تدوين- ذاكرات
تحل في 8 أيلول من كل عام ذكرى ميلاد رسول حمزاتوف، الشاعر الدغستاني الذي يعد أحد الشعراء الكبار مثل أصدقائه ناظم حكمت وبابلو نيرودا ولويس أراغون والجواهري، وهو الذي من إحدى عباراته البسيطة تماما يمكن اكتشاف مدى عبقريته الفذة كشاعر وإنسان وحكيم.
يقول الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف "ليس الكاتب من يستطيع توظيف التراث، بل الذي يصنعه" وبالتالي أصبحت جمله الشعرية جزءا من التقاليد والتراث اليومي المتداول مثل الأمثال الشعبية والحكم، إضافة إلى جمالياتها الفنية التي استطاعت أن تملأ الفراغ الخانق بعد رحيل يسنن ومايكوفسكي وغوميلوف وبلوك وتسفتايفا وأخماتوفا ومجموعة المستقبليين الروس.
ولد حمزاتوف في 8 سبتمبر عام 1923 بقرية «تسادا» التي تقع في داغستان شرق جمهورية جورجيا في أسرة الشاعر المعروف حمزة تساداسا. كان أبوه ينظم الشعر باللغتين الآفارية والعربية، ويقال إنّه كان يستخدم لغة الضاد في الغزل ليتوقّى شرّ قبائل النساء اللاتي كان يتشبّب بهنّ.
يقول حمزاتوف في كتابه «داغستان بلدي»: عندما ولدت، دعا والدي إلى بيته وجهاء القرية، جاء كلّ واحد منهم يحمل بين يديه جرة ذات بطن من صنع خزّافي بلخاريا. جلس هؤلاء في وقار ورزانة في أنحاء البيت وكأنّ عليهم أن يقرروا مصير بلد بأكمله، واحد منهم فقط ذو رأس ولحية أبيضين كالثلج، هو أكبرهم، كانت يداه طليقتين. هذا الشيخ هو الذي سلمتني إليه أمي آتية من غرفة أخرى.
كنت أتخبط بين يدي الشيخ، وكانت أمي تقول له:
سمِّه ِإذاً - ولأسمعن أنا أمه - ولتسمع القرية كلها، وداغستان كلها الاسم الذي ستدعوه الآن به،
رفعني الشيخ عالياً إلى سقف البيت وقال:
- اسم البنت يجب أن يشبه بريق النجمة أو لطف الزهرة، واسم الرجل يجب أن يتجسد فيه صليل السيوف وحكمة الكتب. لقد عرفت الكثير من الأسماء، وأنا أقرأ الكتب، لكن كتبي وسيوفي تهمس لي الآن بالاسم «رسول».
انحنى الشيخ فوق أذني وهمس قائلاً:
«رسول».
ثم انحنى فوق أذني الثانية وصرخ بصوت عال: «رسول»، ثم أعطاني، أنا الذي كنت أبكي، إلى أمي، وقال متوجهاً إليها وإلى كل الجالسين في البيت:
- «ها هو ذا رسول».
هكذا أطلق على الطفل اسم رسول تيمّناً باسم الرسول العربيّ في أسرة كانت تتوارث تعلُّم اللغة العربيّة وتلاوة القرآن الكريم.
بعد ولادة رسول مباشرة، اضطر والده إلى الانتقال إلى قرية أراديريخ. وضع الوالد على سرج جواده «خُرجاً» جمع في أحد جانبيه ملابس وبقايا طحين، وفي الجانب الآخر ابنه الصغير.
