تدوين- بتول عدوي
إن الهدف الظاهر من الرواية الفلسطينية هو سرد الأحداث بصورة متسلسلة ولكن ما أحاول طرحه هو التساؤلات عن كيف ولماذا؟! نبدأ بفهم النظرية السوسيولوجية للمقاومة الفلسطينية، كيف توارثت ولماذا تراجعت؟ وكيف تنامت من جيل إلى جيل؟ أن نعرف كيف أكلت أكتاف البلاد.!
أرض العزم والعزائم؛ لم تبق على عهدها، انجرفت مع كل فجر جديد، تغيرت فيها الحدود وتلون فيها الأسود، وما بين حرب وسلام بقيت الأرض شاهدة على اندثار روايتها من زمان إلى زمان، لم تعد البيوت على حالها ولا الطيور على أشكالها تقع، منذ نعومة أظافرها وهي أرض الملاحم، المنصهرة من جيل إلى جيل، السائرة للفناء القريب، القابضة على جمر الحياة أو الموت، ومن خلال هذه المقالة أحاول توضيح التحولات السوسيولوجية التي طرأت على المقاومة الفلسطينية وكيف توارث هذا النضال من فلاح يحمل فأسه إلى رجال يشكلون الأحزاب السياسية، إلى نساء تتغير هويتهم الاجتماعية في سبيل الحرية، وإلى أطفال يصنعون المقاومة بحجارة وبالأربيجي.
بداية الصراع ونقطة التحول في مسير الحركة الوطنية الفلسطينية وتشكل الهوية النضالية بشكل خاص؛ إن الهدف المعلن المتمثل بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين وخشية تنامي السلطة الاقتصادية اليهودية ومعارضة سياسة الهجرة الجماعية وشراء الأراضي الفلسطينية، كانت نتيجتهم تشكل وعي ذاتي وطبقي للشعب الفلسطيني حول السياسات المستهدفة للأرض والتاريخ في أن واحد، مما أنتج عنه الاضراب العام الكبير الذي استمر من شهر نيسان عام 1936 حتى تشرين الأول عام 1939، وخلف فيما بعد ثورة عنيفة انقسمت إلى مرحلتين، فالمرحلة الأولى تمثلت بالإضرابات وأشكال الاحتجاج السياسي المختلفة لكن سرعان ما هزمت بمزيج من التنازلات الدبلوماسية السياسية الدولية، على عكس المرحلة الثانية التي وصلت فيها حدة التناقض إلى ذروتها عند انتقال المجتمع الفلسطيني من الاقتصاد الزراعي الإقطاعي إلى الاقتصاد الصناعي البرجوازي الصهيوني، في حينها فإن الحركة الفلسطينية أرغمت على تبني شكل الكفاح المسلح الذي تجلى بحركة مقاومة عنيفة بقيادة الفلاحين مكللة بالصدام الحاسم والمباشر وهنا يظهر تمركز الهوية الفلاحية البدائية والبسيطة بشكل من أشكال المقاومة لتصدي إلى جميع السياسات البريطانية من السيطرة على الأرض إلى شرائها لتصبح فيما بعد ملكاً للاحتلال الإسرائيلي وهذا ما وصفه الفلاح "خنق الأرض"، باعتبارها كائن حي لا يتنسف إلا بوجود صاحبها، فالأرض في حياه الفلاح تأتي بعد العائلة وهي المرجع الذي ينظم حياته الاجتماعية والاقتصادية وإن عملية اجتثاثها تمس العرف المتوارث بين القرى، رغم ذلك إلا أن المقاومة الفلاحية قد واجهت تنازلات وخذلان من الصفوف العربية والفلسطينية الداخلية ولكنها بقيت تقاوم ضمن دوائر جماعية وكان على الانتداب والمشروع الصهيوني أن يهزم الفلاحيين الفلسطينيين كي يستطيع تحويل أرض فلسطين إلى دولة يهودية، كما وصفت هذه الثورة على ألسنة اليهود أنها "غير أخلاقية وإرهابية".
