تدوين- ثقافات
نشرت الجامعة الأردنية في المجلة الثقافية مقالا للناقد والباحث الفلسطيني فيصل دراج بعنوان: "الرواية العربية كذاكرة ثانية" في عددها 77 الصادر عام 2009.
وفيما يلي نص المقال:
سردت الرواية العربية، منذ لحظة الاستهلال، حتى اليوم، أحوال الأمة المتواترة، منذ نظرت في مطلع القرن العشرين، إلى مستقبل عظيم، إلى أن وصلت بعد قرن من الزمن إلى نقيض ما تطلعت إليه. وضعت هذه المساحة الزمنية الطويلة المشبعة بالأمل والإخفاق، في مسار الرواية العربية أربع حقب متلاحقة: حقبة الصبي الواعد، الذي يرى زمنه المضيء أمامه، وحقبة الوعي الممزق المؤمن بزمن سوي، وحقبة المغترب الذي استقر في الأسى ولا ينتظر البديل، وحقبة رابعة أخيرة، هي مزيج من المساءلة والنقد وعدم البحث في الإجابة.
في مطلع العقد الأول من القرن الماضي كتب المصري محمد حسين هيكل روايته زينب، وقصد بها دعوة مزدوجة: دعوة أولى إلى جنس كتابي حديث، تأخذ به الأمم المتمدنة، كما كان يقال، يتعامل مع المستقبل ولا يلتفت إلى الوراء إلا قليلاً، ودعوة ثانية إلى حداثة اجتماعية شاملة، تساوي بين الرجل والمرأة وتقصر المسافة بين الذين يملكون والذين لا يملكون، ولعل هذا الحلم، الذي يرى في آفات الحاضر مرضًا عارضًا، هو الذي أوكل بطولة الرواية إلى صبي نجيب حياته أمامه، وحياة شعبه من حياته المضيئة القادمة. كان هيكل قد قرأ الفرنسي جان جاك روسو وأخذ منه فكرة المجتمع المدني الذي يصوغه بشر لهم حقوق وواجبات متساوية.
أوكل توفيق الحكيم بدوره بطولة روايته عودة الروح إلى صبي لامع فطين يعرف ما يريد ويذهب إليه. وإذا كان هيكل قد أضاف إلى المستقبل المنشود بعض القلق، فقد مشى الحكيم مع إيمان لا ثغرات فيه، فعطف الصبي على روح "مصر الخالدة" وعاد بالطرفين إلى حضارة فرعونية قديمة، مؤمنًا بأن الأصل الذهبي القديم يعود في المستقبل ذهبيًا كما كان. وبسبب هذه الإيمانية رأى مصر منتصرة قبل انتصارها، واعتقد بأن انتصار مصر جزء من وجودها القديم الذي لا يعرف التبدل. ومع أن عبد الرحمن الشرقاوي سيأخذ لاحقًا، على هيكل جمالية مجردة، تحيل على فلاحين مصريين لا وجود لهم، فقد استعاد، في روايته الأرض صورة الصبي النجيب، الذي يحرر الأرض من زمن مريض، ويصاحبها إلى زمن مستقيم لا اعتلال فيه. ولم تكن أنثى الشرقاوي، على الرغم من التعب وغبار الشقاء، إلا امتدادًا "دنيويًا" لزينب، فهي جميلة كالأرض التي تنتسب إليها، أو هي الأرض الصامدة الخضراء في شكل امرأة.
