الإثنين  29 نيسان 2024

الكاتب زياد خدّاش: المرأة والموت سيّدا موت الفنون

2023-06-18 08:45:19 AM
الكاتب زياد خدّاش: المرأة والموت سيّدا موت الفنون
زياد خداش

تدوين- سوار عبد ربه

صدفة أهدت الكاتب زياد خداش إلى عالم الكتابة، وأتاحت له مسارا ليكون واحدا من أهم كتاب جيل التسعينيات كما يطلقون على أنفسهم، كان يجلس على فراش والده، وتحيط به كتب للمتنبي والجاحظ والمعري ومحمد حسنين هيكل وغيرهم، إلى أن أصبحت هذه الكتب تنافسه على حب والده، هذا الذي دفعه للخوض في عالم الكتابة، فكان يشتري له القصص القصيرة من المكتبات العامة، ويحكيها له، حتى انتهى الأمر في قصص يكتبها خداش ويقرأها والده على أصدقائه، الذين تنبأ أحدهم وكان إعلاميا في جريدة الشعب الفلسطينية، بأنه سيكون كاتبا من كتاب التسعينيات، وحدث ما تنبأ به.

ليست الكتابة وحدها هي الوظيفة التي يمتهنها خداش، فهو معلم على مشارف التقاعد، انتهج أسلوبا خاصا في التعامل مع طلابه، الأمر الذي يمكن لأي أحد يطالع مواقع التواصل الاجتماعي أن يدركه، إذ انتشرت للمعلم عدة مقاطع فيديو من داخل حصصه غير الرتيبة والمملة، حتى أنه دفع طلابه يوما للهروب من المدرسة احتجاجا على رتابتها، وأخذ يسأل الطلاب عن دوافع الهرب، فكانت إجابتهم تصب في مفهوم الحرية الذي تعدمه جدران المدارس في بلادنا.

بين وظيفتين

وفي لقاء خاص مع تدوين، يعرف خداش مفهوم الحرية بأن يكون المرء منسجما مع نفسه ولا يكذب عليها، وأن يعمل ما يحب وما يرغب به ما دام لا يؤذي أحدا.

هذا المفهوم عمل المعلم طيلة مزاولته لمهنة التدريس على إيصاله لطلابه، الذين بات لديهم مفهوم ثابت عن الحرية، كما تعلموا منه أن الحرية الشخصية لا تنفصل عن الحرية الوطنية، فمن شروط تحقيق تحرير البلاد كما يرى خداش، أن يكون المرء محررا داخليا وغير خاضع للقوانين، إلا الأخلاقية القيمية المجتمعية.

لا يمكن لخداش أن يفصل بين كونه معلما، وكونه كاتبا، فكلا الوظيفتين تؤثران بالأخرى وتتقاطعان مع بعضهما البعض، وفي هذا الجانب أوضح خداش أنه كان بإمكان الوظيفة الأولى أن تقضي عليه وتحوله لشخص مبرمج، ممنهج، مقتول، إلا أنه حاول أن يحيّد عالم الكتابة عن عالم التعليم، من خلال الفصل بين العالمين خارج أوقات الدوام، وعدم السماح للتعليم أن يتدخل بأدواته وخياله وحياته الشخصية خارج المدرسة.

إلا أنه في الوقت نفسه، تحايل على المناهج التدريسية التي اعتبرها تقتل الطالب وتجمد حياته ونشاطه، وتقتل خياله، من خلال التركيز على كافة مهارات اللغة العربية التي كان يدرسها، وتحويل حصص التعبير إلى حصص كتابة إبداعية، فليس من الممكن أن يتجاهل المنهاج، إلا أنه تمرد عليه بطريقة معينة وعمل على ما أسماه بالمنهج الخفي الذي سربه للطلاب دون علمهم، كي لا ينطبع في ذهنهم أن في هذا اختراق للمنهج المفروض.

قياس للأثر

ليس خداش معلما عابرا في حياة طلابه، إنما شخصية لا يسهل نسيانها أو التعامل معها كمحطة عابرة، فهذا التحايل الذي انتهجه، وتلك المفاهيم التي سعى لتكريسها كانت علامات فارقة في حياة من تتلمذ على يده.

