الأحد  22 كانون الأول 2024

المذياع والجريدة: أولى بواكير وعيي السياسي/ بقلم: سعيد بوخليط

2022-05-12 08:58:48 AM
 المذياع والجريدة: أولى بواكير وعيي السياسي/ بقلم: سعيد بوخليط
سعيد بوخليط

بدأت معرفتي بمجريات عالم السياسة، وأنا طفل، من الذي اهتدى بي بداية نحو هذا المجال؟ حتما، لا أحد غيره سوى  المذياع.

شَكَّل هذا الجهاز السحري والساحر، وسيلتي الأولى لالتقاط الأخبار، لذلك نسجت منذئذ وغاية الآن، ارتباطا روحيا بالمذياع، بحيث لا يفارق حضوره شحمة أذني خاصة في المساء على امتداد الليل، رغم كل التطور التكنولوجي الذي بلغ شأنا عظيما؛ لم يكن قط قابلا لمجرد تخيله قبل عقود. استمرت معي هذه العادة، بذات طقوسها وتجليها الأولي، لا يمكنني النوم سوى على خشخشة مذياع صغير.

إذن، عاينت أثيريا وأنا في مقتبل العمر المعطيات الأولى للجغرافية السياسية، بفضل ترانزستور كلاسيكي، أكبر من حجم اليد قليلا. سمعت لأول مرة، عن جريمة مذبحة صبرا وشاتيلا، استعادة مصر لصحراء سيناء، يوميات الحرب الطائفية اللبنانية والحرب العراقية الإيرانية… لم أكن أخذل قط مواعيد نشرات الأخبار، مما أكسبني معلومات سياسية لا بأس بها، منحتني التفوق داخل الفصل الدراسي أو خلال جلسات الأسرة أو الأصدقاء، فيما يتعلق بخريطة الأحداث الجارية آنذاك ثم بعض حيثياتها.

ينتابني انتشاء عظيم، حينما ينزع قصدا حديث أستاذ معين (أذكر جيدا مدرِّسي الاجتماعيات واللغة العربية) نحو هذه الوجهة، حينها يظهر تميّزي بشكل مستفيض مقارنة مع باقي زملائي لا سيما المنافسين منهم، يزداد تحمسي وأنا أراقب تفاعل ملامح الأستاذ وهي تنمُّ عن استحسان يتخلله إعجاب ضمني؛ قياسا لثلاثة عوامل أساسية:

حداثة سني، ندرة مصادر الحصول على المعلومة، الرعب المهيمن على المرحلة نتيجة تجذر القمع السياسي. إنها، إحدى أوج فترات سياقات المواجهة، بين أجهزة الدولة والقوى السياسية الثورية، أستحضر بالضبط هنا، أجواء الفترة التاريخية المخَضَّبة بجراح شهداء ومعتقلي انتفاضة مراكش لسنة 1984.

قليلا بعد ذلك، أدركني مفعول عجائبي آخر، لرفيقة نادرة مذهلة لازمنتي صحبتها طيلة عهود دون فراق يذكر حتى عهد قريب، حين فقدت وهجها وجِدَّتها تماما؛ أقصد الجريدة الورقية، رغم أن وجودها عَكَّر باستمرار صفو علاقتي مع أمي، لأني احتجت لقروش بداية الأمر قصد اقتناء الجريدة، ولا خيار أمامي سوى تقطير المبلغ بمعادلة رياضية جهنمية، من بين ثنايا ميزانية هزيلة يلزمني تدبر أمرها وأنا أقتني ما يحتاجه قُوتُنا اليومي.

