تدوين- توفيق العيسى
الرواية التاريخية ليست حجرا أو تمثالا وجد هنا أو هناك، فوجود أثر كهذا لا يعني أنك أنشأت رواية، ففي علم الآثار أو الأركيولوجيا وهي علم دراسة بقايا الإنسان من آثار مادية يعتبر دراسة مكان ومستوى طبقات الأرض في المكان الذي وجد فيه الأثر ضرورة لمعرفة قيمته التاريخية، ومع ذلك فإن متاحف أوروبا تضج بآثار لم يدرس سارقوها ما سبق ذكره ولم يتعرفوا حتى على مستوى طبقات الأرض الذي وجد فيه أو مع ذلك فإن هذه الآثار أو " المساخيط" على راي المصريين تباع بالملايين، على الرغم أنه من المفروض أنها فقدت قيمتها التاريخية والأثرية، وهذا يدل أن هناك من سينسج رواية على حجر، بغض النظر عن معناه المادي، وهذا بحد ذاته تقول على الرواية.
لقد أبدع الاستعمار حين حصرنا في خياراته، وجعلنا سدنة تاريخيين لشروط تقبله أو رفضه لرواية ما، من خلال أمرين، سباق ماراثوني يبدو ظاهريا أنه منطقي في من سكن الأرض قبل الآخر، وفي صراع سياسي يتسابق في هذا الماراثون ستجد الطرفين يدعيان السبق في الوجود، حتى لو لم يملكا دليلا علميا على ذلك، وهذا يثبت أن هذا الماراثون ليس سوى وهم استعماري، فلم تكن القضية في أي بقعة من بقاع العالم هي من سكن أولا لكنها تأخذ المنحى الصراعي وأحيانا التناحري في مقومات الوجود الحالي وليس السابق، وأما الماراثون الثاني فهو قصة الآثار تحت الأرض والتي بموجبها تعطي حقا لأحد وتسلب الحق من الآخر، والأغرب حين نجمع كفلسطينيين _ ومطمئنين_ على عدم وجود آثار إسرائيلية أو يهودية، قناعة منا أنهم لم يكونوا هنا وأننا السباقون اعتمادا على المارثون الأول، وهذه الحجة قابلة للنقض، فماذا لو وجد الإسرائيليون أثرا فعلا؟! هل سنسلم لهم ونقول هذه أرضكم؟! ولماذا يعتبر أثر ما صك ملكية! ومبررا لطرد آخرين؟! ثم ماذا لو وجدو أثرا بقيمة تاريخية ما ووجدنا نحن أثرا بذات القيمة، كيف ستقسم المعادلة؟! إن وجود أثر من عدم وجوده لا يعطي صك ملكية لأحد، ولا ينفي وجود آخر، وما هذه الترهات بالانثروبولوجيا أو الأركيولوجيا لكنها تخصص في علم "الأونطلوجيا" حسب تعبير الراحل سيد درويش، فمجرد أن نقنع أنفسنا أنه طالما لم يجدوا أثرا فالبلاد لنا، فهذا معناه أننا نقامر بالأرض ونقامر بوجودنا فيها لصالح الصدفة أو الغيب، وهذا بحد ذاته ليس رواية تاريخية مفادها لن يجدوا فالبلاد أذن لنا.
لقد أبدع الاستعمار حين حصرنا في خياراته، وجعلنا سدنة تاريخيين لشروط تقبله أو رفضه لرواية ما، من خلال أمرين، سباق ماراثوني يبدو ظاهريا أنه منطقي في من سكن الأرض قبل الآخر، وفي صراع سياسي يتسابق في هذا الماراثون ستجد الطرفين يدعيان السبق في الوجود
إن وجود أثر في باطن الأرض أو على سطحها، يحدد تاريخ هذه الأرض وروايتها التي سينسجها من فوق الأرض الآن، وهي بالضرورة أي الآثار تعود للأرض وللثقافة التي أنتجتها سابقا، لكنه من المعيب أن يحدد وجود قاطني الأرض، وأن يتحول الصراع إلى ماراثون للبحث بدلا من إعطائه صفته الحقيقية السياسية والديمغرافية وقضية وجود بحد ذاته.
