تدوين- سوار عبد ربه
أنشئ المخيم كواحد من التجليات المرة التي أفرزتها النكبة، وحضر كمكان قسري ضم ملايين اللاجئين الفلسطينيين حول العالم، فلسطينيا في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وعربيا في سوريا، لبنان والأردن، إلى جانب تشتت العديد من الفلسطينيين حول دول العالم الأخرى. وعلى مر التاريخ، شهدت مخيمات اللجوء الفلسطينية أحداثا ارتبطت بشكل أساسي في قضايا مفصلية جرت في البلدان المضيفة، كمذبحة مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في لبنان، إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) في 12 آب 1976، التي ارتقى على إثرها 4280 شهيدا بالإضافة لآلاف الجرحى ومئات المفقودين بعد حصار دام 52 يوما فرضته المليشيات اليمينية المسيحية اللبنانية على المخيم.
مذبحة خلفت عشرات الأطفال الأيتام، الذين استشهد ذويهم في أعقابها، إلا أن هؤلاء الأطفال الأيتام وجدوا الرعاية الاجتماعية الكاملة في مؤسسة عرفت باسم بيت أبناء الصمود، التي أنشئت بمبادرة من الأمانة العامة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية وعدد من الأخصائيين بعلم النفس والتربية والخدمة الاجتماعية فلسطينيين ولبنانيين، عام 1976.
وفي لقاء خاص مع تدوين قال المدير العام لجمعية أبناء الصمود قاسم العينا، والذي عمل في مركز التخطيط بالقسم التربوي الاجتماعي في المؤسسة منذ بداية تأسيسها، إن بيت أبناء الصمود، هو مؤسسة حظيت بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، واهتمام خاص من قبل الشهداء ياسر عرفات، وأبو إياد، وأبو جهاد، الذين لم يتأخروا يوما عن دعمها، لأنهم رؤوا فيها صورة عن فلسطين في لبنان.
وأضاف: "هذه المؤسسة ضمت أطفالا من جنسيات مختلفة كما كانت الثورة الفلسطينية تماما، والعامل المشترك بين هؤلاء الأطفال أن كلهم فاقدي الوالدين".
وعن نشأة المؤسسة أوضح العينا، أنه كان من الأشخاص الذين شهدوا مذبحة مخيم تل الزعتر، لأنه كان لاجئا فيه، وبفعل الحصار الذي فرضته الميليشات الإرهابية على المخيم، توجه إلى الأمانة العامة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، بطلب لتقديم المساعدة لأبناء المخيم، خاصة أولئك الذين فقدوا والديهم، وبدورها بادرت الأمانة العامة بفكرة تأسيس بيت أطفال الصمود، وتم الاتفاق على النظام الرعائي كي يعيشوا الأطفال في البيت كأسر، وليس كأرقام أو أيتام، وفي حينها، عرض المشروع على القيادات الفلسطينية، ونال موافقة على الاستمرار بالتأسيس، وحظي بالدعم والمباركة منهم.
وأنشئ بيت أطفال الصمود عام 1976 في منطقة بئر حسن القريب من مخيم شاتيلا، وأتفق على ألا يكون ميتما تقليديا كونه يضم أبناء شهداء الثورة.
ويرى العينا في إنشاء البيت، ردا حضاريا للثورة الفلسطينية على المجازر الإرهابية، لأنه استقبل أطفالا من كل الجنسيات والأديان، يجمعهم حالة اجتماعية واحدة وهي أنهم فاقدي الوالدين.
وشكل بيت أبناء الصمود تجربة مميزة في العالم، وفقا للعينا، لأنه عكس فكر الثورة في ذلك الوقت، كما أنه لم يكن كنظرائه من المؤسسات المعنية بالشأن ذاته، فلم يحول الأطفال إلى أرقام، إنما عمل على تقديم الرعاية الاجتماعية الكاملة لهم، دون عزلهم عن العالم الخارجي، فالتحق هؤلاء الأطفال بالمدارس، وكانت لهم ارتباطات خارجية، كما أن الفتيات اللواتي أشرفن عليهم كن من المتعلمات في المخيمات، وخضعن لدورات تدريبية كي يتمكنّ من الإشراف عليهم بشكل صحيح.
