السبت  21 كانون الأول 2024

فصل من رواية أحمد مسلم "سجناء خلف القضبان"

الدّفين

2023-06-25 08:19:24 AM
فصل من رواية أحمد مسلم
سجناء خلف القضبان

تدوين- نصوص 

أشرقت شمس حزيران والجدّ يحفر من جهة وفريد من جهة أخرى، قد نال منهما التعب والجوع، الجدّة تُعِدّ طعام الإفطار الأخير الذي يجمع بين الضحيّة والجلّاد

استمرّ الحفر وبعد ساعات قليلة اندهش الجدّ، كأنّ فأسه كسرت شيئا ما، امتقع وجهه وظهرت عليه ملامح ارتباك سيحاول إخفاءها: تخيل يا فريد أن أعثر على كنز، قالها الجدّ بصوت عال مثقل بالسّخرية، ثم أضاف سؤالا يغلب فيه التعجب على الاستفهام: وهل يظهر الكنز على وجهي؟! أراد أن يوحي إلى فريد أنّه شخص غير محظوظ، أراد إقصاء تفكيره بتغير ملامحه وتنبهه إلى تلك الدّهشة التي فاض بها وجهه، ترك الفأس، وتظاهر بالتّعب، تحجّج بإحضار الماء، ثم ذهب إلى البيت.

دخل بيته حائرا يقلّب كفيه، كيف له أن يصرف فريدا ويتخلص من قلقه، كيف له أن يزيح هذا الكابوس الثقيل الجاثم على صدره، خاف أن يتابع فريد الحفر ويصل إلى الدّفين، شعر أن الوقت يمشي بسرعة وعليه أن يتصرف، لاحظته زوجته يضرب أخماسا بأسداس، يقلّب كفّيه ويحوقل.

سوف تسأله الجدّة فقد وصل فضولها ذروته: ماذا جرى لك يا رجل؟ هل هناك مشكلة؟

تتسع عينا الجدّ ويشخص بصره ثم يجيب عن سؤالها بكثير من الذهول وبكلمة واحدة فقط: كنز.

تتابع الجدّة فضولها باستغراب: ماذا؟ كن!

الجدّ: أظنّه كذلك، بعد أن كسرت فأسي الجرّة، شعرت بقطع معدنية اصطكت ببعضها، لا أدري ماذا أفعل، لا أريد لفريد أن يعرف، أخاف أن يشي بنا للحكومة أو يطمع في الكنز فيضطر أحدنا لقتل الآخر!

هل كان الجدّ يتحدث عن نفسه أم عن فريد بالنسبة للطّمع؟ لقد جهّز الحجّة التي تبرر له حرمان انسان من حقّه في كنز ظهر بوجوده، فريد رجل قوي يهابه كل من عرفه، لكنه ليس واشيا ولا عدوانيا طامعا.

الجدّة: فريد عاش وحيدا بعد وفاة زوجته، ولم ينقطع عن العمل يوما، إنّ عنده أكثر مما تظن، ولا تنسَ أنه ورث من زوجته أربع قطعا ذهبيّة.

انفرجت أسارير الجدّ، فهو يميل إلى الحل السلمي ويختار أقصر الطرق كي ينال مراده، إذن سأخبره ونتقاسم الكنز، لا داعي أن نغامر.

الخوف نتيجة للقلق والتوتر، لقد أصابته حال خوف كادت أن تدخله نوبة من الهلع، جعلته يغيّر أسلوب تفكيره، لقد جنح لأول مرة في حياته إلى التفكير السلمي وابتعد عن المغامرة، لكنّ الجدّة رابطة الجأش تفكر بعمق كبير.

فهي تؤمن أن الشيء الذي لا يؤخذ بالقوة، يؤخذ بالحيلة، تقرّع الجدّة زوجها بكلمات تستفزه ليغير قراره الذي لم يرق لها: ماذا دهاك يا رجل، لم أعهدك مسالما ولا جبانا، دع الخوف جانبا، أنا لم أقصد بما قلته أن يقاسمنا فريد كنزنا، فالأرض أرضنا، ولا أظنّ أنّكما اتفقتما قبل الحفر أن تتقاسما أيّ شيء تخرجه الأرض، هو يعمل بأجر يومه، ألم يكن اتفاقكما على هذا النحو؟

الجدّ: نعم ولكن...

الجدّة تقاطع الجدّ بغضب: اذهب ولا تشعره بشيء، سألحق بك بعد قليل، أحضر لكما الشاي، تفتعل معي شجارا، ثم تقرر إلغاء البناء.

الجدّ بارتباك يخالطه شيء من الارتياح لما ينتظر سماعه من زوجته: كيف لي أن أفتعل الشجار؟

الجدّة: أضع ملحا في الشاي بدلا من السّكر، فتغضب وتضربني بالكوب وتسبّني.