تجلت فتنة الصبي الواعد، مرة أخرى، في رواية اللبناني توفيق يوسف عواد الرغيف (1939)، حيث الصبي هو الوطن العربي كما سيكون، عروبيًا متماسك العروبة، محررًا من الجهل والجوع والسيطرة العثمانية. بل إن فكرة الجمال النقي، الذي ينازل القبح ويصرعه، هي التي أملت على عواد، أن يفرش أرض بلاده بالجمال، وأن يخلق امرأة عربية تفتش عن مستقبلها لا يعوزها الجمال أبدأ، والصبي في الحالات جميعًا نقي لا يعرف الكذب، وبريء لا يعرف المخادعة ومجتهد لا يتيه وبصير يمشي إلى ما يريده. هكذا بدا المستقبل العربي في الكتابة الروائية كما لو كان زمنًا يتكون حرًا، متخففًا من سلب الموروث، ومتخففًا أكثر من السيطرة الاستعمارية، إنه الأفق المنشود الذي تصوغه أرادات عربية، تنتمي إلى أقطار مختلفة، موحدة بين الأمل والتفاؤل، إذ الأمل من حق الذين ظلمتهم الحياة، وإذ التفاؤل ترجمة لإرادة فاعلة، عنوانها المعرفة والمقاومة.
استأنف الجزائري محمد ديب، في عمله الكبير الدار الكبيرة (1952)، مقولة "الصبي العارف"، الذي تكونه تجارب الحياة، ويعرف الفرق بين اللغة العربية الموروثة عن أهله واللغة الفرنسية الإلزامية، التي تقصد إلى محو الذاكرة وتشكيل "فكر تابع" وبسبب التجربة يدرك الصبي أن شقاءه "جزء صغير من ألم كبير"، وأن تحرره لا ينفصل عن تحرر شعبه. والصبي، بهذا المعنى، رجل قبل الأوان، تكون في مدار المعاناة، حاله حال الصبي في رواية الرغيف، يعرف الفرق بين الجزائري والفرنسي، بقدر ما يعرف نظيره الفرق بين العربي والعثماني، والصبيان معًا ينتميان إلى نسق من "الشهداء" سقط في المعركة أو سقط في الطريق إليها ورفض، في الحالتين، السيطرة والخضوع. وبعد عقد من الزمن وأكثر، استولد غسان كنفاني من التمرد على بؤس المنفي صبيًا مقاتلاً، في رواية ما تبقى لكم، محتفيًا بفكرة الموت الذي يواجه المهانة، أفضى إلى انتصار، أو إلى قبر لا يختلف عن قبور الآخرين.
وإذا كانت وعود الاستقلال الوطني قد خلقت مستقبلاً كريمًا شكل البداهة، فقد جاءت دولة الاستقلال الوطني، في شعاراتها الصاخبة المتعددة، ببطل جديد منقطع عن سابقه يدعى: الإنسان المغترب، الذي حلم بسلطة وجاءه نقيضها، وانتظر زمنًا موعودًا وقع على الشوك. أقصى نجيب محفوظ، في روايته أولاد حارتنا، زمن النقاء والصدق ورسم زمنًا إنسانيًا متواترًا مسكونًا بالشر، احتجاجًا على سلطة متعالية يسوسها "حر وحيد" يحول ما تبقى إلى سجناء مختلفي المراتب. بعد ذلك ستأتي روايته اللص والكلاب، النموذج الأكمل لرواية الاغتراب السياسي، التي رأت في السلطة طاردًا للإنسان الحر وقاتلاً له. بل أن في عنوان الرواية ما يحيل على فرق نوعي بين "المطارد" و"المطارد". فالأول لص لم يكن لصًا، والثاني ولد كلبًا له طبيعة حيوانية، ولهذا يكون حضور اللص (سعيد مهران) من حضور الكلب الذي يطارده، إلى أن ينتهي الإنسان الحالم بالغد قتيلاً في نهاية المطاردة.