وهنا تكثر التساؤلات عن ماهي أخلاق الحرب وما هو الإرهاب؟ وكيف لهم أن يبدلوا الوعي الكامل لحقنا وممارساتنا الفردية والشعبية في امتلاك أرضنا بثنائية الأخلاق والإرهاب؟ فكيف لنا أن نشكل مزيج من الأخلاق والثورة ضد السياسات الدولية من جهة والتخاذل من جهة أخرى؟ كيف لنا ألا نمارس الكفاح المتوارث لحماية أرضنا حتى وإن وصف "بالإرهاب" بمنطق قانون القوة والإرهاب؟
خير مثال على تفتت الأرض وبتر أنسجتها، على ضياع الهوية، اندثار السيرورة التاريخية لشعب بأكمله، التهجير القصري، تشتت ولجوء؛ تبدل الأحلام من واقع إقطاعي زراعي رعوي إلى ضبابية العيش الجديد، بقيود على الزمان والمكان وأناس ذو أعراق مجمعة وثقافة لا تمس ثقافتنا بشيء، ومصطلح جديد "الاحتلال" أي احلال شيء مكان شيء أخر إلى جانب نزع السيادة السائدة لصالحها، إن الأرض الفلسطينية هي العنصر الأساسي الذي لا يتجزأ في تشكل الهوية الفلاحية الفلسطينية وتطور معانيها، فإن الفلاح يؤمن أن أرضه هي حق أبدي له وهي مصدر الحياه يعتاش منها ويعيش معها، فالأرض الزراعية لم تعد على عهدها أصبحت هي من تشكل وتعيد صياغة أبنائها في سبيل استردادها، فالشعب الفلسطيني لم يكن يوما يفقه بمعنى الاحتلال وتجذره بالأرض وما هي ماهياته وتداعياته باعتبارها أبجدية دخيلة على اللغة.
هذا الدخيل الجديد قد شكل رؤية مستقبلية لدى الشعب الفلسطيني من بداية الاستيلاء على 78% من أرض فلسطين إلى تعثرات استرجاع "27,000 كيلو متر مربع وشوية"، فإن اختلاف أشكال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على المكان والأرض تمركز بالصراع على الحيز العام وخلق الوعي الجمعي حول السياسات الإسرائيلية المتعبة لقتل الحيز الفلسطيني من خلال أسرلته وتهويده وتغير الطابع الفلسطيني بأكمله. رغم أن الصراع الديموغرافي، يسير بشكل مبطن ومعلن في ظل التسهيلات الممنوحة للاحتلال، في المقابل فإن هذا الصراع الطويل يواجه الحضور الفلسطيني الديموغرافي المستمر والمتزايد، فأصبح يمثل هاجساً وعقبةً كبيرة أمام سياسات السلطات الإسرائيلية، ويدفعها إلى تشكيل نهج سياسات وتحديات ديموغرافية جديدة مما أوجدت واقعاً تحريراً فلسطينياً جديداً، ونسج هذا الصراع الديموغرافي خوفاً متبادلاً، بعضه واقعي وآخر متوقع أو متخيل، نطلق عليه مصطلح "الديموغرافوبيا"؛ أي الخوف من الديموغرافيا الذي يكمن في زرع قنبلة ديمغرافية لخلق فجوة كبيرة بإتباع سياسة الهجرة الجماعية لليهود وزيادة عدد المواليد وإحلال شعب مقابل نزع هوية شعب أخر في امتلاك أرضه وتغيير الطابع العام للمنطقة.
اختلاف أشكال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على المكان والأرض تمركز بالصراع على الحيز العام وخلق الوعي الجمعي حول السياسات الإسرائيلية المتعبة لقتل الحيز الفلسطيني
فإن إحداث أي تغير في الطابع الديمغرافي ما هو إلا تغير هيكلية المجتمع وإنتاج الأصلاني فيه كغريب وتبديل الواقع السياسي والاجتماعي للمكان ومن هنا تغيرت الهيكلية التراتبية للمقاومة من حال إلى حال، لم تبق تقتصر على الفلاحين وتمسكهم بأرضهم بل زادت من حدة المواجه المباشرة بين المستعمر وصاحب الأرض فالفلاحون هم ولادة المقاومة الوطنية الفلسطينية والركيزة الأساسية لانبثاق المقاومة أولاً؛ ارتبطت عملية تشكل الوطنية الفلسطينية بشكل أساسي منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى قيام "إسرائيل" على أنقاض القرى المهجرة بمواجهة الفلاحين بصورة مباشرة للاستيطان اليهودي وسياسات أسرلته للقرى، فإن طبيعة المشروع الصهيوني الذي اعتبر تملك أرض فلسطين بأكملها هو شرطاً لقيام الدولة اليهودية. وهذا ما جعل تاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين يساوي، بشكل جوهري تاريخ دفاع الفلاحين عن أرضهم، دون أن يقلل هذا من أهمية أشكال الكفاح غير الفلاحية، التي بدأت بالتشكل بعد النكبة الفلسطينية فإن المواجهة في حينها بدأت تنسلخ من الفلاح ليتوارثها "ابن المدينة، شاب في مخيم، وعجوز يحلم بالعودة إلى زكريا".