وقياسا للأثر الذي تركه خداش في نفوس طلابه، استذكر موقفين حدثا معه بعد مدة من تخرج طلابه، إذ بعث له يوما أحد طلابه واسمه يزن، رسالة لوم على "الحلو الذي أذاقه لطلابه" وانتهى بانتهاء تدريسهم له، إذ اصطدموا بواقع آخر بعد تركهم للمدرسة التي كان فيها خداش، وشعروا بضياع وتيه، فتمنى الطالب لو ظل بالظلام، إلا أن رد خداش عليه كان بأنه ما دام زرع في داخله البذرة الأولى والسؤال الأول، من خلالهما عليه أن يكتشف نفسه.

وفي موقف آخر، مر أحد طلابه بدراجة نارية من جانب خداش، فصرخ بصوت عالٍ "حرية" دون أن يكشف عن هويته، وتابع مساره، بعد أن أكد لمعلمه أن هذه الصرخة غيرت في حياته.

القدس.. سيدة المدن الباقية

ينحدر زياد خداش من قرية بيت نبالا شمال غرب مدينة القدس، هناك سقط رأسه عام 1964، يرى فيها "مكانا لا يصدق"، وتحتل نصيبا وافرا من نصوصه، يربطه بها حب لا يندرج تحت مفهوم الانتماء للمكان الذي ولد فيه قبل ستين عاما فحسب، إنما حب لكامل تفاصيلها.

يقول خداش: "عرفت القدس من خلال الكاتب الراحل خليل السكاكيني، ومن حبه لها أحببتها، وأحببت أمكنته، كما أنها من المدن التي تجذبني، لأنها من المدن الباقية في أمكنتها التاريخية الممتدة إلى آلاف السنين، القدس سيدة المدن الباقية".

ويضيف: "هذا يحيلنا إلى سؤال حول قضية المقاومة، فبقاء المكان يرمز إلى صمود الناس وبقاء إرادتهم، ومقاومة المحتل وتحرير الأرض".

يحب خداش يافا أيضا، إذ كانت آخر إصداراته الأدبية، كتاب "أنف ليلى مراد" الذي جمع فيه إعلانات جريدة فلسطين التي أسسها عيسى العيسى عام 1911 في يافا، واستمرت حتى عام 1948، والتي (الإعلانات) كشفت عن حياة ثقافية مفعمة بالحيوية آنذاك، فكانت تشهد المدينة الفلسطينية بشكل يومي عروض أفلام ومسرحيات، وتستقبل أهم الفنانين العرب في حينها.

وبالاشتراك مع الفنانة التشكيلية رانيا العامودي، أخرج خداش "أنف ليلى مراد" الذي يجمع بين عالمي الأدب والفن، من خلال تحويل هذه الإعلانات إلى نصوص ولوحات.

يعرف خداش عن نفسه أنه من ساكني مخيم الجلزون، هذا الحيز المكاني الضيق الذي لاقى مكانا في نصوصه الكثيرة، إلا أنه لم يعش المخيم كما يجب، هذا لأن سكنه يقع على أطراف المخيم، يقول خداش: "لم أعش تفاصيل المخيم، كأن يكون البيت ملاصقا للبيت الآخر، والنوافذ أيضا، ومشاكل الأطفال، والمقاهي، والعلاقات الإنسانية الغريبة، سعال الجيران ومشاكلهم وأسرارهم، لا أعرفها.

ويضيف: "لا أتمنى أن أعيش هذه الأجواء كي أكتب نصا، لأن حياة تنعدم فيها الخصوصية والحرية لا يمكن أن أختارها، رغم احترامي وتقديري وفخري لمن عاشها وقاوم وصمد في ظلها".

دوائر ناقصة

لخداش مجموعة قصصية بعنوان "خذيني إلى موتي"، تحتوي على 12 قصة، بينها "دوائر أختي الناقصة"، كتب فيها عن أخته منال، وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة.

وحول قصة هذا النص يقول خداش: "كانت أختي دائما ترسم دوائر غير مقفلة، ما حفز في داخلي فضولا لأعرف عن عدم إغلاقها، فكنت أمسك يدها أثناء رسم الدوائر وعندما تشارف الدائرة على النهاية تزيح يدي وتبقي الدائرة مفتوحة".

فسر خداش هذه الثغرة بأنها منفذ للخروج أو الدخول إلى عالمها الخاص، ورأى في هذه الثغرة مهربا أو مكانا لاستقبال كائنات فضائية تنتشلها إلى عالم آخر.

أما عن دوائر زياد الخاصة، فقال إن "تأويلي لدوائر شقيقتي ينطبق عليّ، أنا أيضا لدي دوائري التي لا أريد لها أن تقفل، لأن إغلاقها يعني أن ثمرة التفاح نضجت أكثر من اللازم، وتعفنت وسقطت، وأنا لا أريد أن أتعفن وأسقط".

