الحدث الثقافي
أخرجت الحرب الروسية- الأوكرانية الراهنة المفكر والمؤرخ الأميركي فرانسيس فوكاياما صاحب المقولة الشهيرة "نهاية التاريخ" من صمته ودفعته إلى النظر مجدداً في المعطيات الأيديولوجية والجيوسياسية التي ارتكز إليها ليطلق فكرة انتهاء التاريخ بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي و"موت الأيديولوجيا". وقد يجد فوكوياما نفسه الآن في حال من الحرج الذي كان اختبره سابقاً أصلاً عبر الردود السجالية التي واجهت مقولته التاريخية وشارك فيها مفكرون من أنحاء العالم ومن مشارب سياسية عدة. ولعل الضربات القاسية التي وجهت سابقاً إلى مقولة "نهاية التاريخ"، لا سيما إبان الحرب التي شنتها أميركا وحلفاؤها على العراق، تواجه المقولة الآن ما يماثلها بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، مما اضطر فوكوياما إلى إعلان موقف نقدي من هذه الحرب وإلى الإمعان في تأويلها على طريقته ووفق نظريته المتحركة وغير الجامدة. ومن هنا تأتي أهمية حواراته الأخيرة وتصريحاته التي يحاول فيها استعادة مقولته ومقاربتها من جديد على ضوء هذه الحرب. وكانت له إطلالات صحافية في موقع "كويّت" الأسترالي ومجلة "لوبوان" الفرنسية وجريدة "فايننشيل تايمز" البريطانية وسواها، عبّر فيها عن رأيه الشامل في ما يجري.
في حواراته الجديدة، يتصور فوكوياما أن الحرب العدوانية التي يشنها بوتين على أوكرانيا ستكون لها، إذا نجحت، تداعيات خطرة جداً، إذ يحقق بوتين حلمه في استعادة الاتحاد السوفياتي السابق قدر الإمكان، وفي تحييد أوروبا الشرقية وتقليصها إلى منطقة عازلة، وتفكيك صرح "أوروبا الكاملة والحرة" الذي تم بناؤه بعد العام 1991.
ويرى فوكوياما أن المشكلات التي تواجه اليوم المجتمعات الحرة لا تبدأ ولا تنتهي مع بوتين، وأن العالم سيواجه تحديات خطيرة جداً حتى ولو واجه وضعاً حرجاً في أوكرانيا. فالليبرالية تتعرض لهجوم منذ زمن، من كلا اليمين واليسار. ويسترجع فوكوياما استطلاع "مؤسسة فريدوم هاوس" عن وضع "الحرية في العالم" للعام الحالي والذي أفاد بأن الحرية العالمية هي في تراجع في السنوات الـست عشرة الأخيرة. وهي لا تتراجع بسبب صعود قوى استبدادية مثل روسيا والصين، وإنما أيضاً بسبب الاتجاه نحو الشعبوية واللاليبرالية والقومية داخل ديمقراطيات قديمة مثل الولايات المتحدة والهند.
وأقر فوكوياما أن التهديد اليوم لا يأتي فقط من أماكن مثل روسيا والصين، بل هو أيضاً داخل الولايات المتحدة، التي راحت تشهد نمو حركة شعبوية. ومن الواضح أن العالم يعيش فترة تاريخية مختلفة تماماً. ويرى فوكوياما أن الأزمة الحالية أثبتت في الوقت نفسه أن غير الممكن أخذ النظام العالمي الحر الموجود، على أنه أمر مسلم به. "إنه أمر يتعين علينا أن نكافح في سبيله دائماً وإلا سيختفي في اللحظة التي نخفف فيها حذرنا".
ويرى فوكوياما في هذا القبيل أن آلام الليبرالية لن تنتهي حتى ولو هزم بوتين. فالصين ستكون في الانتظار وكذلك إيران وفنزويلا وكوبا والشعبويون في البلدان الغربية. لكن العالم سيكون قد تعلم ما هي قيمة النظام العالمي الحر، وأن هذا النظام لن يستمر إلا إذا كافح الناس من أجله وأظهروا الدعم المتبادل.
ويرى فوكوياما أن الغرب يقف اليوم في لحظة مهمة جداً في تاريخ العالم، فأوكرانيا الديمقراطية هي في الواقع تهدد بوتين ونظامه فقط، ولا تشكل خطراً على الشعب الروسي. أما فكرة بوتين فتفترض أن ثمة عدم توافق جوهري بين الديمقراطية والشعوب السلافية التي تنجذب بشكل طبيعي نحو قيادة قوية ومركزية. وكان نجاح أوكرانيا الديمقراطية ورغبتها في الانضمام إلى أوروبا يعنيان في نظر بوتين، إمكانية حدوث تطور مماثل في روسيا، مما يدق ناقوس خطر زواله وزوال "البوتينية". وهذا هو السر، كما يرى فوكوياما، في أنه لم يوافق، ولن يوافق أبداً، على قيام أوكرانيا ديمقراطية، فهذا يقوض مشروعه السياسي.
صعود الاستبداد
ويؤكد فوكوياما أن دافع فلاديمير بوتين إلى الحرب كان سعيه إلى استئصال الديمقراطية من أوروبا الشرقية. ويشير إلى أن من الضروري أن يدرك العالم ذلك، لأن نيات روسيا أكبر بكثير من نيات أوكرانيا. ويلاحظ الآن أن الحكومات الاستبدادية في حال من الصعود وأن زخم الديمقراطية وانتشارها واضحان تماماً. ويرى أن روسيا ليست قوية مثل الاتحاد السوفياتي السابق، و"إذا كانت هناك حرب باردة أخرى، فسيكون من المهم مراقبة الصين".