إذا كانت وعود الاستقلال الوطني قد خلقت مستقبلاً كريمًا شكل البداهة، فقد جاءت دولة الاستقلال الوطني، في شعاراتها الصاخبة المتعددة، ببطل جديد منقطع عن سابقه يدعى: الإنسان المغترب
تعامل محفوظ مع مجاز الاغتراب في متواليات روائية، تحدثت عن زمن مرغوب مفقود، ولا يمكن العثور عليه، بعد زمن سيكتب عبد الرحمن منيف عن ثنائية السجن السياسي والأنظمة التسلطية، وعن ذلك "السجن الصغير" القائم مع جلاده وضحاياه، والذي يغادر مواقعه ويكتسح المجتمع كله. فعل ذلك في شرق المتوسط التي كتبها في اثني عشر يومًا وطبعت أكثر من خمس عشرة مرة، وفعل ذلك ثانية في الهنا والآن أو شرق المتوسط مرة أخرى. سرد في الحالتين، ممارسات سلطوية تمنع عن الإنسان حرية القول والاختيار، وأحوال إنسان عربي معذب يعرف الواجبات ولا يحقق من حقوقه شيئًا.
ومع أن هزيمة حزيران 1967، بدت للضمائر البريئة صدمة غير متوقعة، فقد رأتها الرواية العربية قبل مجيئها بسنوات، اعتمادًا على بصيرة تقول إن الأسرى لا يحاربون، رأي الهزيمة حليم بركات، قبل حلولها بست سنوات، في ستة أيام، التي تخيلت بلدة عربية تسكنها البلاغة والتنازع الداخلي وتتوعد العدو وتنهزم أمامه، إن جاءت المعركة، لأنها لا تعرف عنه شيئًا. ولم يكن منظور غسان كنفاني، في رجال في الشمس، أقل مأساوية، حين قاد أبطاله الفلسطينيين إلى موت بلا كرامة، منددًا بفلسطينيين ارتكنوا إلى أوهامهم وبأجهزة عربية مشغولة بقضايا صغيرة. وما رآه الروائيان أبصره نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل، حيث السلطة الفاسدة تدوس على أرواح المواطنين وتنجو من العقاب.
ارتكنت الرواية العربية، وهي تتعامل مع هزيمة حزيران، على عنصرين: لم تكتب عن الحرب، من حيث هي، بل عن الأسباب الاجتماعية المختلفة التي تقود إلى الهزيمة. قام بهذا تيسير سبول في انت منذ اليوم، الذي وصف قمعًا هرميًا، يبدأ بالبيت وينمو في المدرسة ويربو في العمل السياسي، ويتوسع في الخدمة العسكرية، إلى أن يحول الإنسان إلى فراغ لا يستطيع الوقوف، ولم يكن منطق السوري حيدر حيدر مختلفًا، في روايته الزمن الموحش، الذي توقف أمام أرواح مكبوتة عاجزة تموت قبل أن يأتيها الموت. وكتب المصري يوسف القعيد عن شيء قريب في عمله عزبة المنسي، محتجًا على ثورة اجتماعية لا تلتفت إلى أحوال الفلاحين البسطاء، وتترك السوء القديم كما كان.
ارتكنت الرواية العربية، وهي تتعامل مع هزيمة حزيران، على عنصرين: لم تكتب عن الحرب، من حيث هي، بل عن الأسباب الاجتماعية المختلفة التي تقود إلى الهزيمة
غير أن احتجاج الرواية العربية على الواقع السلطوي، الذي ينتج اغترابًا مفتوحًا، تجلى أولاً في الشكل الروائي الواقعي المسيطر الذي يحيل على واقع وحيد ثابت الأركان، كما لو كان واقعًا لا سبيل إلى تبديله. ولهذا ذهب الروائي إلى واقع متعدد الاحتمالات والأزمنة، مصرحًا بأن وراء المعيش يرقد معيش آخر، يمكن توليده. فعل هذا صنع الله إبراهيم في نجمة أغسطس، الرواية التي جمعت بين زمن السجن وزمن الحياة اليومية الرخو وزمن الإبداع الفني، وصولاً إلى زمن الأهرامات الفرعونية، حيث الأرواح المنهوبة تبني قبرًا لفرعون يحلم بالخلود. أما جمال الغيطاني، فترك في روايته المتميزة الزيني بركات، الحاضر وعاد إلى القرن السادس عشر، منتجًا رواية تاريخية، توحد بين الحاضر والماضي؛ وبين أسباب الهزيمة في الزمنين، أعطى الغيطاني اقتراحًا روائيًا منتجًا ومزهرًا، متكًئا على موروث أدبي عربي قديم، أتاح له أن يكتب عملاً مميزًا آخر هو التجليات، الذي أدرج التأمل الصوفي في بنية العمل الروائي. وفي هذا الإطار أعطى إميل حبيبي عمله الشهير الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، الذي رهن المقاومة بمنظور مستمد من رواية كانديد لفولتير. رفض إميل، الذي كان ماركسيًا، رواية الواقعية الاشتراكية، واشتق رواية من موروثة العربي، تبدأ بالسخرية وتنتهي بالسخرية السوداء، احتجاجًا على مصير فلسطيني لا يأتلف مع الحس العام.
