حسني مليطات: عدم الثقة بين الكاتب والناقد والمؤسسة أسهم بشكل مباشر في إضعاف الاهتمام بالكُتّاب الفلسطينيين
زياد خداش: مسألة الحضور الجماهيري للأمسيات الثقافية مرتبط باسم الضيف
فارس سباعنة: تغير منظومة السلوك والأهداف العامة لا يعني أن المجتمع لم يعد بحاجة إلى ثقافة
تدوين- سوار عبد ربه
تعتبر أشهر السنة الثلاث الصيفية، حافلة بالأمسيات الثقافية المتنوعة، في أي بلد حول العالم، وفي بلادنا أيضا، إذ نرى ازدهارا في إقامة فعاليات ثقافية هنا وهناك، بينها الفني والأدبي والفكري، ولكل حقل منها جمهوره الخاص، الذي يحرص على التواجد في هذه الفعاليات كل حسب هدفه وموقعه.
كنظرة أولية على المشهد الثقافي، يمكن للمشاهد العادي، أن يرى إقبالا واسعا على المهرجانات والأمسيات الغنائية والموسيقية، التي تندرج تحت الفعاليات الفنية، التي تستضيف فنانين فلسطينيين وعرب، رغم أن هذا النوع من الفعاليات تحديدا يتطلب من الجمهور مبلغا نقديا مقابل تذكرة الدخول، بخلاف الفعاليات الأخرى التي يكون الدخول إليها مجانا، والتي يكون فيها عدد المشاركين أقل بكثير من النوع الأول. ربما يفسر هذا الإقبال الكثيف على الفعاليات الترفيهية إلى حاجة الناس إلى تفريغ طاقاتهم، والترويح عن نفسهم، دون وعي منهم أن هذه الفعاليات بالأساس تندرج تحت المفهوم الأوسع وهو الثقافة التي باتت تأخذ صورة نمطية لا يستسيغها الغالبية من الناس. أما الفعاليات الأخرى الأدبية والفكرية فهي أيضا فعاليات ثقافية، لكنهما مرتبطتان بالجانب النظري، والذي يحتاج إلى ذهنية حاضرة وقادرة على استيعاب الأفكار التي تطرح في هذه الفعاليات، وقد تحتاج أيضا إلى جهد لتحليل ما وراء السطور وما يقصده هذا الكاتب أو ذاك في النص أو البيت الشعري، أو أيا كان نوع المادة المعروضة.
هذه النقاط الواردة أعلاه تبدو مفهومة ولا تستجدي وقفة لفهم سبب تفضيل نوع عن نوع آخر، إنما السؤال الذي بات يتردد كثيرا في الوسط الثقافي، سواء لصانعي هذه الثقافة أو لمتلقيها، هو "لماذا تستقطب فعاليات فكرية وأدبية عشرات الأشخاص، في حين فعاليات أخرى من ذات النوع يكون عدد الحضور فيها لا يتجاوز أصابع الكف الواحد"؟، الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة حول واقع المشهد الثقافي الفلسطيني اليوم، وعن الحضور الجماهيري لهذه الفعاليات وعن الفئة المستهدفة كذلك، إضافة إلى جدوى الاستمرارية في تقديم فعاليات من هذا النوع للمجتمع، في واقع متسارع ومليء بالتحديات.
وللإجابة على هذه التساؤلات التقت تدوين بمجموعة من العاملين في الحقل الثقافي الذين تباينت قراءاتهم لواقع المشهد الثقافي الفلسطيني.
يرى الباحث حسني مليطات أن المشهد الثقافي الفلسطيني اليوم، يعاني من حضور فعليّ للمهتمين بالشؤون الثقافية المختلفة؛ بسبب العزوف عن القراءة، وعدم الاهتمام بالإنتاج الثقافي عند الشباب تحديدا، وندرة الندوات الثقافية التعريفية بذلك النتاج، بالإضافة إلى عدم الثقة بين الكاتب والناقد والمؤسسة، وهذا أسهم بشكل مباشر في إضعاف الاهتمام بالكُتّاب الفلسطينيين، لا سيما الشباب منهم؛ وهذا ينعكس مباشرة على ندرة الندوات الثقافية وقلّة الحاضرين فيها.