يقول حمزاتوف: «بعد أن وصلنا، مرضت أمي مرضاً شديداً. وفي القرية التي انتقلنا إليها حدث أن وجدت امرأة وحيدة مات صغيرها منذ مدة. هذه المرأة أخذت ترضعني، فأصبحت مرضعتي وأمي الثانية. وهكذا أنا مدين لامرأتين على هذه الأرض. فدين الأبناء لا نهاية له. هاتان المرأتان إحداهما أمي، تلك التي ولدتني، وأول من هزَّ سريري، وغنى لي أولى الأغنيات وتلك الأخرى، التي قدمت لي صدرها حين كان محكوماً عليَّ بالموت، فبدأ دفء الحياة يسري في بدني فتحولت من درب الموت الضيق إلى طريق الحياة، هي أيضاً أمي».
في عام 1945 سافر رسول إلى موسكو، والتحق بمعهد غوركي للأدب ومعه القليل من كتبه باللغة الآفارية ومبلغ زهيد من المال. درس اللغة الروسية، ومن خلالها تعرّف إلى الأدب العالمي عامّة وإلى الأدب الروسي على وجه الخصوص.
انضم بعد تخرّجه إلى المعهد نفسه بوصفه مدرّسا للآداب، لكن سرعان ما اقتحم عالم السياسة، فعيِّن نائباً بمجلس السوفييت الأعلى ورئيسا لاتحاد كتَّاب داغستان، وحصل على لقب «شاعر الشعب» عام 1958، ثم على جائزة لينين وجائزة لوتس الأفروآسيوية وجائزة نهرو.
الشعر والجرار
أصدر الشاعر أكثر من أربعين عملاً أدبيّاً أغلبها كان مكتوباً باللغة «الآفاريّة» باستثناء دواوينه الثلاثة الأخيرة التي كتبها باللغة الروسية.
لم يجر شعر حمزاتوف على أسلوب واحد، بل كان مزيجاً من الأساليب، فيه من الغنائية شجنها وعذوبة معجمها ومن الدراميّة توترها وتعدّد أصواتها، ومن الملحميّة قوّة عبارتها وبنيتها الحكائية... كان الشاعر ينتقل بخفّة طائر من معجم إلى آخر ومن أسلوب إلى أسلوب ثان. لكنّه كان، في كلّ ما ينظمه، يسعى، وفق قوله، إلى اقتناص «جوهر» الأغنية التي كانت تردّدها أمه فاطمة على مسامعه وهو طفل صغير، أغنية تختزن سحراً غامضاً لا تحيط به الصفة، ولكن يدرك بطول المعاشرة. يقول رسول «ليس هناك يوم واحد يمرّ، أو دقيقة واحدة تمرُّ دون أن تحيا في نفسي تلك الأغنية، التي غنتها لي أمي فوق مهدي، وتردد بين ضلوعي. هذه الأغنية هي مهد كل أغانيّ. إنها المخدة التي أسند إليها رأسي المتعب، وذلك الفرس الذي يحملني في أرجاء الدنيا كلها. إنها النبع الذي أنهل منه في عطشي، وذلك الموقد الذي يدفئني، والذي أحمل دفئه في حياتي». هذا البحث عن جوهر تلك الأغنية هو الذي جعله يجنح إلى استرفاد اللغة اليومية يكتب بها قصيدته. واسترفاد هذه اللغة يعني استدعاء شعريّة من نسب آخر.
هي شعرية الخطاب اليومي مع كل ما ينطوي عليه هذا الخطاب من حرارة وعفويّة.
كان يقول:
أروع الجرار
تُصنع من الطين العادي
وأروع الأشعار
من الكلمات البسيطة
هذه الكلمات البسيطة هي التي جعلت قصائد حمزاتوف تنتشر في كل أنحاء روسيا يردّدها الجميع كباراً وصغاراً، حتّى ظنّ البعض أنّها من أغاني التراث، تعاورتها الأجيال جيلاً بعد آخر مثلما تتعاور الحكم الشعبيّة والخرافات المحليّة.
لهذا كانت قصائده التي ضمتها دواوينه «داغستان لي» و«اللقالق البيضاء» و«النجوم العالية» و«حوار مع أبي» و«سمراء» و«مسبحة السنين» على كلّ لسان، يرددها الشيوخ والأطفال ويركّب الفنّانون عليها الألحان.