على مقربة من هذه الأعمال، واعتمادا على تصور مختلف، جاء إدوار الخراط برواياته المتكاملة الثلاث: رامة والتنين، الزمن الآخر، يقين العطش، مبتعدًا عن "الجماعات" و"الإنسان الجمعي"، مدافعًا عن فردية متميزة، إذ لا حرية ولا سياسة ولا إبداع من دون فرد حر يستطيع الرفض والقبول والاختيار والمبادرة، لا غرابة والحال هذه، وبعد أن قوضت هزيمة حزيران، بداهات كثيرة، أن يصبح الفرد المغترب موضوعًا مسيطرًا في الرواية العربية، إشارة إلى مجتمع فقد وحدته وتوزع على "وحدات صغيرة" مجهضة الأمل، وآية ذلك رواية أطياف لرضوى عاشور، ومثل صيف لن يتكرر لمحمد برادة، وأكثرها حرقة وشجنًا موت في المنفي لبهاء طاهر، الذي رثى فيه التفاؤل والأمل والأحلام.
تتعين رواية محفوظ اللص والكلاب، في هذا التحديد، مرجعًا لنسق متواتر من الروايات اللاحقة، إذ السلطة هناك وإذ الفرد هارب من السلطة، كما لو كان كل منهما يرى في الآخر عدوًا له. أسس نجيب محفوظ، انطلاقًا من المعيش في نظام يمجد الشعب ويعتقله، رواية الاغتراب السياسي، التي رصدت ولا تزال، أقدار إنسان فقد جوهره، ولا يستطيع العثور عليه، ولهذا يستطيع قارئ الرواية العربية أن يتأملها، وبعد هزيمة حزيران المتناتجة، اعتمادًا على مقولة "الاغتراب السياسي" الذي توطد وتشجر وتكاثر، لاحقًا، منتهيًا إلى اغتراب شامل تحدث عنه صنع الله إبراهيم في رواية شرف وجمال غيطاني في شطح المدينة...
أعادت هزيمة حزيران تعريف العدو، ونقلت الحرب من الداخل إلى الخارج، ودفعت بالمثقف العربي الحالم، الذي تساقطت أحلامه، إلى أرض جديدة مسكونة بالحيرة والمساءلة، ولم تكن الحرب الأهلية في لبنان إلا صورة عن ذهاب المجتمع العربي من دمار إلى آخر، أجهز على ما تبقى من فضاء السياسة، وكشف عن حداثة عربية زائفة سريعة التداعي. ظهر هذا جليًا في روايتي هدى بركات حجر الضحك، التي كشفت عن إنسان لا قوام له، يتحول إلى ما أرادت له الظروف أن يتحول إليه. وأهل الهوى، التي وصفت مجتمعًا مقاتلاً يقدس الكراهية ويرى في التسامح جنونًا. ولم يكن مسار القضية الفلسطينية مختلفًا، فبعد أن وعد جبرًا إبراهيم جبرًا بفلسطيني منتصر يحرر ذاته ويحرر العالم العربي معه، جاء حسين البرغوثي، في كتابه سأكون بين اللوز، الذي بكى على أطلال فلسطين، وعلى حكايات دافئة قديمة لن تعود. ولم يجد إلياس خوري في روايته بوابة الشمس، إلا فلسطينيًا محتضرًا، قاتل وتذكر ولا ينتظر شيئًا.