مرارة الحياة وكولونيالية العيش، تكمن الصعوبة في شرح مفهوم الكولونيالية ولكن نستطيع اختصارها بالاستعمارية الناشئة عن الرأسمالية وامتدادها "كيف تستعبد العالم باسم التحرر"؛ ومع توسع مفهوم الاحتلال وتجذر استراتيجياته في الأراضي الفلسطينية وترامي سيادته السياسية والعسكرية حتى الأطراف، نتج عنها وعي طبقي جمعي للسلطة التي يمارسها المستعمر بشكل تقني وعلني على المستعمر، والذي بدوره يبنى حالة الرفض والمقاومة تبعا لاسترداده بالقوة كما أخذت بالقوة.
إن شكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في حالة طردية أي كلما مُرس عليه القمع والاضطهاد نتج عنه مقاومة بذات الشكل وبذات الخراب، ومن هنا تبدلت الأبجدية الفلسطينية ليحملها الرجال على أكتافهم حيث بدأت المقاومة تنحدر من شكلها الفلاحي وطابعها التراثي التقليدي إلى مقاومة السلاح مقابل السلاح رجال يكرسون المقاومة يشكلون الأحزاب وينشؤون دروبا للحرية، من الشوارع الممتلئة بالحطام والدخان الأسود، ورفع المتظاهرون للأعلام الفلسطينية وصور الشهداء وتعالي الكثير من الهتافات المنددة بالاحتلال وبطشه، إلى وصول الجماهير الفلسطينية لتسطير نشاطها ومواجهتها عبر ميكانيزمات الدفاع المختلفة والتي لم تقتصر على شريحة محددة من الشعب الفلسطيني بل شملت كافة أركانه بالحجارة، حينها لعبت المرأة دوراً هاماً في شكل المقاومة حيث أن الصورة النمطية تغيرت وأصبحت المرأة جزاء من الحراك الشعبي إلى جانب الرجل رغم أن شكل العلاقة التقليدية لم تتلاشَ بينهم في ظل الثقافة الاجتماعية السائدة إلا أنه كان لها دور ملموس وفعال، عمل على إسقاط الحساسية التقليدية لدور المرأة وذوبان الفوارق الاجتماعية بينها وبين الرجل، الشيء الذي منحها دورًا بارزًا متقدمًا، وأخرجها من قالبها المعتاد إلى ضبط الانتفاضة ومارست بعض الحيل التي لا يستطيع الرجل فعلها مثل تخليص الأطفال والشباب المعتقلين من أيدي الجنود في المخيمات والقرى والمدن وتوزيع البيانات وغيرها.
بقيت الأرض هي رهان المقاومة والحيز العام الذي يطمع الفلسطيني إلى عودته، من فلاح يقاوم أمام سياسات غاشمة وسلاح يحرر من بطش الاحتلال إلى حجارة تواجه تآكلات الأرض وتجذر الاستعمار فيه، ومع التغيرات السوسيولوجية لشكل المقاومة نبتت أول الرصاصة ومعقل الشعلة لتحقيق الرؤية التحررية في حينها، شكلت من بعدها سلسلة عمليات تحررية مؤقتة هددت الوجود الاستعماري وخلقت من بعده حالة صراع فلسطيني لتثبيت الأصلاني، عمليات تحررية قصيرة المدى وخالدة الذكرى من تحرير الساحل الفلسطيني إلى خطف الطائرات، من جبل النار إلى فندق ريجنسي، حينها وصفت أرضنا بأرض الملاحم.
يمثل الأبرتهايد "الفصل العنصري" سبيل لتشكيل جماعة قومية تؤكد على تميزها "العرقي"، عن السكان الأصليين والتي تلعب بدورها على صهر هوية الأصلاني وتحويله إلى غريب في عدة مناحي، كغريب اجتماعي أو سياسي أو تجعله غريب عن الأرض من خلال قطع الأوصال بينهما وهذا ما ركز عليه الاحتلال الاسرائيلي في سياساته المختلفة، إن سياسة الأبرتهايد التي قسمت فلسطين إلى أربع مناطق على ذات البقعة الجغرافية: الضفة الغربية، قطاع غزة، القدس، أراضي 48 وما وراء جدار الفصل العنصري، التي جعلت الفلسطيني يقاوم بإثبات جسده ووجوده على تلك المناطق بمختلف الطرق، أي أن شكل المقاومة في القدس يختلف عن الضفة الغربية، وشكل المواجهة في قطاع غزة لا يتشابه مع شكل المواجهة في اللد والساحل الفلسطيني. فاعتبرت الصلاة أمام جنود الاحتلال الإسرائيلي هي نوع من المقاومة والثبات والتي بدورها قد نزع الفلسطيني حقه في ممارسة شعائره الدينة على أرضه المقدسة في ظل سياسات التضييق، ظل الفلسطيني ثابت في صلاته ومقاومته.
