الخميس  21 تشرين الثاني 2024

عن قيمة التدوين للذاكرة .. فعلُ رواية "العاصي" للأسير سائد سلامة

2023-04-17 11:29:45 AM
عن قيمة التدوين للذاكرة .. فعلُ رواية

تدوين- رولا سرحان

إذا ما التفتنا عشرين عاماً إلى الوراء، وتتبعنا حركة النتاج الأدبي في فلسطين، فإننا سنلاحظ ذلك الحضور الكثيف لروايةٍ يكتبها الأسرى من داخل السجون، والذين يُعيدون صياغة السجن ويحوِّلونه إلى مكانٍ للفعل الثقافي عبر المساهمة في إنتاجِ السردية والحكاية الفلسطينية، والأهم مكانا لفعلِ تدوين الذاكرة، ذاكرة ما حدث مثلما يحدثُ الآن. ويتجلّى أمام القارئ الملم بالأدب الفلسطيني عموماً، والذي يتصدر مشهديته بقوة وعزم أدب الأسرى في السجون، أن هنالك نمطاً من الإنتاج الروائي المتتابع الذي تبدو فيه الرواية حاجةً أكثر من كونها مجرد شكل أدبي. وتنبعُ تلك الحاجة من اختفاء الرواية الأصلية بما هي حكاية وسرد عن فلسطين والفلسطيني، والذي كان وما زالَ فعلَ سلبٍ قسري نتيجة الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وإما قمعًا بفعل ممارسات سلطة منقوصة تُعين نفسها حارس بوابة الذاكرة والهوية والقيم. وتبدو الحاجة إلى الرواية ضرورة لأنها تعبيرٌ عن زمن الصراع؛ فتصبح الرواية فضاء مقارعة، يحدد فيها الكاتب ملامح الصراع بين زمنين، وذاكرتين، ونمطين من الأخلاق والقيم. إذ تصبح الروايةُ أسلوبا تعبيريا أو خطاباً يعبر عن خبرةٍ فردية كما جماعية في آن، تنطقُ بالكلمات المصمتة، وتحدث خرقاً وفرقاً في معرفة الفلسطيني لنفسه وزمانه، فتصبح الرواية طريقا للمعرفة مثلما المعرفة شرط الكتابة.

في رواية الأسير سائد سلامة "العاصي"، الصادرة عن دار الفارابي نهاية عام 2022، نتحرَّك مع الراوي، كأننا نرى مشاهد تفصيلية بصورة قلمية عن لحظات تساءلنا عنها كثيراً: ما الذي يشعرُ به المطاردُ وهو مطاردٌ، هل يشعرُ بالبطولةِ التي نكسوه بها، هل يشعرُ بالخذلان الذي نرميه به؟ هل لسؤال عن جدوى الفعلِ معنى بالنسبة له؟ ومتى يكبرُ سؤال الجدوى ويبتلعُ المطارد؟ تحكي رواية سلامة قصة شاب فلسطيني، يُسميه "ساري" ونكتشفُ في نهايةِ الرواية أن اسمه "عاصي"، قرر أن يقوم بعملية فدائية بالقرب من إحدى المستوطنات الصهيونية، فقتل مستوطناً، وأصبحَ مطارداً. ذلك هو الخط الروائي المركزي في القصة، والذي تَشتقُ منه حياة "العاصي" لحظاتٍ عادةً ما نسردها بتلك الطريقة المختزلة البسيطة.

في رواية سائد سلامة، يأتي التفصيلُ ليكون تدويناً لما يحدثُ أو يمكن أن يحدث مع كل مطاردٍ، فيقرأ النص كحالةٍ فردية خاصة، وكحالة جماعية عن المطاردية والمطاردين. وهو نص لا يقرأ نفسياً فقط بل يُقرأ سياسياً كما اجتماعياً وتاريخياً، لأنه يوثق ذاكرة الفدائي عن لحظاتٍ عادةً ما تُنسى لأن المطارد أخذها معه أو لم يكن هناك من يدوِّنها. كما أن رواية سائد سلامة لا تقرأ باعتبارها نصاً أدبياً، وإن كانت كذلك، وإنما تُقرأ باعتبارها فعلاً. فهي تقدم على تدوين لحظة الآن كحدث سيكون له محلُّه في الذاكرة. إذ يتماسك الحاضر ويصبح أكثر وضوحاً عندما يكون قادراً على الحضور من خلال أحداثه عبر التدوين، أي المقدرة على رؤية الحاضر بأدواته ومشاهده وحكاياته، دون الحاجة لإسقاطات من الماضي أو لاستخبارات تراثية أو فلكلورية بطولية. إذ هناك خلق للبطولة في زمنها المشتق مما يحدث الآن، لأن ما يحدث الآن حادٌ وقوي ولا يمكن تجاوزه إلا بنفي شرطه التاريخي الذي يتحكم فيه، فلا يعود بمقدور البطل تجاوزه، إلا بتجاوز ذاته المقموعة لتحيى البطولة.

