تدوين- ثقافات
كان الأديب الراحل غسان كنفاني يكتب، أيضاً المقالة، بل والمقالة الساخرة، والنقدية. فإلى جانب كل عمله الموزع ما بين الكتابة الروائية، والكتابة القصصية، وعمله الصحفي، وكتاباته النقدية، وتعليقه السياسي، كان غسان كنفاني يفيء إلى ساحة يتحرر فيها من عبء كل ذلك، فيتخفى تحت اسم مستعار هو "فارس فارس" يكتب في "ملحق الأنوار" الأسبوعي، ومن ثم في مجلة الصياد، مقالات ساخرة تحت عنوان عام "كلمة نقد" وذلك منذ أواخر العام 1967. كانت تلك المقالات طرازاً فريداً من النقد الأدبي العربي، يتناول فيها الأعمال الأدبية والفنية والفكرية والمفاهيم، بسخرية ضاحكة، وأحياناً جارجة مقذعة. لكن المدقق سيلحظ في النهاية أن هذه التقذيع والتجريح ما هو إلى نقد جدي للسخف والضحالة التي تعتري العمل الثقافي في حينه.
وقد اخترنا لكم في تدوين، هذا النص الذي كتبه، تعليقاً على ديوان للكاتبة والباحثة والأستاذة الجامعية ثريا ملحس، والذي حمل عنوان "محاجر في الكهوف".
وفيما يلي ما كتبه كنفاني، ويعد مقاربة مفيدة لمناقشة الشعر عموماً:
لنقرأ بعناية ما يلي:
"لو التفتنا إلى الوراء، مع العقل، مع عصرنا، لأطعمنا علومنا نارا ونورا، لحقنا حضارتنا دما جديدا، لظللنا في مستوى الوجود. لضحينا لأمة تسود، لا فرق بين أنثى وذكر، لو كان لنا إنسان جديد لسانه عربي في مستوى الوجود، حدودنا مصطنعة، منذ سنين نادينا بالزوال، بالقول، لا بالفعل، نادينا.. بأصوات الحناجر، لا بالعلم الصامت الباني، وبقينا نجتر آمالنا، ونلسع بالسوط ظهور صبياننا وبناتنا، هم أس الحياة وهن عار عليا"
إننا متفقون على أن هذا الكلام محاضرة جيدة، ووجهة نظر قد توافق عليها أو لا توافق ولكنها مكتوبة جيدا. ومع ذلك فليس هذا هو الموضوع، إن المؤلفة تقول إن ذلك الكلام هو شعر.
ونحن، حين ثبتنا ذلك الشعر أعلاه، لم نفعل إلا أن وصلنا "شطرات الأبيات" المفترضة ببعضها، فحصلنا على النص الوثائقي الذي قد يكون له علاقة بالمنطق وبالعلم السياسي، وبعلوم الإحصاء، أو ربما باستراتيجية الحرب الشعبية، أكثر مما له علاقة بالشعر!
ورغم ذلك فإن ثريا ملحس وهي الكاتبة التي نحترمها ونقدرها، تصر على أن الـ 400 صفحة من الورق المصقول والحجم الكبير هو شعر، ونحن نصر – بدورنا- إنه ليس كذلك، ومع هذا فنحن نعتقد أننا لو اعتبرناه نثرا فإن ذلك لن ينال من قيمة ما ورد فيه.
هنالك كما يبدو علة كبيرة لدى كتابنا، وهي اعتقادهم أنهم إذا أطلقوا على شيء ما اسم شعر فإن ذلك يعتبر بمثابة جواز مرور إلى المجد. لماذا؟ الشيطان نفسه لا يدري، ولكنه يطيب لنا أن نسمي هذه الظاهرة" بالظاهرة الجاهلية" حين كان الناثر يعتبر شخصا عادياً.
إن هذا "الاحتقار" للنثر يدفع ببعض كتابنا إلى صنع طائرة شراعية يسمونها "قصيدة" كأن المشكلة تكمن في التسمية، وأنا شخصيا لا أعرف لماذا لا يكون النثر أحيانا وغالبا أروع من الشعر، وهل من الضروري أن يقطع الكاتب سطوره إلى أنصاف ثم يطلق عليها اسم شعر؟ وهل تستطيع التسمية أن تعطي الشعر صفة النثر أو النثر صفة الشعر؟ إذا كان الأمر كذلك فكيف استحق ماركس وانغلز كل ذلك المجد مع أن "البيان الشيوعي" ليس قصيدة؟
بين يدينا الآن "محجر في الكهوف" لثريا ملحس، إنه شعر، كما توحي الكاتبة لنا، ولكننا نحن لم نر في المجموعة كلها من الشعر إلا قيدا ثقيلا جدا على حرية المؤلفة في أن تقول ما تريد نزولا عند إرادة القافية في الكتاب، هي نوع من السجع البدائي أكثر مما هي قافية شعرية، لأن الوزن معدوم، أو على الأقل لأن جرس الوزن غير محسوس على الإطلاق، وفي هذه الحالة فإن كل العناصر الجمالية التي تحملها القافية إلى العمل الشعري مفقودة وبدلا منها توجد القيود الغليظة التي يفرضها لزوم ما لا يلزم.
اسمع:
" ورحت أعدو في الطريق القديم وفي فؤادي ألف جرح أليم. أمي! صرخت مع عويل الرياح، كتمت صوتي، لا أصدق الصياح، هلعت أبكي صامتا كالذبيح، يا ليتني شرعت حرفي الصحيح، في الوجه وجه الموت ذاك الصفيق، انسل كاللص الخفي العتيق"
إن "القافية" لم تفرض فقط كلمات في غير أماكنها "الذبيح... العتيق.. إلخ" ولكنها أيضا فرضت خروج المؤلفة عما تريد قوله، وفي النتيجة فإنها لا تقول شيئا: في البدء تمد يدها نحو القاموس لتنتقي الكلمات المناسبة، ثم لا تلبث أن تغطس في ذلك القاموس ولا تستطيع الخروج منه.
إن يعذرني أولئك الذين يتمسكون كثيرا بتقاليد "آداب النقد" المهترئة فإنني أعلن ها هنا على رؤوس الأشهاد، أن شعرا رومانطيكيا من هذا النوع، لا هو بالشعر ولا هو بالرومانطيكية، وكذلك فهو غير مؤقت توقيتا جيدا، ينبغي ألا ينشر، وألا يقبل.
وإذا كان "محاجر في الكهوف" هو بلا تردد من ذلك النوع من "الشعر" الذي يغرق الأسواق هذه الأيام، فإن هذا لا يغفر للكتاب، ولكنه يدين البقية أكثر!
لقد استمعنا كثيرا إلى نثر "ثريا ملحس" وهو نثر جميل وجيد وله مستوى رائع، ولذلك فإنه من حقنا أن نقول لها" دعي الشعر جانبا! إنه ليس وساما إلا لأولئك الذين يصلون فيه إلى القمة.. لقد كنت دائما كاتبة من الطراز الأول، فلماذا هذا "الانتحار الذاتي"؟
إنني قارئ ممتاز – أعترف، فهذا هم! ومع ذلك فإنني أعترف أيضا أنني لم أفهم شيئا من الأربعمئة صفحة التي اسمها "محاجر في الكهوف" وكنت أفضل لو أنني قرأت عشر صفحات لها معنى، وليكن اسمها ما كان، فليس يعنيني بعد أن تكون التسمية "شعرا" إن ذلك يشبه رجلا يحمل تذكرة نفوس مزورة!
7/1/1968