ويرى أيضاً أن قرار بوتين بالعدوان كان مدفوعاً بالاستياء الذي يضمره وكذلك بحنينه إلى استعادة القوة العظمى التي اعتاد الاتحاد السوفياتي السابق ممارستها. ومن المحتمل "أن يكون بوتين قد ارتكب خطأً فادحاً في هذا الغزو، وأنه قضم أكثر مما يستطيع مضغه، وأنه سيفشل في محاولته إخضاع أوكرانيا".
وفي شأن التحجج البوتيني بقضية الناتو، يرى فوكوياما أن "القضية بالنسبة لروسيا في أوكرانيا ليست عضوية الناتو. لقد استخدموا ذلك كعذر. لم يكن أحد جاداً في شأن انضمام أوكرانيا إلى الناتو على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية. القضية الحقيقية هي رغبة بوتين في إعادة بناء الاتحاد السوفياتي السابق وقلب النظام الأمني الأوروبي بأكمله الذي ظهر بعد تفكك الاتحاد السوفياتي". ويرى أن بوتين أوضح أنه لا يعتبر أوكرانيا دولة مستقلة، وأنه لم يكن يجب السماح مطلقاً لها بالتصويت لصالح استقلالها.
كوفيد أصاب بوتين بالجنون
ولعل أغرب ما صرح به فوكوياما، كلامه عن إصابة بوتين بحال من الجنون، ومما قال: "أعتقد أن علينا أن نشرح الكثير من سلوك بوتين من منظور علم النفس الشخصي. كان هناك الكثير من التكهنات بأنه أصيب بالجنون أثناء وباء كوفيد 19. لقد كان منعزلاً للغاية، ولا يتحدث إلا إلى دائرة ضيقة جداً من الناس. إنه أمر مثير للاهتمام... هناك الكثير من الروس المؤيدين لموسكو وكانوا يدافعون عن قرارات الكرملين، لكنهم صُدموا تماماً لأن بوتين شن غزواً بالفعل، لأنهم يعتقدون أنه جنون، من وجهة نظر المصالح الوطنية الروسية".
وعن أثر العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى على الاقتصاد الروسي، يقول: "سيتعرض الاقتصاد الروسي لضربة كبيرة. لم يعد مسموحاً للبنوك الروسية بجمع الأموال في الأسواق المالية الغربية، وبالتالي من المحتمل أن تتجه إلى الصين وإلى مصادر أخرى. ستؤثر العقوبات في اقتصاد روسيا. ولكن لديها أكثر من 600 مليار دولار من الاحتياطيات، ما قد يعني أن التأثير سيكون في ظني، قصير المدى، سيكون محدوداً نوعاً ما. ولكن بصراحة تامة، إن الامر الرئيسي الذي يجب أن يراقبه الناس هو الصراع العسكري "على الأرض"، وما إذا كان بإمكان الأوكرانيين فرض تكاليف باهظة على الروس لجعل الأمر يبدو وكأنه مأزق عسكري أو فشل".
العين على الصين
وعن مدى التعاون بين الصين وروسيا في المستقبل ضد الأنظمة الديمقراطية، يقول: "إنهم يتعاونون كثيراً في الوقت الحالي، لأن لديهم عدواً مشتركاً هو الولايات المتحدة ومجتمع الديمقراطيات الأكبر. ومع ذلك، فإن مصالحهم ليست متوافقة تماماً. كانت الصين تكافح لأنها جعلت احترام السيادة مثل احترامها الجزء الكبير من سياستها الخارجية. ويصعب على الصين بعض الشيء، تأييد الغزو الصريح لجارة ذات سيادة. أما في حالة تايوان، فستقول الصين إنها جزء منا. نحن لا نغزو دولة ذات سيادة. على الرغم من أنني أعتقد أن هذا هو الواقع. ولكن لا يمكنك تقديم هذا النوع من العذر في حالة أوكرانيا، التي صوتت بغالبية ساحقة لتصبح دولة مستقلة".
ويعتقد فوكوياما أن من المبكر معرفة كيف ستتطور هذه الحرب، ولكن من الواضح في نظره أن بوتين لن يتمكن من تحقيق أهدافه القصوى. لقد توقع نصراً سريعاً وسهلاً. لكنه حرك وكر الدبابير الهائج، بعدما أبدى الأوكرانيون بكل فئاتهم، حالة غير مسبوقة من الثبات والوحدة الوطنية. حتى لو استولى بوتين على كييف وطرد الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فإنه لن يتمكن على المدى الطويل من إخضاع أمة غاضبة، تعد أكثر من 40 مليوناً، بالقوة العسكرية. وهو سيكون أيضاً في مواجهة العالم الحر وحلف الناتو، موحدين ومعبَّأين على نحوٍ غير مسبوق، بعد فرض عقوبات مكلفة على الاقتصاد الروسي.
إضافة إلى ذلك، يرى فوكوياما أن هذا الهجوم قد يورط الجيش الروسي في حرب شوارع تسبب خسائر فادحة بين الأوكرانيين، ولكنها أيضاً تعيد عدداً لا يحصى من الروس إلى الوطن في أكفان، مشيراً إلى أن الروس مذهولون من أن استثماراتهم العسكرية تُستخدم أساساً لقتل إخوتهم السلاف وتدمير دولة يشعرون بأنهم على صلة وثيقة بها. وفي رأيه أن الأوكرانيين، أكثر من أي شعب آخر، "أظهروا ما هي الشجاعة الحقيقية، وأن روح 1989 لا تزال حية في هذه الزاوية من العالم. وبالنسبة للبقية منا، فإننا كنا نغط في سبات وقد تم إيقاظنا منه".