في معرض دفاعه عن نفسه ضد جورج لوكاتش، الذي وصفه بالفيلسوف الفاشستي، يستشهد مارتن هايدغر بعبارة لـ بول فاليري تقول: "عندما يعجز المتحاملون نقد النصّ، يشنّون الهجوم على صاحب النصّ!"
هذه النزعة هي ما يعتنق خصوم النصّ في واقعنا العربي حرفيّاً، إلى الحدّ الذي أباحوا فيه نفي النصّ نهائياً، مقابل الإبقاء على إنسانٍ حوّلوه بأحقادهم ضحيّةً، كما الحال مع الشخص الذي كان له الفضل في خلق النصّ.
يحدث هذا بسببٍ بسيط وهو يُسر النّيل من الشخص، من المؤلّف كشخص، فيما إذا قورن بعسر النيل من النصّ، بسبب طبيعة النصّ: نصٌّ مسكونٌ بالسليقة. مسكونٌ بذخيرة عصيّة، تتحدّى بطبيعتها، بقدر ما تتكتّم على ثروتها، فتبدو منيعةً، ماردةً، محتجبةً بألف قناع، ولكنها برغم ذلك تضيق بالإغواء. ونزول حرمها يستوجب قبول التحدّي لخوض مغامرة كشف المخزون. وهو ما يعجز أناس اعتادوا أن ينالوا الحقيقة على سبيل الهبة، برغم ادّعاء هؤلاء احتكار الحقيقة مسبقاً، دون أن يدفعوا مقابل هذه الغنيمة حبّة عرق.
ولهذا السبب يهرعون إلى الشخص، صاحب النصّ، في وجوده العينيّ قيد الحضور، العاريّ روحاً، العاجز بطبعه عن صدّ الغزو، بل وعن أي دفاعٍ عن النفس، ظنّاً منه أن مِنْ حقّه أن يضمن دفاع النصّ عنه كشخص، بعد أن طاف الغيوب، وعبر الأهوال، للفوز بغنيمة، لن تنال شرف هويّتها كغنيمة، ما لم تباركها الحقيقة، ليقدّم حجّته للعالمين بالمجّان، لأن الرهان في يقينه على اللقية، على الحجّة، على النصّ. وهو ما لا يعترف به الخصوم الذين لا يعنيهم النصّ، بل يتحاشون النصّ، لعلمهم بوجود الحقيقة في النصّ؛ الحقيقة التي سخّروا أنفسهم لحجبها، لا لكشفها، ماداموا يصرّون على التشدّق باحتكارهم المسبق لما يدّعون أنه حقيقة، وينسون أن لعنة النصّ سوف تنالهم أينما حلّوا، وسوف تلاحقهم، لتقتصّ منهم، طال الزمن أم قصر، لأنهم يجهلون أن سطوة النصّ، المسكون بالحقيقة التي ينكرونها، قادرة على أن ترافع عن الشخص في محكمة لا يأتيها الباطل كالزمن.
هذا الزمن الذي نصّب نفسه على الوجود قاضياً، شهد لأمثال هايدغر، بعد غيابهم، وحكم لهم نكايةً بخصومهم، لأن النصّ هو القمقم الذي يسكنه مارد الزمن، كي يقول كلمته في حقّ الشخص، برغم اغتراب الشخص كشخص، وغيابه كحرف، لأن الروح فيه تحتفظ بحقّها في التغلغل في شرايين النصّ، لتغدو هويّةً في النصّ، المعصوم بطبيعته من دنَس الحضور في حرفٍ، هو، في معادلة الوجود، باطل!