واستمر عمل البيت حتى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، ثم انتقل الأطفال إلى المدينة التعلمية لأبناء شهداء ومجاهدي فلسطين في دمشق، وظلوا هناك مدة عامين، ولاحقا ذهبوا إلى تونس، وهناك استضافت الماجدة وسيلة، زوجة الرئيس الراحل الحبيب قيبس 60 طفلا من بيت أطفال الصمود على نفقتها الخاصة، وهناك سمي المكان ببيت أطفال الصمود -دار الكرامة، واستمر حتى عودة القيادة الفلسطينية للأرض المحتلة، وفقا للعينا.
ويرى أمين عام المؤسسة في هذه التجربة المميزة أنها كانت بمثابة واجب وطني تجاه أبناء الشهداء، ونظرا لحرص القائمين على البيت بتوفير أكبر قدر من الرعاية والاهتمام، تأسس في البيت فرق فنية وتراثية، لحفظ التراث الفلسطيني والمحافظة على الهوية من خلال الثقافة التي أولتها اهتماما خاصا.
بيت أبناء الصمود اليوم .. مؤسسة مستقلة
وفيما بعد تحول بيت أبناء الصمود إلى مؤسسة مستقلة وفقا لمديرها العام قاسم العينا، مسجلة في لبنان باسم المؤسسة الوطنية للرعاية الاجتماعية والتأهيل المهني، وهي مؤسسة وجمعية لبنانية تخضع لقانون الجمعيات اللبناني، وتقدم تقاريرها المالية لوزراة الداخلية وأعضاء الجمعية ككل الجمعيات في لبنان، ولم تعد تتلقى أي دعم مادي من أي جهة فلسطينية أو عربية، إلا أنها أبقت على الأهداف الأساسية التي أنشئت المؤسسة لأجلها، وهو خدمة الفلسطينيين وحفظ كرامتهم دون أي تمييز سياسي، ولها مراكز في كافة المخيمات الفلسطينية في لبنان. كما حافظت المؤسسة على الجانب الثقافي، من خلال الفرق الغنائية وفرق الدبكة وغيرها المنتشرة في كل المخيمات.
عام 1977، أسس الفنان والشاعر والملحن الفلسطيني عبد الله حداد، فرقة أبناء بيت الصمود – أبناء الشهداء، التي قدمت مجموعة من الأعمال والمشاركات الفنية التي تناولت القضية الفلسطينية بمختلف جوانبها كلمة ولحنا.
وكان من بين الأسماء العاملة بالفرقة، السيدة دلال شحرور، التي تتبعت في لقاء خاص مع تدوين نشأة المؤسسة وحضورها في الجانب الفني الثوري آنذاك.
وقالت شحرور، إن واحد من أهداف مؤسسة بيت أبناء الصمود، العمل على إحياء التراث الفلسطيني، من خلال إنشاء فرق فنية للدبكة والغناء، وبناء عليه تأسست الفرقة بالتازمن مع إنشاء المؤسسة.
وشكلت الفرقة جانبا هاما في صقل شخصية شحرور، إذ أوضحت أنها لعبت دورا كبيرا على الصعيدين الشحصي والنفسي، سيما وأنها كانت من أبناء الشهداء، كما منحتها الفرقة القدرة على التعبير عن مشاعرها، والتمسك بقضيتها أكثر فأكثر، ما جعلها تنقل هذه التجربة لأجيال أخرى. وفي هذا الجانب قالت شحرور، "بعدما كبرت استملت فرقا فنية في المخيمات، ورحت أدربهم على الأغاني التي أنتجتها فرقة بيت أبناء الصمود، والتي تحكي عن فلسطين وقضيتها وقراها وجمالها، إذ عملنا من خلال الأغاني على نقل صورة جميلة عن فلسطين، ليس فقط تلك الصورة المرتبطة بالدم".
وبحسب شحرور، ساهمت هذه الأغاني في الإبقاء على فلسطين حاضرة في ذهنية الأطفال، الذين كبروا وأخذوا بدورهم ينقلون تجربتهم لجيل آخر، وباتوا اليوم في الصفوف الأولى في الاعتصامات والمسيرات والتظاهرات، ذلك لأن الكلمة واللحن استطاعوا أن يخلقوا صورة عن فلسطين بشكل أقرب وأسلس، وجعلتهم منخرطين بهذا النهج الذي أعطاهم دافعا ليكونوا فاعلين في هذا الجانب وأن يكونوا صوتا للقضية في أماكن تواجدهم.