"يا ريت إمي بدالك"، عندما نتأمل هذا الهتاف الذي يتردد صداه في الشارع الفلسطيني بعد كل رصاصة تخترف أجسادهم "يموت الموت ولا نموت" هذا ما يستدعينا لفهم ما هي السوسيولوجية الفلسطينية لشارع وما هي شكل المقاومة فيه، أن نفهم كيف لهم أن يهتفوا متمنين حمل وسام الشهادة كما حملها السابقون؟، أن نفهم كيف تشكلت البنية الفلسطينية من عجوز يتأمل بالعودة إلى أرضه التي هجر منها ولجئ في مخيم، وشاب يشق طريقه للمستقبل في أرض لا مستقبل لها، وطفل يستلم المقاومة من بعده!
إن الرؤية التحررية تكلفنا الكثير، باهظة الثمن؛ التشبث بهذا الهتاف يدهشنا، في الأمس كنا نهتف باسم الشاب الشهيد أما اليوم فإن شهدائنا أطفال، تدعونا نشاطات الأطفال في ساحة الصراع السياسي المباشر مع المحتل إلى تحرير عقولنا لفهم تجارب الطفولة الفلسطينية التي لا سقف لها والتي لا تندرج تحت التشكيل الحزبي بل تأخذ على أنها تجارب مطموسة غير مسيسة حتى أنها غير مرئية في البعد السياسي على رغم أنها ذات قيمة على البعد الاجتماعي، لكنها في الحقيقة هي تجارب يحاول فيها الأصلاني السعي للقضاء على الغريب بعيداً عن فهم النظرية والهيكلية الاستعمارية للمحتل فقط يحاول الخلاص، بداية من تجربة الحبس المنزلي للطفل المقدسي، وقصة الطفل أحمد مناصرة كأسير "مش متذكر" والطفل الشهيد محمد أبو خضير "حرق جسده كاملاً بالبنزين وهو حي"، وقصة فارس عودة الذي تصدى للدبابة بحجره، وقصص مخيمات الفتوة، كضحايا الرؤية التحررية التي تستدعينا لفهم اليات تشكل وإنتاج الطفولة الفلسطينية على وجه خاص، وعند النظر إلى سوسيولوجيا المقاومة الفلسطينية نرى أن الكبار يرحلون أجساداً وتبقى وصاياهم متوارثة، أما الصغار يجدون أنفسهم دائمًا مضطرين للانخراط في العملية الكفاحية رغم انعدام خبرتهم تجدهم مندفعين أولًا، كما أن فاعلية الأخرين تجعلهم متشبثين بحجر وحرية.
إن الرؤية التحررية تكلفنا الكثير، باهظة الثمن؛ التشبث بهذا الهتاف يدهشنا، في الأمس كنا نهتف باسم الشاب الشهيد أما اليوم فإن شهدائنا أطفال
"في الوقت الذي كان يناضل فيه بعض الناس ويتفرج بعض أخر كان هناك بعضاً أخيراً يقوم بدور الخائن". بدأ الشعب يتجرع الاحتلال يومًا بعد يوم ووصل فيها إلى ذروة النضج، فلا بد من تشابك النقاط خاصة أن الشعب ما زال يقاوم ولم يستسلم لم يطالب بهدنة بل مارس شغفه بالرفض متأملاً بالحرية في ظل المفاوضات، وهنا تكثر التساؤلات هل يصمد الفلسطيني أمام الاستراتيجيات الإسرائيلية لدفن قضيته؟ كيف للفلسطيني أن يندمج بين حالة الفوضى لنيل الحرية من جهة واستسلام وتسليم من جهة أخرى؟ كيف لشعب أن يقرر مصيره باسترجاع أرضه وأن يٌقرر عنه بالتنازلات؟!
إن تبلور سوسيولوجيا المقاومة الفلسطينية من حال إلى حال لم تأتِ من العدم بل جاءت من محاولات بتر للماضي واستنساخ الحاضر لتشكيل المستقبل بصورة ضبابية، محاولين فيها تجسيد الرؤية النضالية حيث يكمن الوعي حول هذه السوسيولوجيا بتطبيقها، تمكينها وتحريرها قبل ابتلاعها كافة، لذلك تبقى التساؤلات دائماً مفتوحة إلى يومنا هذا حول أليات تشكل الهوية النضالية وإلى متى سيبقى هذا التآكل الطويل؟ وتبقى المقاومة جدوى مستمرة، ونستذكر شعارًا من الانتفاضة الأولى "العدو يقتل ثائر، والأرض تنبت ألف ثائر".