ولعل حلكة الحاضر ووطأة التداعي وانتظار شيء والوصول إلى غيره هو الذي دفع بالروائي العربي إلى العودة إلى الماضي كما لو كان في الأخير ما يسمح بإضاءة الحاضر والإجابة عن أسئلته. ولهذا عادت رضوى عاشور إلى الأندلس في كتابها غرناطة، وعاد المغربي سالم حميش إلى زمن الحاكم بأمر الله في روايته مجنون الحكم، ورجع واسيني الأعرج إلى الأمير عبد القادر الجزائري في عمله الكبير الأمير، ومع أن التاريخ القديم كان موضوع هذه الروايات وغيرها، فقد كان الحاضر المتهدم ماثلاً فيها جميعًا، تجيب عن أسئلته قاصدة وقائع قديمة نظيرة. فأطياف العراق المحاصر ثم المحتل ثم الممزق ماثلة في "أندلس" صعد ومضى، والاستبداد في الحاضر يحصد ما حصده في تاريخ بعيد، والتحرر الذي وعد بإنسان يسوس حياته بالعقل والإرادة المدبرة انتهى إلى "قتل مقدس" لا يفرق في الأعمار. لا غرابة في فضاء اجتماعي مسكون بالوعي المظلم المتخلف أن يكون مكانًا للاقتتال الطائفي، فيكتب المصري يوسف القعيد عن الطائفية المتبادلة في قسمة الغرباء، ويذهب السوداني أمير تاج السر إلى نهايات القرن التاسع عشر ويسجل فظائع الطائفية المسلحة في توترات القبطي، وأن ينسحب الزمن الثقافي من بيروت أمام المنظور المتعصب في رواية علوية صبح دنيا، حيث المستبد المشلول قادر على شل غيره والتهام الأحياء.
وصفت الرواية تحولات المجتمع العربي الحديث اعتمادًا على مجازات متتابعة: مجاز الصبي الواعد الذي يعيش المستقبل قبل أن يصل إليه، ومجاز البطل الإيجابي الذي يعيش زمنه ويتمرد عليه ويتهيأ للوصول إلى زمن جديد، رسم السوري حنا مينة المجاز الثاني أكثر من مرة، أكثرها شهرة وحضورًا بطله "الطروسي" في الشراع والعاصفة، حيث جموع الفقراء تستدفئ بقبس بطل مغاير، ينصر العدل ويهزم البحر ويحرر الوطن ولا يدخل إلى معركة إلا ويخرج منتصرًا. عاش الصبي في مستقبل لم يصل، وعاش البطل الإيجابي في زمن انتقالي، أو في "زمن تقدمي" إن صح القول، يسير صعدًا إلى الأمام، قبل أن ينتشر ذلك "الوباء" أي السلطة بلغة الراحل هاني الراهب، الذي كتب رواية تحمل الاسم نفسه، في بداية الثمانينات الراحلة، التي تحدثت عن طبيعة الإنسان الأولى، قبل أن يصل إلى السلطة، وطبيعته الثانية، التي تستولدها عادات السلطة وطقوس الأمر والنهي. لامس هذا الفرق، بشكل سريع، إلياس خوري في روايته الوجوه البيضاء، إذ الإنسان المضطهد الذي يتذمر من قامعه يغدو قامعًا إن بلغ عتبة السلطة وحمل شيئًا من شاراتها.