وفي رصيد الفرقة ما يزيد عن 20 أغنية، عمل الباحث الفلسطيني فادي عبد الهادي بمشاركة مجموعة من أعضاء الفرقة على رصدها بين دفتي كتاب "عبد الله حداد القصائد الغنائية"، وموضوعاتها كلها مرتبطة بقضايا وطنية وتراثية وقضايا المقاومة.
واستمر عمل الفرقة حتى عام 1982، ونتيجة للعدوان والحرب الشرسة على لبنان عام 1982م لضرب وإضعاف الثورة الفلسطينية سرعان ما انتقل كامل طلاب المؤسسة والفرقة إلى سوريا حيث أمضوا أغلبهم لمدة عامين هناك، قبل أن يعودوا مرة أخرى للبنان وانتقل جزء منهم إلى تونس مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهناك أطفال البيت فصلا جديدا من فصول التماسك الفلسطيني في أبهى صوره.
ومع انتقال منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، راح جزء من أطفال بيت الصمود رفقتها إلى العاصمة التونسية، وهناك عملت المنظمة على إقامة مدرسة خاصة بهم، وبيت كبير للإقامة، إلا أنها لم تعد تفي بالغرض لاستيعاب كافة الأطفال، فتم توسيعها فيما بعد، وأصبحت مدرسة خاصة للفلسطينيين في تونس.
وفي هذا الجانب قال أحد مدرسي مدرسة القدس في تونس، محمد أبو حميد، في لقاء خاص مع تدوين إن فكرة المدرسة تبلورت من الحاجة لأن يبقى هؤلاء الأطفال الفلسطينيين محافظين على هويتهم الفلسطينية الخاصة، بالإضافة لضرورة تربيتهم والحفاظ على خصوصيتهم وتوجيههم وطنيا وتربويا، لذا تم توسيع المدرسة لتشمل أبناء الصمود، وأبناء الفلسطينيين المقيمين في تونس.
والتحق أبو حميد في المدرسة بعد عام من تأسيسها، وبلغ عدد الطلبة أكثر من 1000 طالب، معظمهم من أبناء الفلسطينيين المقيمين في تونس، إضافة إلى أبناء الصمود الذين أتوا من بيروت ومن دمشق.
وبحسب أبو حميد، تم الاتفاق على اعتماد مناهج تدريسي قريب من المنهاج الفلسطيني، فوقع الاختيار على الأردني، والتحق بهذه المدرسة العديد من المدرسين الأكفاء، وحققت نتائج جيدة وطموحة، وتخرج منها خلال 11 عاما، العديد من الطلبة الذين تمكنوا من شق طريقهم بنجاح.
ويرى المدرس، أنهم بهذه التجربة تمكنوا من الحفاظ على هؤلاء الطلاب ضمن السياق الفلسطيني، وكان لتجميعهم في مدرسة فلسطينية خصوصية هامة جدا، وإيجابيات كبيرة أدت إلى تماسك هؤلاء الأطفال.
وعمل المدرسون على تنمية الشخصية الوطنية الفلسطينية وغرس جذور الانتماء الوطني وتعزيز الهوية في نفوس هؤلاء الطلبة، وفقا للمدرس.
وبحسب أبو حميد شكلت مدرسة القدس في تونس، ظاهرة نبيلة، استطاعت أن تحافظ على تماسك الشعب الفلسطيني وأن تخلق نوعا من التقارب، بين هذه الفئة من أبناء الشعب الفلسطيني.
وأشار أبو حميد إلى أن المجتمع الفلسطيني تماسك في تونس بفعل علاقات الطلبة مع بعضهم البعض، ذلك لأن العائلات أصبحت تعرف بعضها، ما عزز العلاقات الاجتماعية الفلسطينية بشكل كبير.
كما خلقت المدرسة وفقا للمدرس، وعي مشترك أفرز نخبة واعية لمستقبلها وقادرة على أن تشق طريقها باتجاه واحد ومحدد.
ولعبت المدرسة دورا هاما في صقل شخصية الطلاب من خلال خلق تفاعل بين الطلبة والوعي بدورهم، إذ عمل المدرسون على إشعارهم بأهمية وجودهم وتعزيز ثقتهم بنفسهم، بهدف بناء شخصية سوية أسهمت في جعلهم يذهبون باتجاه الإبداع.