كما اعتبر مليطات أن ضعف القراءة في المجتمع أسهم في ذلك كله، حيث لم يعد هناك ترويج فعلي للكتاب، ولا للموارد الثقافية المختلفة، وبالتالي، ضعف الاهتمام بالمطالعة ومواكبة كل جديد من أعمال أدبية مختلفة.
ولعل العصر الرقمي الذي نعيشه لعب دوراً آخر في ذلك الضعف، إلا أنّ قلّة التحفيز الأسري والمجتمعي على الاهتمام بالقراءة هي العامل الفعليّ في ضعف المشهد الثقافي في فلسطين، وفقا للباحث.
قلّة التحفيز الأسري والمجتمعي على الاهتمام بالقراءة هي العامل الفعليّ في ضعف المشهد الثقافي في فلسطين
واعتبر مليطات أن وجود نوادٍ متخصصة ومشجعة لقراءة الكتب، واهتمام المؤسسات الثقافية بها، والتعرّف إلى المواهب الشابة، وتشجيعها، وتكريمها، وتخصيص ندوات ثقافية للتعريف بها وبنتاجها، قد تكون حلا.
إشراك الفئات المعنية
من جانبه، قال الشاعر والإعلامي فارس سباعنة، إنه من المهم اليوم أن نعيد تعريف العمل الثقافي بمفهومه المجرد، لنصل إلى أنه عملية اتصال وتواصل هدفها إثراء الحالة الثقافية بسبب الحوار الذي سينشأ نتيجة هذا الاتصال.
أما ما يشكل تحديا حقيقيا أمام أي فعل ثقافي بحسب سباعنة هو التحولات في السلوك الاجتماعي، إذ أصبح ذهن الإنسان الفلسطيني منشغلا في متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبح الإيقاع اليومي للحياة مرتبطا بالمعلومات التي يتلقاها الدماغ من هذه المواقع.
وهذا السلوك، وفقا لسباعنة، هو من يشكل تحدٍ على نمط الفعل الثقافي العادي أو التقليدي.
إلا أنه في الوقت نفسه، يرى الشاعر أن فكرة التساوق مع حتمية أن هذا هو سلوك الناس، ليس إيجابيا، فهناك احتجاج أصلا على أن يصبح ارتباط الإنسان الذهني والنفسي متعلقا بهذا النمط من السلوك.
وفي هذا السياق، اعتبر الكاتب زياد خداش أن مسألة الحضور الجماهيري في الأمسيات الثقافية، الأدبية على وجه التحديد مرتبطة باسم الضيف أو المبدع المعلن عن أمسيته ليأتي إليها الجمهور، وليس بانشغالهم في وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها من العوامل.
وبحسب خداش، إذا كان الكاتب الذي سيقرأ في الأمسية ساحرا أو ملهما، كما إبراهيم نصر الله، محمود درويش، وسميح القاسم، ومريد البرغوثي وغيرها من الأسماء، سيأتي مئات وآلاف الأشخاص للحضور، بينما إذا كان الكاتب صاحب الأمسية يكتب القصص والقصائد، التي لا تؤثر ولا تحفر في وعي الناس، سيلاحظ الضعف الجماهيري في هذه الحالة.
ولا يرى خداش أن لطريقة الإعلان أو لغة التخاطب مع الجمهور دور في استقطابهم، إنما أمر الحضور مرتبط بمدى الهام الشخصية وتأثيرها على حياة الناس.
حلول مقترحة
وطرح الشاعر فارس سباعنة في لقاء خاص مع تدوين مجموعة من الحلول التي من شأنها أن تثري الواقع الثقافي، ومن بينها: "أن تعمل الجهات المعنية في الفعل الثقافي مع بعضها البعض، حتى يكون المخرج من هذا الفعل محتوى قيّما، فالمادة التي يبذل فيها جهد، تكون ذات قيمة وتستحق أن تأخذ مكانتها".
وفي حل آخر، اعتبر سباعنة أن المجتمع محب لسماع ومتابعة القصص، لذا يمكن أن يتحول المحتوى إلى قصة يتداولها الناس بطريقة عالية الجودة، حيث تلامس واقعهم واحتياجاتهم وأجوبتهم وذاكرتهم.