أنا أيضا لدي دوائري التي لا أريد لها أن تقفل، لأن إغلاقها يعني أن ثمرة التفاح نضجت أكثر من اللازم، وتعفنت وسقطت، وأنا لا أريد أن أتعفن وأسقط

استمد زياد هذا النص من قصة حية، أما عن الخيال في نصوصه، قال: "نصوصي دائما تنطلق من مشهد أراه، أو يخبرني أحد عنه، أكتب دائما عن حوادث تعرضت لها أو كنت شاهدا عليها، حتى لو لم يربطني في شخوصها أو أمكنتها شيء".

ولخداش أيضا كتاب بعنوان "أسباب رائعة للبكاء"، دخل في القائمة الطويلة من جائزة الملتقى للقصة العربية القصيرة في دورتها الأولى لعام 2015/2016.

وحول الأسباب التي تدفعه للبكاء، قال خداش: "ما يبكيني هو رؤية طفل يتعرض للتعنيف، أما على الصعيد الشخصي أخشى أن أكون ظالما لأحد دون أن أعي ذلك، وهذا يبكيني أيضا".

تكشف إجابة الكاتب هذه عن شخصية تهتم بأدق التفاصيل، وعند سؤاله عما إذا كانت هذه التفاصيل قد أغنته أم أرقته، قال زياد، إنها أغنته أدبيا، أما حياتيا أرهقته ودمرته لأنها تنبع من حساسيته، لأن الانتباه لأدق التفاصيل تترتب عليه أسئلة ومراجعات وندم، ورأى فيها جانبا إيجابيا انعكس على عالم الكتابة، بعيدا عن الجانب الكابوسي والتعذيبي.

المرأة ودافع الكتابة

كتب زياد خداش بتاريخ 7-9-1950 في جريدة فلسطين اليافاوية مقالا بعنوان: "حكايات النساء الخطرات"، عرج فيه على تجارب نساء فلسطينيات كان لهن دور بارز في مجالات سياسية ومجتمعية وتركن بصمتهن قبل الرحيل.

وحول تعريفه للمرأة الخطرة بمعزل عن المقال، قال خداش إنها تلك التي تخفي وراءها طبقة غير ظاهرة، وهذه الطبقة تنتهي بعذاب وحيرة، مضيفا: "قضية الطبقات هذه فيها لغزية وأشياء غير مفهومة"، ويرى خداش في المرأة أنها كائن يولد ليدافع عنه نفسه.

المرأة كائن يولد ليدافع عنه نفسه

أما عن أسباب الكتابة فاعتبر خداش أن المرأة أحد سببين، فالثاني هو الموت، لأن وجود هذين اللغزين يستدعي أن يرد عليهما بالوهم الذي يتخذ شكل الفنون، والتي تصبح وسيلة يتوهم مستخدموها أن باستطاعتهم حل هذين اللغزين، اللذين بزوالهما لا تعود للفنون حاجة.

يلتقي هذان المفهومان بحسب الكاتب في اللغزية والغموض، والحسم، فوجود المرأة يعمل فرقا في الحياة، والموت كذلك، وهذان المفهومان عدم وجودهما يولد قطيعة، وفي حالة غيابهما يكونان سيّديّ النهايتين، وسيديّ موت الفنون أيضا.

واستكمالا للحديث عن الكتابة، يرى خداش أن واحدة من وظائفها أن تبعثر القارئ، لأن فيها بعدا بحثيا، وتأخذ القارئ إلى فنون أخرى إذا ذكرت فيها مسارات معينة، غير أن هذا لا يعني أن الكاتب عليه أن يتقصد بعثرة القارئ، إنما لا يعطيه الحقيقة التي يعتقدها بسهولة، سيما وأن الكاتب قد لا يعرف ما هي الحقيقة.

يقول خداش: "إن أروع أنواع الكتابة أن يشترك الكاتب والقارئ معا في البحث عن الحقيقة التي لم يصل إليها أحد".

إن أروع أنواع الكتابة أن يشترك الكاتب والقارئ معا في البحث عن الحقيقة التي لم يصل إليها أحد

وختاما، كشف خداش عن عمل جديد يجري التحضير له، وهو رواية عن حادث تاريخي فلسطيني وقع في القدس، حيّره ودفعه للبحث عنه، وجلب معلوماته رغم شحها من بعض المؤرخين الفلسطينيين، وسيضعها في قالب روائي، إلا أنه يخشى على العمل ألا يكتمل بسبب نفسه القصير في الكتابة.