أول شيء أبادر إليه، وأفكر فيه حين مغادرة المنزل، الذهاب إلى كشك أو أقرب محل لبيع الجرائد. حينها، أستعمل استراتيجية أولى قبل التفكير في اقتنائها. أرمي نظرة خاطفة صوب ملامح صاحب المحل حتى أتبيَّن وأقيس درجات ظرفه من شره، فإذا حدسته شخصا أقرب إلى المنحى الأول، بالتالي لا مجال لحدوث مشاكل، أبادر إلى تناول الجريدة بسرعة البرق وتصفحها كي أكتشف بجرة نظرات خاطفة مضمونها، إن صادفته ثريا اقتنيتها دون تردد وإلا فلا داعٍ، مما يمنحني راحة ضمير داخلية ما دمت حافظت بأمانة على عهدة مصروف المنزل.

أحيانا، أصب لعناتي  من أعماق دواخلي بكل اللغات، على مصادر هذا الاكتشاف الذي أحاطني بمتاعب أنا في غنى عنها تثقل كاهلي. أحيانا أخرى، أغدو أسعد خلق الله جميعا، عندما تمر بسلام وأمان عملية اصطحاب الجريد نحو المنزل، بحيث أقضي اليوم بأكمله أقلِّبها يمنة ويسرة، ألتهم وأطوي صفحاتها بشغف لا أضعها جانبا سوى حينما آتي بنهم لذيذ على مختلف تفاصيلها.

حتما، سأحتفل بغنيمتي الكبرى، عند حلول موسم العطلة الصيف وإغلاق المدرسة لأبوابها، فأقصد أكشاك الجرائد والمجلات للعمل، لحظتها أجدني بين أحضان واحة حقيقية بعد أيام طويلة عجاف. يا سلام هي الجنَّة إذن! كشكول عناوين شتى، مما يتيح لي مجالا وافرا للتمتع بالقراءة وتنمية رصيدي المعرفي، فأعود إلى المدرسة ثانية، مشحونا بطاقة نوعية زائدة.  

مع مرور الوقت، بدأت أستوعب أسرار المهنة. أصبح صاحب الكشك يكلفني كل صباح بمهمة التوجه إلى شركة التوزيع، كي آتي بمختلف العناوين الجديدة وأعيد القديمة. لذلك، يلزمني الاستيقاظ باكرا، والإسراع صوب عين المكان وأعمل على ترتيب المنشورات الواردة الخاصة بالكشك ثم أحزم الحقيبة  بشكل جيد، ثم أضعها أمامي سواء ممتطيا دراجة هوائية، أو نارية وبين الفينة والأخرى، كي أعود وأشرع في تأثيث واجهة الكشك قبل الساعة الثامنة صباحا.

تطور لدي الحس السياسي، بالسعي إلى البحث عن إطار تنظيمي يشبع فعليا تطلعي الإيديولوجي والمذهبي. هكذا، وقد تراكمت حصيلة ثقافة سياسية شخصية لا بأس بها تتوخى الإحاطة بما يجري داخليا وخارجيا، تطلعت رغبتي نحو طرق أبواب الأحزاب والنقابات. تقاسمت الرأي مع صديقي رشيد، ثم شرعنا نختبر أطوار الرحلة قصد الاستفسار عن أجوبة حول مجموعة أسئلة تهم أمورنا.

 في الحقيقة، قدر تحمسي لهذا الأمر، أحسست بأن صديقي لم يكن مقتنعا تماما ويجاري أهوائي فقط، مثلما أن الأشخاص الذين استقبلونا داخل المقرات، نظروا إلينا بعين الريبة والحذر، و"احتفلوا'' بحضورنا بنوع من التحفظ مرتابين حيال قدومنا المفاجئ دون استقطاب من طرف أحد، بحيث اتجه تفكيرهم مثلما كنا نستشف، إلى كوننا مجرد وشاة نحاول ترصد معلومات ونقلها إلى السلطة.