لذا تستدرج الرواية علاقة تصويب ما بين الواقع والمفترض به أن يكون واقعا، فهي بذلك روايةٌ عن الذاكرة الوطنية السوية. وقد يبدو الكلام منمقاً أو إسقاطًا من إسقاطات رغائبية الكاتبة، غير أن الحالة الفلسطينية التي تتلبسها ذاكرةُ النسيان المفروضة من أعلى، تعثر الذاكرةُ السوية على ما يسوِّغها في حركةٍ من أسفل تخلق خطوط هروبها من النسيان وتفرضُ حضورها، غير ملتفتةٍ للذاكرة الرسمية الخطابية فقيرة المدلولات. فهي لا تغطي العفن الأخلاقي بل تصوب النظر نحوه وتجلِّيه. تُصبح الذاكرة المدونةُ الآن أرشيفاً مستقبليا لأجيال ستقرأ عن لهاث المطارد عن بطولته وخذلانه. توثق لما ننساه في كل مرة ونتذكره عند وقوع الحدث نفسه مرة أخرى، عندما نُحيِّي البطولة الآن وننساها غدا ونتذكرها أو لا نتذكرها بعد غد. هي تدوينٌ ممتدٌ ما بين مطاردة ومطاردة بين فدائي وفدائي. توثيق لانفلات الزمن بينهما. لا شيء فيها عن المستقبل، وكلها عن المستقبل، فالآن حاضرٌ لا معنى له، ويصبحُ معناه متحققا فقط عندما يكون بالإمكان التضحية بالآن لشراء زمن قادم أو اختيار بيعه. تلك المفارقة أو التجارة الخاسرة وذلك هو التضاد بين من يشتري زمن الآن بثمنٍ بخس ومن يشتري المستقبل بثمن هو حياته أو حريته.

البطل المغترب داخل الزمن

تدون رواية سائد سلامة لحالة اغتراب البطل الذي لايجد له مكانا يقيمُ فيه في الذاكرة إلا لحظات قليلة ليأخذه النسيان وينساه. فيتحدث المطارد باسم المطاردين الذين يدخلون حالة الاغتراب في مجتمعهم الذي يستفيقُ لحظة من قمع ذاكرته ويدخل في النسيان من جديد.

يسيرُ الزمن، عند "عاصي" سائد سلامة، في دائرة صفرية، يحاول فيها البطل إحداث قفزات خارجها. فالزمنُ مقيد مسيطر عليه، ويكبل الروح التي تشتاق لانسجامها مع نفسها وموضوعها حين لا يحتاج البطل لأن يكون بطلاً، لأنه ما من انفصال بين المعنى والحياة المعيشة، أو بين الذات والموضوع؛ فهنالك علاقة اكتمال أو في أقل تقدير محايثة. يبحث البطل عن الحقيقة التي لا زمن لها الآن؛ يطاردها فيصيرُ مطارداً، حتى يتم اعتقاله من جديد داخل الزَّمن المأسور في صفريتة، وفي قواعده الموضوعة له. يظل البطل مغتربا داخل هذا الزمن الذي لا يعنيه فيتنازل عنه، مثلما فعل "عاصي" عندما تنازل عن ساعته لغريبةٍ التقاها في سيارة الأجرة، ومثلما ساقها القدر لتبعث له برسالةٍ تشرحُ له فيها عن ضيق الزمن المتبقي له وإطباقه عليه.

ويتسع الواقع الطارد للمطارد ويمتد فلا يرى المطارد نهايةً لمطارديته، إذ يدخلُ في زمن مفرغ من الزمن يقاس باللهاث والهرب والركض والاختباء والاحتماء والألم والشعور بالذنب والاستسلام والبطولة التي تنوس بين كل هذا الجري الذي يجريه. فيعيش المطارد في حدين لزمن الموت: زمن الموت المباشر أو زمن الموت البطيء. ما بين الزمن الأصل، زمن الفكرة الشجاعة والبريئة؛ والزمن السياسي المتلاعب به والمشوه والذي يصيب حركة الزمن بخلل واعتلال، فهو لا يتقدم إلى الأمام ولا يُريدُ العودة إلى الماضي، إنه الزمن صفر الذي يدخل في التكرار العقيم الذي لا يخلق تراكما نحو الأمام بل يخلق ثقلا فوق جسد الآن.