فمثلا، هل يحق لليونان المطالبة بملكية مدينة الإسكندرية لمجرد أن جدهم الإسكندر الأكبر بناها؟ فالمدينة تعتبر أرضا لشعب بغض النظر عن اسم مقاول البناء وهي مجموعة علاقات اجتماعية واقتصادية متعددة الأطوار الإنسانية دفع ثمنها دما في مراحل تاريخية متعددة، ومن هنا تأخذ روايتها لا من السبق الأثري.
وعودة للسؤال، ماذا لو وجد الإسرائيليون أثرا تاريخيا؟ إن وجوده لا يعطي صك ملكية الأرض لهم كما قلنا، فأي أثر يعود لشعب الأرض ولأبناء الرواية، وهنا علينا ألا نستكين لمسمياتهم أو مسميات نطلقها نحن عليهم تحت عنوان "الرواية الإسرائيلية واليهودية والتوراتية"، إن رواية سكان مستعمرة تل أبيب رواية احتلالية فقط لا هي يهودية ولا توراتية ولا إسرائيلية، ولكنها تحمل المسميات كغطاء لمستعمرة تعتبر اليد الطولى للاستعمار في المنطقة، أما المسميات السالفة الذكر فهي ملكنا نحن، فبني إسرائيل والتوراة وحتى اليهود الأوائل الذين هم من بني إسرائيل ومنهم من كان من غير بني إسرائيل هي شخوص رواية نملكها نحن أبناء هذه الأرض والمنطقة كاملة، وليست ملك يهود الخزر وأوروبا، وصراع يهوشع بن نون وداوود مع جالوت هو أمر يخصنا نحن، ليس لهم أن يبدوا حتى رأيهم فيه، فنحن شخوص الرواية فقط.
ومن الناحية العقائدية والدينية يحق لهم الإيمان بالتوراة وبالشخوص المذكورين، ويحق لهم أن يلبسوا "الكيباه" على رؤوسهم أو بلبس أي خرافة يريدون، ويناطحوا حوائط مبكاهم كما بريدون ولكن في كنس أوروبا، دون ادعاءات دينية وتاريخية بملكية ما.
فالرواية الاحتلالية تتبنى قصص التوراة ليست باعتبارها قصص المنطقة وشخوصها، ولكن باعتبار أنها صراع بين كتلتين كل منهما يحاول أن ينفي وجود الآخر ويفنيه، استجابة لدورها الاستعماري في نفي وجود الفلسطينيين.
إن رواية سكان مستعمرة تل أبيب رواية احتلالية فقط لا هي يهودية ولا توراتية ولا إسرائيلية، ولكنها تحمل المسميات كغطاء لمستعمرة تعتبر اليد الطولى للاستعمار في المنطقة
والقصص التوراتية في حقيقتها اتفقنا مع بعضها أو اختلفنا وحتى إذا ما انتقدناها لتبيان تناقضها، كما فعل الراحل الكبير أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الأول في كتابه "خرافات يهودية" هي ثقافة منطقة كاملة كتبت عبر تفاعل شخوصها باعتبارهم ساكني هذه البلاد والمنطقة ككل، وهي ملك لهم حتى بخرافاتها وادعاءاتها بالتفوق على غير المؤمنين فيها أو في بعضها، تحت مفهوم الأغيار، ولكن إذا ما دققنا في الرواية الاحتلالية التي تستغل صراعا داخليا بين أبناء المنطقة لتدعي ادعاءاتها في الملكية، فسنجد أن هذا البناء الدرامي الشاهق من قصص متأثرة أدبيا ونفسيا من مآسي الإغريق حتى الحكايا الشعبية هنا، _ وهي دراما لا شك مثيرة وجاذبة وذكية في بنائها_ إلا أنها وبسذاجة أعطت للفلسطيني مفاتيح نقضها، وكأن داوود عندما قتل جالوت، غادر أرض المعركة دون أن يأخذ مفاتيح الرواية من جالوت، وظل قابضا عليها، _ والحديث هنا عن داوود وغيره في الرواية الاحتلالية وليس الحقيقية_ ومفاتيحها أو مفاتيح نقضها، هي اعتبار القول بصراع نقيضين أو كتلتين إسرائيلية يهودية وفلسطينية، فوجود الفلسطيني شرط أساسي من البناء الدرامي للتوراة باستخدمها كرواية احتلالية، فنحن باختصار شرط وجود روايتهم ولن يتمكنوا من إثباتها إذا ما أنكروا وجودنا، فإنكارنا سيهدم هذا البناء الدرامي، بينما روايتنا القديمة لا تشترط وجودهم، إن وجدوا فيها أم لا.