انتقلنا تقريبا بين مختلف مكونات الهيكل السياسي، المعروف في المدينة بدءا من اليسار  المؤسساتي، وانتهاء بفضاءات بعض الأحزاب المحافظة. سواء هنا أو هناك، استخلصنا عموما هيمنة  فاعل وحيد: البيروقراطية في منتهى تفاصيلها. أبنية تظل مغلقة، ولا تفتح سوى خلال مناسبات معينة، ومع تجليات أفضل حالات مزاجها عند نهاية اليوم لفترة معينة بحيث يحضر بعض المنخرطين قصد ارتشاف كؤوس الشاي و تزجية الوقت بتبادل أطراف الكلام في أمور عامة أو التحلق حول طاولة للعب الورق.

وضع أشعرني بالاشمئزاز والإحباط، لا سيما وأن المرجعيات التي تستند عليها تلك التشكيلات التقدمية أساسا وكذا طبيعة خطابها السياسي/ الثقافي، وما تروج له صحفها يوميا وشعاراتها نحو المستقبل، مختلف ذلك يتنافى تماما مع واقعها الملموس.

غادرت دائما صحبة صديقي رشيد، ونحن نجر معا أذيال الخيبة واليأس جراء هذا التفاوت العبثي بين وجود أحزاب توهم الجماهير تبنيها لمرجعيات الفكر الكوني نظريا، لكنها على أرض الواقع تعيش سباتا عميقا.

أذكر، بأننا تسلمنا بطاقة الانتماء إلى حزب التقدم والاشتراكية، خلال فترة إدارة الأمين العام السابق علي يعتة. استهواني أساسا، تقليد إرساله كل سنة، ببعض الشباب للدراسة في الاتحاد السوفياتي؛ طبعا قبل سقوط الأخير بداية التسعينات. معلومة، تلقيتها من أحد المراسلين المحليين لجريدة الحزب

حينها، ألححت على صديقي رشيد كي نبادر، ربما نلنا بدورنا حظوة وامتياز رحلة صوب جامعات موسكو. استقبلنا مؤطِّر أخبرنا في خضم حديثه، بأنه معتقل سابق قضى عشرات السنوات، داخل أقبية السجن بسبب أفكاره اليسارية والثورية وانتمائه إلى صفوف اليسار الجديد.

تداولنا نحن الثلاثة، أفكارا متباينة خلال جلسة دامت ساعتين تقريبا. عندما هممنا بالمغادرة، ألحَّ على ضرورة المكوث للحظات إضافية، حتى يوضب لنا بطاقتي العضوية وتوقيعها. تبادلت وصديقي نظرات ملؤها الاستغراب: كيف بجلسة عابرة، اقتصرت على حديث عام قارب قضايا مختلفة، ستتيح لنا الحصول على العضوية. هل يعود الأمر إلى مجرد كساد سياسي؟ أم فعلا تجلى حضورنا بكيفية مقنعة للغاية، لذلك لم يفوِّت الرجل، فرصة استقطابنا إلى جهازه الحزبي.

طبعا من باب اللياقة، انتظرنا حتى ملأ معلومات البطاقتين ثم أمدنا بهما، مبتسما في وجهينا:

-''هنيئا يا شباب لقد انتسبتما إلى حزب عتيد انبعثت من جوفه جل تنظيمات اليسار في هذا البلد!''.  

تبادلت ثانية وصديقي همسات صامتة مفعمة بمشاعر وأحاسيس مختلطة، في مقدمتها عدم رغبتنا الدفينة كي يقتحمنا بهذه السرعة. تسلمنا البطاقتين، أبدينا بهجة مصطنعة، شكرناه ثم غادرنا، على أساس العودة خلال أقرب وقت كي يمدنا بوثائق تهم تاريخ الحزب. لكن، لسان حالنا يشي ضمنيا عن عدم اقتناعنا بالانتماء لسبب بسيط، أن مرجعيتنا الفكرية بخصوص تقييم أمور الشأن العام مغايرة لتصورات إطار سياسي تحكمه بيروقراطية مركزية يلزم الانضباط لها هَرَميا؛ جملة وتفصيلا.