السبت  21 كانون الأول 2024

رامي أبو شهاب | الخوف من الكتب

2023-07-19 10:21:58 AM
رامي أبو شهاب | الخوف من الكتب
"علينا أن نكتفي بتلك الكتب المثيرة للانتباه أو الوعي"

تدوين- رامي أبو شهاب

قد يبدو العنوانُ باعثاً على الاستغراب أو الاستنكار لدى البعض، ربما لكونه ينطوي على عدد من التأويلاتِ أو التفسيراتِ، ومن ذلك بأن يكون الخوفُ من الكتب منوطاً بثقافة بعض الدّول التي تقوم بحجب الكتب أو منعها لأسبابٍ متعددة، وأهمها الخطر أو التهديد الذي تمثّله هذه الكتب في حال انطوت على نوعٍ من التّوجيه الأيديولوجي المرتبط ببعض القيم الثقافيّة أو نقد السّلطة بحدّ ذاتها، في حين هناك من يتحدثُ عن تأثيرات بعض الكتب على المزاج، ولا سيّما الكتب السّوداوية، في حين هناك من يتحدثُ عن أثر الجلوس والقراءة لفترات طويلة، وأثره على زيادة الوزن، وارتفاع الكوليسترول، أو الضغط، مع أن الأخير قد يرتفع من بعض الكتب أيضاً!  

هكذا تتعددُ بواعثُ الخوف من الكتب، كلّ حَسب توجهه، وغاياته، غير أنّ الخوفَ من الكتب أو بمعنى آخر القلق منها شيء آخر لا يندرج تحت خانة تلك المخاوف المباشرة، بل هو يكاد يكونُ مفارقاً لها بالكلية.

في البدء، لا شيء يبدو أكثر أهمية بمعناه الفلسفي من الكتابة، أو الكتاب الذي يعني التّكوين الأول، فهو معني بصيغ الوجود: البدء، والأثر، وتفسير العالم...  وربما تحقيق الخلود مقابل الفناء الذي يتهدد كل شيء، فمعنى الكتاب لا يمكن أن يكون أفقاً لا منجزاً كونه لا ينطوي على تحديد ثابت ونهائي، فألبرتو مانغويل يرى بأننا نعود إلى الكتب في لحظات الظلام كي نقرأ كلمات لما نعرفه في الأصل، وهذا ربما يقترب مما أورده «كارلوس زافون» حين يرى بأن الكتب كالمرآة نرى فيها ما بداخلنا بالفعل.

ألبرتو مانغويل

هكذا تتحدد الكتب عبر حاجتنا الغامضة لها، بل هي ما يكمن في داخلنا من شكوك لا تنجلي، فالكتاب يحتمل صيغته مما يكمن فيه، ومما يكمن بداخلنا، ومن هنا يمتلك قوته، أو على العكس من ذلك، إذ يمكن أن يحيل إلى محض هراء حين لا يكون بداخلنا فعلاً شيء، ومع ذلك فهناك من يكتبون... ويكتبون...  لتلويث أرواحنا وعقولنا فقط ...  

بيد أنّ الخوف من الكتب يبدو أعقد من ذلك، وهنا لا أعني الخوف من القراءة، ولكن الخوف من الكتاب بما يمثله من رؤيا، فكل كتاب حين يُنجز يحتمل قدراً من رؤيا الكاتب، وأسلافه من الكُتّاب، مع كل ما يكمن في داخله من خطابات أخرى تبعاً لآراء رولان بارت وباختين وغيرهما، ومع ذلك فإن الكتاب لا يعني سوى مؤلفه، ومحاولة إجابته عن سؤال ما دفعه للكتابة في لحظة يأس.

تتحدد الكتب عبر حاجتنا الغامضة لها، بل هي ما يكمن في داخلنا من شكوك لا تنجلي

من أجل تضييق مسألة الخوف من الكتاب علينا أن نتجاوز عن طائفة من الكتب التي تتعلق بالغايات الوظائفية، وتلك التي تُعنى بالنتاج التعليمي أو الإجرائي، ونكتفي بتلك الكتب المثيرة للانتباه أو الوعي بمعنى أدق، ونعني مستوى الآداب والفلسفة، والعلوم الإنسانية، كما العلوم الطبيعية، وكل ما يتصل بالرغبة في سد فراغ ما يكمن في داخلنا.

ومع أن الكتّاب أو المؤلفين هم الأكثر تأثيراً في تاريخ الإنسانية، فالصياغات السّماوية قد نزلت ضمن كتب، غير أنّ المؤلفين ربما هم الأقل حظاً، بما في ذلك كتبهم التي تحيل إلى لغة تنوب عن تمثيل العالم كما يرى «ميشيل فوكو»، ومع ذلك ربما يحصل لاعب كرة قدم أو أيّ مؤثّر على وسائل التواصل الاجتماعي ... يقدم محتوى تافهاً أو بسيطاً على مبلغ مالي أو تقدير يفوق ما حصل عليه جميع المؤلفين مجتمعين منذ بدء الخليقة إلى الآن. هذا المسلك يمثل جزءاً من غرابة عقل الإنسان، ومدى ما يعلوه من عوار، غير أنّ هذه التفاهة قد تحتاج إلى كتب تؤرخها، أو تبحث فيها؛ ولهذا كتب «آلان دونو » كتاب «نظام التفاهة»،  بمعنى أنّ مآل كل شيء في كتاب، بما في ذلك تفاهة البشر.  

