الأحد  22 كانون الأول 2024

ناجي العلي والقبر المفتوح- رولا سرحان

2023-08-29 11:14:10 AM
ناجي العلي والقبر المفتوح- رولا سرحان
كاريكاتير "مقبرة الغربة" لناجي العلي

تدوين- آراء ومدونات

 

يا قبر ناجي العلي وينك يا قبر

يا قبر معجون بشوك مطلي بصبر

الموت يقرب عليك يرتد خوف

وإذا ما خافش الموت يرتد جبر

بهذه الأبيات رثى الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي الفنان الفلسطيني ناجي العلي في ديوانه "الموت على الإسفلت". ويطرح الأبنودي في قصيدته العامية سؤالا أقرب ما يكون إلى سؤال فلسفي من كونه سؤالاً بصيغة أين هو القبر بالمعنى المتعين مكانا وحدَّا: "وينك يا قبر". فالربط ما بين الحقيقة الماثلة في موت ناجي العلي ودفنه في مقبرة بروكوود في لندن، ستتناقض مع حقيقة منطقية أخرى، أن القبر ما يزال قبرا لا نهائياً. فقد أوصى ناجي العلي بدفنه في قريته الشجرة، ولما علم بصعوبة تحقق ذلك وهو يصارع الموت، أوصى بدفنه في مخيم عين الحلوة بالقرب من ضريح والده. ولكن المفارقة تكمن في أنه ما يزال حتى اليوم مدفونا في لندن، وهو ما يعني أن القبر لم يصبح قبرا نهائيا مغلقاً على إغلاقته الأخيرة، بل يصبح قبرا مفتوحاً على احتمالية مستقبلية ممكنة، وماثلة في إمكانية تحقيق رغبة ناجي العلي في الاستقرار في قبره النهائي الذي اختار مكانه.

الوصية التي لم تتحقق تحول القبر المغلق إلى قبر مفتوح، وكثيرة هي القبور المفتوحةُ في فلسطين، أكثرها استدعاء قبر الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي أوصى أن يدفن في القدس، وهو اليوم مدفونٌ في ضريحه في رام الله. وقبر الشاعر محمود درويش، الذي أوصى في رسالة بعثها إلى سميح القاسم بأن يدفن تحت شجرة الخروب في قريته البروة، وقبره اليوم في رام الله أيضاً.

بالإمكان النظر إلى القبر المفتوح باعتباره المقولة السياسية النهائية لصاحبها، والتي تعيدُ ترتيب المواقف المتناقضة والمختلف عليها والتي رميت بسهام النقد في كثير من الأحيان. وهي كذلك، مقولة محبة، على قاعدة أن الاختلاف لا يفسد في الموت قضية، إذ إنها تجسر حدة الخلافات الشخصية وحدة الخلاف في وجهات النظر. فقد اختلف ياسر عرفات مع ناجي العلي، واختلف ناجي العلي مع محمود درويش، واختلف محمود درويش مع ياسر عرفات في أحيان كثيرة، ولكن ثلاثتهم اتفقوا في وصيتهم على مقولةٍ سياسية واحدة، وهي أن المكان النهائي للفلسطيني، هو مكانه الأول الذي ولد فيه، ونشأ فيه، ومن ثم طرد منه، وعليه أن يعود إليه، وإن في قبر.

وليست وصية القبر المفتوح بقليلة الفحوى أو الدلالة، فهي مقولة معقدة توازي تعقيد علاقة الفلسطيني بعدوه بالصراع بينهما. لأنها مقولةٌ مرتبطة بالمكان المتصارع عليه وفوقه. فما دام القبر مفتوحا ما دام الميت حيا يصارع الأحياء وعدوهم من أجل عودته النهائية، ليحقق القبر المفتوح مقولة الحق في العودة والحق في الموت في المكان الصحيح، وهو حق إنساني بسيط لم تتطرق إليه المعاهدات والمواثيق الدولية ولا حتى اتفاقية جنيف الرابعة المعنية بحقوق الإنسان. ولا غرابة في ذلك، لأنها مقولةٌ تطردُ بقوة مقولة المنفى، ووطن الغربة، وعلاقة الموت منفيا خارج الوطن أو منفيا داخل الوطن بالحق في الموت في المكان الذي يراه المنفي مكانه ووطنه الأول والأخير. وهي مقولة تُخضع الطارد والمطرود إلى شرط الضرورة في تحقيق العدالة، التي هي في هذا الزمن عوراء أو بعين واحدة، ترضى بتحويل المنافي إلى أوطان، وتحويل الأوطان إلى منافٍ.

يطلق القبر المفتوحُ سهاماً باتجاه المكان المفترض، فهنا قبرٌ أولي مفتوح، وهناك قبرٌ نهائي مغلق. ويرتبط إغلاق القبر بعملية استرداد المكان كي يصبح الوطن المفقود وطن القبر النهائي. إذ لا يمكن في عرف الفلسطيني أن يكون القبر المفتوح هو قبره النهائي قرُب من مكان دفنه أم بعد. لذلك، يدفن ناجي العلي الغربة، ويعلن وفاتها في رسمته الكاريكاتورية "مقبرة الغربة". وحدها الغربة تدفن في الغربة، وتصبح شاهدة القبر هي حقيبة السفر. فالفلسطيني لا يدفن في الغربة، بل المنفى والشتات هما اللذان يدفنان هناك، أما الفلسطيني فيظل قبره مفتوحا حتى يدفن في قبره النهائي متمماً حكايته.  

ناجي العلي