فنون الارتماء وسط الحوض وكذا القدرة على الغطس لأطول مدة ممكنة.

غبطة لا توصف، ننساق معها بكل ما نملك من عفوية خلف متعة يوفرها الصهريج، حَدّ سهو انتباهنا  تماما عن مدخل المرحاض، وإمكانية تسلل الحارس الذي غادر لقيلولة في بيته، دون سابق إنذار بل الأسوأ إمكانية عودة المجنون اتْهِّي، حينها ستقع حتما مجزرة وينقلب الفرح إلى عزاء.

إذن، مثَّلت حفرة ذلك الصهريج لأغلبنا، أول تمرّن على كيفية العوم والطفو فوق الماء، قبل تطور المستوى والانتقال بعد ذلك إلى المسابح العمومية.

نغادر ويتفرق شملنا، حينما نستشعر قرب موعد الحارس، ونتفق على العودة ثانية إلى ذات المكان، لكن هذه المرة خلال فترة امتلاء المرحاض، لغاية ثانية غير السباحة، تتجلى في التلصص على عراء المتوضئين والتفكه بالتفرج على أعضائهم الجنسية ومقارنتها حجما وشكلا بما يوجد لدينا نحن الصغار.

نستغرب أيَّما استغراب من الأحجام والأشكال، ثم نطلق قهقهات مدوية دفعة واحدة، مما يفضح أمرنا، فينتبه إلينا الجمع وينهالون علينا باللعنات والشتائم، قد يحاول أحدهم ملاحقتنا والقبض علينا، لكنه في خضم انقياده الأعمى وراء هيجان مشاعره، ينسى بأن حزام سرواله غير مشدود، فيتدلى بمجرد اندفاعه، وتنكشف حميمته بالتمام والكمال أمام الحاضرين، هكذا يشتد حنقه أكثر، ويرتفع في المقابل منسوب تهكمنا. أيضا ربما انزلقت قدماه جراء توخيه ملاحقتنا، فيفقد توازنه ويسقط، ثم تتضاعف حدة سخريتنا ونزداد حماسة.

لقد حولت طفولتنا مرحاض الحيِّ، بغض النظر عن استعمالاته المألوفة لدى الكبار، إلى ورش لتعلم السباحة، وكذا اكتشاف أسرار جسدنا، أساسا كنه المنطقة السفلى التي أفقدتها طبيعة الخروج من حفرة الصهريج للتوضؤ، كل الأقنعة والأسرار والألغاز التي تكتنفها قبل ولوج ذلك الفضاء الغريب والعجيب.