الجدّ: تردّين السّباب وتغلظين في القول.

الجدّة: تشطّ بالقول، وتلغي مشروع البناء، تعطي فريدا أجر يومه وينصرف.

الجدّ والجدّة معا: ثم يأتي الليل ونستخرج الكنز.

كأنّ الجدّة بدأت رسما تركت فيه إيحاءات فهمها الجدّ، أو كتبت نصا ينتقص إلى كلمات لم ترق إلى مستوى اللغز بالنسبة له.

أقبلت الجدّة -منتفخة البطن فهي حامل في الشّهر السّابع -تحمل كوبين من الشّاي الممّلح، ليبدأ المشهد المسرحيّ على أرض الطّمع، مسرحية كتبتها الجدّة وزوجها وكانا بطليها، كلاهما نجح في لعب دوره، وكان فريد الكومبارس الذي انتهى دوره في فصلها الأول.

انتصف ليل القرية، تسلل الجدّ إلى المكان، كان متوجسا لظنّه أنه مراقب، ينخلع قلبه عندما يسمع أيّ حراك، يقترب أكثر، ويزيح التراب ويتحسس الإناء برفق كأنّه (آسٍ يجسّ عليلا) كما قال المتنبي، ويستخرج جرّة مكسورة مليئة بالقطع الذهبيّة، امتزج الفرح بالخوف، لم يقع الجدّ في هذه اللحظات فريسة الصدمة لما حصل من مقدمات جعلته يستقبل هذا الحدث المفرح بشكل طبيعي.

(خرج فريد من المولد بلا حمص) هكذا قالت بعض النساء التي اعترفت لهن الجدّة بقصّة الدّفين، لم تعترف الجدّة بيوم الذهب إلا بعد موت فريد ومرور أكثر من ثلاثين عاما على تلك القصة، أما فريد الذي سكن جبلا موحشا ظل يفكر في تلك الأيام، يوم الذهب والأيّام التي تلته وأخرجته من القرية، لم يكن غبيّا، ولا ضعيفا، لكن الخطّة كانت محكمة منعته من أيّ حِراك، سيتذكر الحادثة يوميا أو بالأحرى سيتذكر اليوم بتفاصيله، يتذكر ملامح وجه الجدّ كما يتذكر حلمّه الذي رآه في ليلة شتائية سبقت ذلك اليوم بأشهر.

مراد يسأل جدّته: ماذا فعل جدّي في تلك الليلة؟ هل حفر حفرة في السقيفة ودفن فيها الكنز ليبات مطمئنا، أم أنه أخفاها في مكان آخر؟

أفرغ جدّك الجرّة وملأها بالتّراب وأعادها إلى مكانها، ثم فرش أرضيّة البيت بالقطع الذهبية، وضع الحصيرة فوق قطع صفراء بالغة الجمال وعكف على الشراب.

هل كان جدي يشرب الخمر ؟! يسأل مراد متعجبا كأنّ جدّه أحد الأولياء الصّالحين.

كان جدّك صاحب مزاج، وهذا ما أنجاه تلك الليلة من العساكر، تغرق الجدّة في تفاصيل الحكاية وكأنها تقع اليوم أمام ناظريها، شرب حتى احمرت عيناه، وظهر النعاس على وجهه، وقبل الفجر اقتحم العساكر البيت وجدّك غارق في سكرته، سأله أعلاهم رتبة: أنت زياد؟ أجاب وهو يترنح: إذا لم أكن أنا زياد فمن أكون!

اقترب الضّابط أكثر فأزعجته الرائحة فأمر الجدّ بالجلوس ، جلس الجدّ وجلس القائد وهو يستشيط غضبا : أين الكنز الذي وجدته ؟ يجيبه الجدّ بأن الكنز تحت مؤخرته، اندهش القائد وزاد غضبه وأيقن تماما أنّ كلامه لا يتجاوز كلام السكران، أمر العساكر أن يقيّدوه ويجرّوه إلى المخفر لاستكمال التحقيق.

سوف يتحمل الجدّ فوق طاقته، يتحمّل أقسى العذاب كي يحافظ على ما صار عنده من مال حتى لو دفع ثمن سكوته بدمه، سوف يسكت ويرفض الكلام حتى لو لم يتكلم بعدها، دفن السرّ في أعماقه، لم يفتش العساكر البيت فهم على يقين أنه لا يمكن لأحد أن يعثر على كنز ويتركه في بيته.

كأنّ الحظّ كان يسير في ركابه، يجب عليه أن يكمل المسرحية إلى فصلها الأخير ويظل بطلها الذي لا يهزم، أمّا فريد فسوف يصنع لنفسه مسرحا آخر، قصة ثانية، ربما يأخذ دورا قد يرقى به من عتمة الكومبارس إلى أضواء البطولة، دورا يختاره القدر أيضا، يجعل منه بطلا خالدا لا يُنسَى.