تعطي روايتي المصري بهاء طاهر صورة واضحة مؤسية عن مآل "البطل الإيجابي" الذي خذلته أحلامه وخذل أحلامه في آن؛ ففي الحب في المنفي يتقاسم القوي والاشتراكي الماركسي هزيمة واسعة، ويغدو الفرق بين خياراتهما الأيديولوجية أمرًا نافلاً، فلا الأول أنجز "اشتراكية عربية" ولا الثاني حقق "اشتراكية عالمية" وانتهيا معًا إلى "اشتراكية الخيبة". أما روايته واحة الغروب، فتلاحق سيرة "ثائر مهزوم" يهجس بالأسباب التي أوصلته إلى حاضر خانق محاصر، راجعًا شيئًا فشيئًا إلى "متاهة الأصول"، التي تأمره بالموت وبالإشارة إلى بداية جديدة بعد البطلين المتفائلين، اللذين يسيران إلى النصر بخط مستقيم، جاء "احتضار البطولة" أو زمن "البطل المتداعي" الذي أكلته خيباته ومات في الطريق.
في زمن مضى، وحين كان العقل المتفائل سيدًا، كان النصر يقف في منتصف الطريق أو بدايته
في زمن مضى، وحين كان العقل المتفائل سيدًا، كان النصر يقف في منتصف الطريق أو بدايته. تنتقل بطلة طه حسين في دعاء الكروان من مكان إلى آخر وتبلغ ما تريد، محصنة بالمعرفة والإرادة، ويحقق بطل سهيل إدريس في الحي اللاتيني كل أحلامه في رحلة اختبار، تبرهن أن "الشاب القومي" ينجز وعوده، يتعلم من أوروبا ويعلمها، ويعلم غيره من العرب أن حضارتهم القادمة ستعلم العالم جميعًا، ويفعل بطل الشراع والعاصفة ما يريد، يروض الطبيعة ويهزم الإقطاع ويجبر القوى الاستعمارية على الانسحاب. سجلت الرواية العربية، بهذا المعنى، أمرين: مسار الفكر التنويري، في تناقضاته المتعددة، وتحولات سلطات "التحرر الوطني" التي وحدت بين التنمية والقمع والوحدة الاجتماعية والاستبداد. ولهذا أخذ الروائي دور المؤرخ، أو استدرك ما أهمله المؤرخ، ذلك أن الأول يراوغ الرقابة السلطوية متكئًا على الأقنعة الروائية، بينما يكتب المؤرخ ما تسمح له السلطة بكتابته، على اعتبار أن السلطة هي مرجع التاريخ، وأن تاريخ السلطة المكتفية بذاتها هو التاريخ الحقيقي الوحيد. ومع أن الرواية، كما يقال، ضيف يتردد على الموائد جميعًا، علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، فإنها، في واقعها العربي، الجنس الكتابي النقدي الذي يستضيف أشكال المعرفة جميعًا. وهذا ما يجعلها ترجع، في ساعات الضيق، تستأنس بالتاريخ البعيد ويعينها، في معظم الأوقات بديلاً عن الكتابة التاريخية، التي لا يستطيع المؤرخون النزيهون التصريح بها.
وإذا كان في الزمن العربي الراهن بؤرة تكثف معناه وتجسد دلالته، فلن تكون هذه البؤرة إلا القدس المحاصرة المستباحة المقطعة الأوصال، التي يبدو وجودها الجوهري الآن، احتمالاً، أو قريبًا من الاحتمال. أجبر هذا الواقع الجزائري واسيني الأعرج في روايته الأخيرة عن مدينة الله –وهو عنوان رواية للفلسطيني حسن حميد –أن يرى في الإنسان المقدسي المقتلع من مدينته طيفًا فلسطينيًا بعيدًا، احتفظ بجزء من مدينته المحتلة، وأضاف إليه المنفى أجزاء كثيرة. يعود واسيني في سوناتا لأشباح القدس إلى أندلس بعيد، ويتأمل في مرآة الأندلس قدسًا هجرها ماضيها.