الحدث- أرشيفنا
في العدد الأول من "المنبر" مجلة الاتحاد الأرثوذكسي العربي الصادرة في القدس في كانون الثاني عام 1947، قدمت المجلة ملخصاً في أربعة محاور عن الأوضاع العالمية لعام 1946، المحور الأول كان عن السياسة العالمية وكتبه أنور النشاشيبي، المحور الثاني عن الاتجاهات الاقتصادية العالمية وكتبه باسم فارس، والمحور الثالث كان عن اتجاهات العلم وكتبه قدري حافظ طوقان. وكان المحور الرابع عن الاتجاهات الأدبية وكتبه جبرا إبراهيم جبرا.
وفيما يلي نص المحور الرابع
في متابعة التطورات الأدبية والإحاطة باتجاهاتها لا يستطيع المرء أن يحصر تفكيره ضمن حدود سنة واحدة، لأن الأدب لا ينقلب من حال إلى حال بسرعة فجائية، ولا يظهر فيه تأثير الانفعالات السياسية جرياً مع الحوادث الدولية اليومية كما يظهر في الصحافة. فالأديب يتأثر في الدرجة الأولى بالتغييرات التي تطرأ على الفرد وعلى المجتمع بفعل الحركات السياسية، ولكنه تأثر تدريجي بطيء. فإن انتشار الاشتراكية وتعزيزها في انكلترا مثلا سيظهر أثره في كتابات السنين المقبلة، كما أن تدهور ألمانيا سيؤدي إلى خلق لون جديد من الأدب في المستقبل القريب.
غير أن الاتجاه الفرنسي الآن يدل على شيء من اليأس في نفوس الأدباء، واليأس عادة يحدو بالمفكرين إلى اللجوء إلى النظريات الفلسفية التي تفعل في نفوسهم ما يفعل الدين في نفوس الأتقياء. وما من ريب في أن اليأس سيكون الملهم الأكبر في أدب العالم ما دام التطاحن الدولي قائماً، وما دامت حياة الفرد يهددها الجوع والموت. وليس معنى هذا أن الادب سيضعف ويفشل، بل كثيراً ما ينتج الكتاب أفضل كتبهم في التفرات التي تلي الحروب، بدافع الغضب والشفقة واليأس.
اليأس في نفوس الأدباء، واليأس عادة يحدو بالمفكرين إلى اللجوء إلى النظريات الفلسفية التي تفعل في نفوسهم ما يفعل الدين في نفوس الأتقياء
والحركة الأدبية الجديدة في فرنسا (وهي تنتشر رويدا في غيرها من البلدان) تدعى "الوجودية"، يعتقد أفرادها في أن الغرض من الحياة هو أن يحياها المرء كما هي، بؤسها ونعيمها، ولذلك فعلى الفنان أن يعالج تجارب الإنسان (وهي مادة الأدب) دون أن يعلل ويدافع ويهاجم، بل محاولاً أن يجعل منها أشكالاً فنية، يكون للبؤس فيها قدر ولذة كما للنعيم، ويهمل الكاتب فيها دراسة الماضي، كأنما كل ما حدث كان لا بد أن يحدث ومن العبث دراسة الأسباب والنتائج لأنها لن تفسر شيئا.
وممن أهم ما حدث في أثناء هذه السنة موت ه. ج. ولز، يائساً ساخطاً، بعد ان كتب بضعة كتب في السنين الأخيرة ملأها تشاؤهماً عن مصير الإنسان، في حين كان قد قضى أكثر من عمره متفائلاً، مؤمناً بالعلم وبالخيرات التي سيجلبها العلم إلى الإنسانية. غير أن زميله القديم في الاشتراكية برنارد شو، أفصح عند بلوغه التسعين في أواسط السنة الماضية أنه ما زال يعتقد أن الاشتراكية ستعم دول العالم، وأنه حين تعم الولايات المتحدة أيضاً (بتأثير هنري والاس) لا يرى خوفاً كثيرا على الإنسانية.
ولكن الدص هكسلي- ولعله أعظم روائي انجليزي حي- لكرهه الحرب قد عرج على الفلسفة والدين وما زال هناك. كما أن أودن، أبرع الشعراء الشباب الإنجليز، يعيش في أمريكا معبرا عن قلقه الشديد على المدنية الراهنة.
وقد اجتمع منذ بضعة أشهر نفر من أبرز الكتاب الأوروبيين في مؤتمر ثقافي في جنيف للبحث في المحافظة على نور المدنية ونشره في العالم. كان من بينهم الفليسوف الفرنسي دي روجمون، والشاعر الإنكليزي ستيفن سيندر، والروائي الإيطالي سيلوني، والكاتب الكاثوليكي الفرننس جورج برنانوس، والكاتب الألماني كارل ياسبرز، وغيرهم. وقد برهنوا في أقوالهم على خطورة دور الأديب في كفاح المدينة، فقال برنانوس مثلاً: "ليس في أوروبا اليوم سوى حقيقة واحدة، وهي السوق السودءا. لقد أصبحت هذه مدينة الأيادي: أيادٍ للتسول، وأياد للأخذ وللسرقة، بدلاً من أن تكون مدنية للأرواح. فالآلات أياد من هذا النوع، والقنبلة الذرية يد أخرى غرضها سحق العالم. ولماذا تكون لدينا قنبلة تهدم مدينة كاملة في دقيقة واحدة، ولا تكون لدينا آلة لبناء مدينة كاملة في نفس الزمن؟ أن العالم لن تنقذه الآلات والجماهير الشعبية لن ينقذ العالم إلى الرجال الأحرار.."
ولكن روسيا تصر على أن يكون الأدب موجها نحو الشعب، خاليا ًمن النزوات الشخصية التي لا تهم أغلبية الناس (مع أنها كثيرا ما تكون أقرب إلى حقيقة الفن من غيرها)، وان يكون "الوطن" موضع تغظيم الكتاب والشعراء والفنانين. وبين كل حين وآخر نسمع عن فصل كاتبين أو ثلاثة عن "مجلس الأدباء" بتهمة الانصراف عما يتطلبه الشعب السوفيتي. غير أن هذه السيطرة السياسية المباشرة قد أرهقت الأدب الروسي الحديث، فلم يظهر في أثناء العشرين سنة الماضية كتاب روسي ذو مكانة عالمية، لأن الدعاية لا تخلق الفن.
إن مسؤولية الكاتب الأديب اليوم هي أن يكون حراً في التفكير، وبذا يترك أثره في مجرى الحوادث بقدر ما تترك الحوادث في نفسه، وأن يكون رسول سلام في عصر قلق واضطراب، لكي يساعد في سير المدنية. واليأس الطاغي الآن قد يؤدي أخيرا إلى عصر روماني أشبه بالثلث الأول من القرن التاسع عشر. فقد ثبث في أثناء الحرب الأخيرة أن شقاء الناس صرفهم أكثر من أي مرة من قبل إلى الفنون بأنواعها، وإلى تفهم الجمال فيها، لأن الفنر أقرب إلى النفس من الجزع. وحرية التفكير تطلق الخيال من أغلاله، والكاتب الذي عرف تخبط النفس البشرية في الألم لا بد أن يجد يوماً طريقة لنجاتها ولو مات هو نفسه يائساً.