إنه زمنٌ متسارعٌ باتجاه الطرد، ولكنه طردُ الضحية لنفسها. إذ يجبُ الوصول إلى لحظةِ الفداء المقلوب، أي اللحظة التي يتم تحويل البطل إلى كبش فداء، لكن دون خلاص. فالواقعةُ أو الحدث الذي وقع على شكل فعل مقاومٍ، يُصبِحُ له تداعياته في السياق الاستعماري، الذي يعيشيه الفلسطينييون، وبالتالي، يُصبِحُ متوقعاً أن ردة فعل المستعمر ستكون على شكل أعمالٍ انتقامية، طالما ظل منفذ العملية طليقاً. بالتالي، ينزعُ الكثيرون إلى تبني خطاب اللاجدوى في الفعل، أي أن على المطارد أن يسلم نفسه، أن يقدم روحه فداء خلاصياً من تداعياتِ فعلٍ كان يرادُ منه خلاصُ الجميع، لكنه يُصبحُ خلاصاً من المُخلِّص. فالضحيةُ لا تريدُ أن تكون ضحيةً، بل تُريدُ أن تكون هنالك "ضحيةٌ بديلةٌ" تحلُ محلها، لأنه ما من جدوى من لعبِ دور الضحية، عندما تكون النتيجةُ مرتبطةً بحسابات الربح والخسارة المادية الآنية.

الزمن الصفري ما بين االهزيمة والمنبوذ/العاصي

تملأ الخسارة والهزيمة الرواية، فالبطل الساري يحاول أن يمشي في زمن يتقدم صفريا في حين أن دوره كبطل في تراجع. لأن الكل يرفضه، ويلفظه ويعتبره زائدا عن حاجة مجتمع قيمه تبدلت، وتحولت إلى قيم استهلاكية آنية، لا يعنيها ما بعد ما هو قائم الآن. حيث تعتبر الفاعلية الوطنية في حدثها المقاوم ضربا من المغامرة الخاسرة التي لا جدوى منها والتي يجب أن تنبذ. هنا تدخل المنبوذية في علاقتها بفكرة العصيان التي يطورها الكاتب في حوارية ما بين ساري/عاصي وما بين نابذيه الذين يعانون من تراخ في وعي الزمن وقيمتهم داخله. فالعاصي حرون غير قابل للترويض، ولأنه كذلك يصبح منبوذا في مجتمع تم ترويضه بشكل مسبق. حيث اختفى مفهوم البطولة كمعيار أخلاقي ووطني وتحول إلى مجالٍ للشك والتساؤل. ليقع الفعل البطولي في مصيدة سؤال الجدوى والغاية والهدف وإمكانية التغيير. وليتم الانصياع لزمن لا بطولة فيه. فبعد أن كان البطل في زمن الثورة كاملا ومثاليا ورمزا، تحول في زمن السلطة الجديد إلى منبوذ تعوزه الحكمة والتفكير المنطقي، بل يمكن وصفه بالأنانية، كما فعل سائق التاكسي مع ساري /عاصي عندما انتقد ما فعله. بحيث يصبح فعل البطولة فعلا غير سوي في زمن غير سوي. وهو حسمٌ مليء بالخسارة المسبقة، حيث يقتلُ الفعل المقاوم قبل أن يولد بسبب سلخ البطل عما يمكن أن يكون فعله البطولي، ليصبح الحاضر خاسرا والمستقبل أيضا وإن لم يأت بعد.

البطولة في مكانها السَّوي

يفصِحُ سائد سلامة في روايته عن الطبيعة السوية للفلسطيني. فغاية الرواية إن تقصيناها هي غايةٌ تصحيحية بالأساس لما أصاب الذات الفلسطينية من خلل، بدءا من عنوانها الذي برفضُ التيار السائد ويرى ضرورة عصيانه والتمرد عليه، حتى النهاية حين  ينتصرُ سائد سلامة للبطل بانتصاره لفكرة تدوين الحكاية، جاعلاً لفعله عودةً لمكانها الصحيح، رغم نهاية المطارد المعروفة مسبقاً وهي إما الشهادة أو الاعتقال. وفي حالة "ساري" الذي اعتقل، حفز تدوين حكايته، على يد صحفي، قارئا مجهولا نصادفه في نهاية الرواية على اتباع خطى الـ "عاصي"، لتعود البطولة إلى مكانها السوي حين يتجدد الفعل المقاوم على يد قارىء جديد، أخذ بحكايةِ ساري-العاصي المدونة، التي أصبحت وعياً بالتغيير الممكن الذي ينتقل من فرد إلى آخر حتى يكوِّن أفراداً فمجموعات ومن ثم جماعة يعبر عنها ليصبح وعيا عاماً.

وتلك هي قيمة التدوين للذاكرة.