الأحد  05 أيار 2024

من يتبرع بهذا الكتاب للفدائيين؟

2023-08-25 11:17:51 AM
من يتبرع بهذا الكتاب للفدائيين؟
غسان كنفاني

تدوين- نصوص 

عام 1996 صدرت الطبعة الأولى لكتاب "مقالات فارس فارس.. كتابات ساخرة" عن دار الآداب، ضمت مجموعة من المقالات الساخرة والناقدة التي كتبها الأديب الشهيد غسان كنفاني بأسماء مستعارة، أحدها فارس فارس، في ملحق الأنوار الأسبوعي خلال عام 1968، وفي مجلة الصياد من أوائل شباط عام 1972 حتى أوائل تموز من العام نفسه، ومقالات قصيرة كان ينشرها في جريدة المحرر خلال عام 1965.  

وفيما يلي مقال بعنوان: "من يتبع بهذا الكتاب للفدائيين"، نشر بتاريخ 12 أيار 1968، حول كتاب حرب العصابات لماوتسي تونغ:

أفضل ما يستطيع عربي ثري أن يفعل هذه الأيام، هو أن يشتري خمسة آلاف نسخة من كتاب "حرب العصابات" بقلم المعلم ماوتسي تونغ، ويوزعها ذات اليمين وذات اليسار على كلّ فدائي، عامل وعلى كلّ من يعرف بأنه عاجلاً أو آجلاً سوف يصير فدائياً!

ثمن النسخة الواحدة ليرتان، وأنا متأكد أنَّ دار الطليعة التي نشرته سوف تبيعه لمشروع من هذا النوع بسعر أقل. وفي رأيي أنَّ هذا الكتيب الصغير الذي يمكن أن يوضع في كيس الرصاص، أو في جيب البزّة العسكرية، يوازي في أهميته البندقية الرشاشة التي هي الصديق الأول والأخير للفدائي!
وهذا الكتاب الذي لم يترجم قبل الآن للعربية يختلف عن كل الكتب التي بحثت في الموضوع ذاته، فهو لا يتفلسف ولا يتفذلك، لا يناقش ولا يجادل، إنَّه يضع دستور حرب العصابات ببساطة أولاً وثانياً وثالثاً، من طق طق لسلامو عليكم.

في صفحاته الـ 140 يتحدّث أستاذ حرب العصابات ماوتسي تونغ، بجمل قصيرة وواضحة، عن الصيغة العملية لقتال الأنصار أو الفدائيين أو مقاتلي جيش التحرير الشعبي، بادئاً من كيف يتعين على الإنسان المقاتل أن يحمل الحجر والسكين والرشاش، منتهياً إلى أصول التثقيف السياسي في وسط المقاتلين.
هذا الكتيب الصغير الذي لا يمكن لأحد أن يقدر قيمته العملية، يتحدث ماوتسي يونغ عن كلّ عناصر وتكتيك حروب العصابات عن التنظيم، والمهمات والعمليات، والهجوم المفاجئ، والمخابرات والكمائن والهجمات على وحدات التموين، وعلى وحدات المواصلات، وتنظيم شبكة الاتصالات وتدمير الشبكات المعادية، وأمكنة الاختباء وأصول التوقف والتدريب، والعمل السياسي.

إنَّه، كرجل صيني مجرّب، يتحدّث كقائد حكيم أكثر مما يتحدث كفيلسوف نظري، إنه لا يهمل حتّى الإشارة إلى وزن رزمة القرطاسية التي يتعين على وحدة مقاتلة أن تحملها، ولا ينسى أن يصف أفضل الأمكنة لنصب الكمين، ولا حتى فن القتال بالشائعات!

يقول، مثلاً : "إنَّ القوة المروعة التي تمتلكها وحدةُ العصابات لا تعتمد بلا شكّ اعتماداً كلياً على قوتها العددية، ولكن على استخدامها للهجمات، المفاجئة والكمائن، كأن تثير الضجيج في الشرق وتضرب في الغرب".

يضع ماو الدستور البسيط التالي: "عندما يتقدّم العدوّ نتقهقر وعندما يتراجع نطارده، وعندما يتوقف نناوشه، وحين يتعب نسحقه".