يعدّ الكتاب محاولة من محاولات رَدم هوة عميقة في داخل الإنسان، فلا عجب أن تتقدم الكتب الدينية التعليمية، أو التفسيرية، كما كتب الأبراج، وتفسير الأحلام، وتطوير الذات والتنمية البشرية على الكتب الأخرى ...ربما لأنها معنية في المقام الأول أو المباشر بهواجسنا، فهي تعالجها بصورة مختزلة، لا تتيح الكثير من التأمل، تهتم بتقديم إجابات منجزة، وتتجنب إقامة حوارٍ مع القارئ،  كما لا تسعى لأن تثير أسئلة، إنما تصادر وعيه، تضعه في مزاج القبول، والتسليم، غير أنّ الكتب الأكثر مشاغبة هي تلك التي تجعلك أكثر ارتباكاً، وحيرة.

ربما يحصل لاعب كرة قدم أو أيّ مؤثّر على وسائل التواصل الاجتماعي ... يقدم محتوى تافهاً أو بسيطاً على مبلغ مالي أو تقدير يفوق ما حصل عليه جميع المؤلفين مجتمعين منذ بدء الخليقة إلى الآن

هل يمكن أن يُقاس تأثير الكتب من خلال قيمتها الحقيقية؟ ومن يحدد ذلك؟ ربما الإجابة عن هذا ستكون متباينة، فالأثر يبقى، ولكن التقدير مهما بلغ شأنه سيبقى تقديراً تاريخياً أو سياقياً، وهنا تبدو حماقات البشر حيث يحتفون بصغائر الأمور انطلاقاً من هيمنة الجماهير التي تفتقر إلى وعي تبعاً لمقولات «غوستاف لوبون» في كتابه «سيكولوجية الجماهير». فالجماهير قد تحتفي بكتاب ساذج، كما نرى في إقبال الجماهير ضمن المعارض على بعض دور النشر ذات المحتوى الموجه للقراء المراهقين، أو الذين يبحثون عن كتب ذات محتوى مباشر، أو كتب تتكئ على قيم العاطفة المباشرة، بما في ذلك القصص الوعظية، والروايات الساذجة، وغير ذلك من مكامن التأثير العاطفي.

لا شك بأن الكتب هي من تضع الكلمة الأولى كما الأخيرة في سطر التاريخ، فالحروب والصراعات بدأت من اللغة، وستنتهي إليها، كما ستؤطر تلك الحروب بالكتاب الذي سوف يقول من انتصر ومن خسر، في حين لن  يبقى أثر لمن اختصموا أو اقتتلوا أو حتى من انتصروا في الواقع.

هناك من يقول بأن بعض الكتب (الروايات) كان لها تأثير في صوغ بعض القوانين وتعديلها، ومن ذلك روايات تشارلز ديكنز، وغيره، في حين ثمة كتب بشرية تسببت في التواءات تاريخية، ومنها كتاب «رأس المال» لكارل ماكس، وكتاب «أصل الأنواع» لداروين، وغيرها، هناك كتب تسببت بموت أصحابها، وطعنهم... لماذا كل هذا الخوف من الكتب! في حين أن الكاتب الكائن الأكثر هشاشة، فهو لا يملك سوى سلطة الكتاب.

تكمن جدلية الكتب في قدرتها على أن تلبي ما يكمن بداخلنا من توقعات تجاه ما نسعى إليه، وهي هنا تتمايز- حسب كل قارئ-  فهناك الكثير من العناصر المتغيرة، غير أنّ الخوف من الكتاب يتجلى حين يصيب الكتابُ شيئاً من الحيرة والمخاوف، أو ربما حين ينقلنا من وعي إلى وعي آخر، أو ربما حين نكتشف عبر كتاب ما بأن كل ما كنا نعتقده ما هو إلا زيفٌ، ووهم، أو ربما يفضي بنا الكتاب إلى متاهات لا متناهية من الحيرة، أو ربما تبقينا على تخوم القلق.