وأخيرا يرى سباعنة أنه من الضروري التشارك بين الجهات الثقافية، إذ ليس من المنطق أن تتنافس هذه الجهات على مجموعة من المهتمين بالشأن الثقافي، وما يجب أن يحصل هو تنسيق عالٍ فيما بينهم، لأن المشروع واحد، بالإضافة إلى أنماط التواصل الاجتماعي التي يمكن أن يكون أثرها أكثر جدوى.
من الضروري التشارك بين الجهات الثقافية، إذ ليس من المنطق أن تتنافس هذه الجهات على مجموعة من المهتمين بالشأن الثقافي، وما يجب أن يحصل هو تنسيق عالٍ فيما بينهم، لأن المشروع واحد
أما فيما يتعلق بضعف الحضور الجماهيري، اعتبر الشاعر أن الفاعلين في الحقل الثقافي لا يبحثون عن عدد إنما عن محاولة لإشراك شرائح المجتمع المختلفة في الفعل الثقافي، وهذا يحدث بالتعاون بين مختلف الجهات الثقافية المتمثلة بوزارتي الثقافة والتربية والتعليم، والبلديات، وأصحاب المشاريع الثقافية، والمدارس.
ويحدث هذا وفقا لسباعنة من خلال محاولة التعرض بشكل جماعي لتجارب فكرية وثقافية معينة تساعد الإنسان على تطوير قدرته على التحليل والتفكير والوصول لقناعات أكثر رسوخا، الأمر الذي يحتاجه كل الناس، لأن الكل يصطدم بمجموعة من المشاكل والتفاصيل التي تجعله يرى العالم بمنظور مختلف، أو يتعرض لتجارب الآخرين.
وعرج سباعنة على عالم الكتابة تحديدا، لأن من خلاله يمكن للقارئ أن يتعرف على حياة جديدة، لخصها صاحب هذا الكتاب من خلال شخصياته أو محتواه داخل هذا المشروع.
الثقافة جدوى مستمرة
وفي هذا السياق يرى الشاعر أن الفعل الثقافي لا ينشأ من فراغ إنما ينشأ بسبب الحاجة له، وبسبب وجود حقيقة معينة أنتجت هذا الفعل، فالحكاية التي توثق تجربة وطنية، شارك فيها أشخاص، هناك غيرهم ممن هم معنيون فيها، وهناك آخرون يهمهم أن يتذكروها.
الانطباعات التي نكونها عن الواقع ليست واقعية تماما، إذ توجد تدخلات وتكنولوجيا وواقع سياسي واجتماعي وثقافي أنتج منظومة سلوك مختلفة ومتغيرة
كما أنه ووفقا لسباعنة، فإن الانطباعات التي نكونها عن الواقع ليست واقعية تماما، إذ توجد تدخلات وتكنولوجيا وواقع سياسي واجتماعي وثقافي أنتج منظومة سلوك مختلفة ومتغيرة، ولكن هذا لا يعني أنه في حالة تغيرت منظومة السلوك أن الأهداف العامة تغيرت، أو أن المجتمع لم يعد بحاجة إلى ثقافة.
صورة نمطية
وختاما، إن صورة المثقف في المجتمع الفلسطيني باتت محملة بأفكار مسبقة، كما أن للثقافة نفسها صورة نمطية انعكاسها في أذهان الناس مرتبط بمجموعة من الناس (يتحدثون كثيرا، ويتفلسفون)، إلا أن سباعنة يرى أنه كي تتلاشى هذه الصورة النمطية يجب العودة إلى فكرة الثقافة بمفهومها الطبيعي والحقيقي، فكي يعيش البشر، هم بحاجة إلى ثقافة، وكي يتعايشوا مع بعضهم البعض، أيضا بحاجة إلى ثقافة مشتركة، كما أن قدرة الناس على تنمية ثقافتهم بشكل عام، هي جزء من تنمية المجتمعات.
وبحسب الإعلامي فارس سباعنة؛ من أسهم في تعزيز هذه الصورة النمطية لدى الناس هو الإعلان الذي يحبس المحتوى الثقافي داخل أطر لغوية ونظرية.
وبحسب سباعنة؛ هذا الحوار يجب أن يظل فعالا بشكل دائم، ويجب أن تحيّد الأفكار التي تقول إن أحدا لم يعد مهتما بالثقافة، لأن هذا كلام غير واقعي وغير مدروس، كما أن على كل عامل في هذا الحقل، أن يعمل على تطويره وفقا للمساحات المتاحة أمامه.