وهذه المبادئ التكتيكية تخدم في الواقع أساساً استراتيجياً واضحاً، يصفه ماو كمايلي: "إنَّ الغاية النهائية لحرب العصابات هي نزع سلاح العدو بالتأكيد وتدمير طاقته القتالية واسترداد الأراضي التي احتلها وإنقاذ أخوتنا الذين يدوسهم تحت أقدامه (أتراه يتحدث عن ٥ حزيران؟) ولكن حين لا يكون ممكناً تحقيق هذا الهدف، بسبب ظروف موضوعية وعوامل أخرى من أنواع مختلفة، يحدث أحياناً أنَّ المناطق التي لا تتأثر بالقتال يسيطر عليها العدوّ بكل هدوء. إنّ هذا يجب ألا يحدث. وبسبب هذه الإمكانية، يجب أن نفكر بأساليب لإيقاع تخريب اقتصادي وسياسي في هذه المناطق، وتدمير وسائل
المواصلات، حتى تكون أرضنا، مع أن العدوّ احتلها غير مفيدة له، ولهذا يصمم على الانسحاب بمبادرته الخاصة".

ولننتبه الآن إلى هذا المقطع العملي، والبساطة المذهلة التي يضع فيها ماو خارطة العمل، يقول: يجب أن نراعي في حرب العصابات هذا المبدأ "إن كسب الأرض ليس سبباً للفرح، وخسارة الأرض ليست سبباً للأسف". إن خسارة الأرض أو المدن ليس ذات أهمية، إنَّ الشيء الهام هو اكتشاف الأساليب لتدمير العدوّ. فإذا كانت قدرة العدوّ الفعّالة لا تتناقص، حتّى إذا احتللنا المدن فسنكون غير قادرين على الاحتفاظ بها، وبالعكس، فحين تكون قواتنا الخاصة غير كافية فإنّنا عندما نتنازل عن المدن فسيكون لدينا الأمل
باسترجاعها، وأنه من غير المناسب كلّياً أن ندافع عن المدن إلى الحد الأقصى، لأن هذا يقود فقط إلى التضحية بقوتنا الفعّالة.

إذا لم أكن مخطئاً فإن هذا هو أهم كتاب أنتجنه دور النشر العربية التي أغرقت الأسواق خلال العام الماضي بكتب عن حروب العصابات. بوسعنا ببساطة أن نصف هذا الكتاب بأنه: "كتاب الفدائي"، يجب أن يحمله مع جعبة الرصاص، والطعام، والبوصلة (خصوصاً البوصلة). إنَّه دستور عملي تماماً مثل كتالوج المدفع الرشاش، وهو جزء لا يتجزأ من التدريب، وسأكون مندهشاً حقاً إذا لم يكن تحت وسادة كلّ فدائي نسخة منه.

وأنا آسف إذ أبدو وكأنني أنشر دعاية هوجاء لدار الطليعة. فالحقيقة أن الترجمة ليست من الدرجة الأولى، وكان بالوسع أن نقدّم ترجمة أكثر دقة ووضوحاً لو عهد بهذا العمل إلى اختصاصي بالشؤون العسكرية "إنَّ هيثم الأيوبي وأكرم ديري في هذا المجال لا يشق لهما غبار" خصوصاً وأنَّ الكتاب الذي ألقاه ماوتسي تونغ كمحاضرات للمقاتلين أثناء حرب التحرير ضد الاحتلال الياباني للصين يحتاج إلى دراسة مرافقة بالهوامش واستنتاجات يستخلصها المترجم من الأساس لتضحي ملائمة للحالة العسكرية المعاصرة.

فماو يتحدث كثيراً في كتابه عن الخيل، وقوافل التموين ومخازن الحبوب، ومما لا شكّ فيه أنَّ حديثاً من هذا النوع كان يتجه مباشرة إلى مقاتلين يواجهون الحالة التي يتحدث عنها حرفياً، من حيث المبدأ لا يتغير شيء، أمَّا من حيث التفاصيل فإنَّ مترجماً عسكرياً له اطلاع على تطوّرات حروب العصابات يستطيع أن يضع في الهوامش، البدائل المناسبة.

ورغم كلّ هذه النواقص، يظلّ الكتاب في الحقيقة ثروة لا غنى عنها، ونظلّ بحاجة إلى رجل ثري ومتحمس، يشتري آلاف النسخ منه، ويوزعها على المنظمات الفلسطينية الفدائية مجاناً، وله الشكر والثواب ... والدعاية !