هكذا كانت الكتب على الدوام جزءاً من الألم، في حين يعتقد البعض بأنها جزء من السعادة، غير أنّ الإنسان على الرغم من أنه الكائن العاقل على الأرض إلا أنه لم يتمكن يوماً من ملامسة السعادة. لقد قاده غروره الأبدي إلى المزيد من التيه، وهنا نرى كيف يمكن للمعرفة أن تقود إلى المزيد من الألم، فالإنسان الذي قتل نفسه، وقتل الإله، وخلق أشياء كثيرة من الوهم ...كان على الدوام يؤطر ما يفكر فيه عبر كتاب، ومع الزمن تتهاوى مقولات تلك الكتب لتسمي معرفة متراكمة أو جزءاً من حيرة الإنسان.. أو ربما جزءاً من خطته كي يتخطى عزلته الروحية، أو أزمته... فقط من خلال كتاب...  قد يفشل ... فالكتب تشبه أصحابها... فهم الآلهة التي تفشل دائماً  كما يقول إدوارد سعيد.  

حين تذهب إلى مكتبة ما...  تشعر بالتوجس... رهبة تسكنك، رهبة تتجاوز أحياناً رهبة دور العبادات، فأنت تشعر بأنك أمام خلاصات، أو أسئلة، كما إجابات... ثمة عقول متباينة في رؤيتها للعالم، قد تبدو المكتبة صامتة، ولكنه بداخلها ضجيج لا متناهٍ، ثمة هناك أشخاص راقدون بين الكتب، وإذا ما فتحت كتاباً فسيطل عليك بكلماته، يخاطبك بما يعتقد أنه صحيح... هكذا تبدو الكتاب هواجس للباحثين عن أبعاد أخرى للعالم، ولا شيء يمكن أن يختزل ذلك سوى «بورخيس» في محاولاته المستمرة للعبور في الزمن، ولكن عبر الكتب... ربما لأن «بورخيس» كان الأكثر اكتناهاً لخاصيات المكتبة، وما يمكن أن تحمله من هلوسات حين ترى ذاتك في غير مرآة.

لخوف من الكتاب يتجلى حين يصيب الكتابُ شيئاً من الحيرة والمخاوف، أو ربما حين ينقلنا من وعي إلى وعي آخر، أو ربما حين نكتشف عبر كتاب ما بأن كل ما كنا نعتقده ما هو إلا زيفٌ، ووهم،

لا يبدو الاحتفاء بالكتاب سوى محاولات للبحث عن معنى لوجودنا على المستوى الجمعي، فحين يصدر مؤلفٌ كتاباً ما...  يحضر قلة قليلة من الناس، مجاملة، أو محبة ... يستمعون لنبذة عنه، يحصلون على نسخة، ومن ثم يمضون... قد يشعر الكاتب بنشوة عابرة، يعتقد بأنه قد خطّ شيئا لمقاومة العبث، والضجر، والسأم، أو ربما سعى للإجابة عن سؤال أو طرح سؤال...  هل كان يعتقد بأن كتابه يمكن أن يسكت ضجيج روحه، أم كان يبحث عن شيء من الاعجاب أو شيئاً من الخلود.

 حين يهديني أحدهم كتاباً مشفوعاً  بشيء من الفخر، أو الزهو ، بينما (قد) ينتابني إحساس بالتوعك في المعدة، ولا سيما حين تصفعني الصفحة الأولى حين أجد الكتاب عاجزاً عن إدراك الهوة التي بداخلي.

الكاتب قد تتملكه موهبة مخنوقة أو رغبة كاذبة، غرور ذاتي بالانتماء للمعنى الأكبر، أو محاولة لردم هوة، أو نقص...  فيختار أن يكون كاتبا، هذه الكتابة، أو الكتب التي من السهل تجاوزها، ووضعها في سلة تدوير الأوراق- احتراماً للبيئة - لأنك تخجل من إعادة إهدائها،  فأنت لا تريد أن تلوث فضاء شخص آخر، حينها تشعر بالحزن لأن كتاباً آخر قد خيّب ظنك.  

في المقابل قد يصفعك كتاب مثير .. فإنه يجعلك يقظاً ... محموماً، وحين تنتهي منه تلمس أثراً لا يمكن تعيينه، أو تعريفه، ولكنه -على الأقل-  يترك الأثر الذي تستعيده في موقف ما. ربما نقرأ آلاف الكتب في أعمارنا القصيرة، ولكني أكاد أجزم بأن الكتب التي نتذكرها جيداً قليلة...   لا يتجاوز عددها أصابع (اليدين) لا اليد الواحدة !

أكثر ما يرعبني في الكتب هذه الحيرة التي تنتج عنها ... فلا أستطيع أن أتفهم جدلية علاقتي  بها، فالكتب قادرة على أن تسترد وجودي، أو تنفيه، هل الأمر يعود إلى فكرتها، أو أسلوبها...  لا أعرف، وهل للغة أثر في ذلك، وهل للمناسبة والسياقات أثر في واقعة الكتاب، غير أنني على يقين بأن الكتب جرثومة قد تصيب البعض، ولكنها مع ذلك تبقى الجرثومة الأكثر خطورة في هذا العالم، أو ربما الأكثر جمالاً !

 

رامي أبو شهاب