لكنّ هذا التعميم يظل مخلاً لأنّ شعر حمزاتوف لم يكن متجانساً بل كان متعدداً بتعدد المراحل التاريخيّة التي مرّت بها روسيا متلوناً بتلوّنها. ولهذا شبّه مراحل شعره بثلاث زوجات: «الأولى قاسية وعنيدة، وهي الحقبة الستالينية التي لم تعرف الرحمة، ورغم عناد هذه الزوجة وقسوتها، فقد كانت الحياة في كنفها آمنة ومهيبة، والثانية جميلة وثملة بحريتها وانطلاقها، والثالثة هي الزوجة المنشودة التي نبحث عنها جميعاً... وهي عادلة وهادئة كما وصفتُها في قصيدة (الصندوق الأسود)، وفيها كل ما هو خفيّ ومثير في حياة الشاعر حمزاتوف».
لكن رغم هذه الاختلافات القائمة بين قصائده فثمة عناصر مشتركة تنتظمها، لعل أهمّها: استدعاء الحكمة واستخدام الفكاهة السوداء وإجراء الصور مجرى الكناية، حيث يعمد الشاعر إذا أراد معنى من المعاني فإنّه لا يأتي باللفظ الدالّ على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابعه، فإذا دلّ التّابع أبان عن المتبوع، على حدّ تعريف قدامة بن جعفر.
لكن أهمّ هذه العناصر المشتركة التي تجمع بين كل كتبه الشعرية فتنته بالمكان، أي بأرض داغستان.
فهو ما فتئ يردد أنّ الشعراء ليسوا طيوراً مهاجرة وأنّ الشعر دون التربة الأمّ، دون الإرث والوطن شجرة من دون جذور، طائر من دون عشّ. لهذا كانت داغستان حاضرة في كل دواوين الرجل ببيوتها الصخريّة وجبالها السامقة وحكاياتها الشرقية وأغانيها الرعوية، وحسبنا أن نستعرض عناوين دواوينه حتى نقف على افتتانه بمسقط رأسه من هذه العناوين: أغاني الجبال، قلبي في الجبال، وطن الجبليّ.
وما هذه القصيدة التي نقدّم إلاّ أنموذج للقصائد التي نظمها الشاعر احتفاء بالأرض التي ينتسب إليها وانتصاراً للقيم التي تمثلها: قيم الكرم والفتوّة والحبّ.
ما الذي يحمله المسافر في سفره؟
هل يحمل ماء؟
هل يحمل خبزًا؟
لكن يا ضيفي العزيز لن نتوانى في إكرامك
ولن تمدّ يدك إلى الزّاد الذي حملت
فالمرأة الجبلية سوف تخبز لك خبزًا
والرجل الجبلي سوف يقدم إليك الماء
***
ما الذي يحمله المسافر في سفره ؟
هل يحمل خنجرًا؟
لكن يا ضيفي العزيز في الجبال سوف نقدم لك فروض الإكرام
وإذا كان عدوك يترصّدك
فالجبلي عنده أيضاً خنجر وهو سوف يحميك.
هذا الانتماء إلى أرض القوقاز ذات الإرث الحضاري القديم جعل حمزاتوف يستعيد، في قصائده، بضعة من حكمها، بضعة من حكمه، فالشعر لديه ليس مجرّد تدفّق عاطفيّ سائب، وإنّما هو طريقة من طرق المعرفة غايته الأولى عطف القلوب على القيم.
ومن حكمه التي انتشرت بين الناس:
- «عندما تستيقظ من نومك فلا تقفز من سريرك كأن أحداً عضك، فكّر قبل كل شيء بما حلمت به في نومك».
- «الإبرة الواحدة تخيط ثوب العُرس والكفن».
- «شيئان في الدنيا يستحقان المنازعات الكبيرة: وطن حنون وامرأة رائعة».
- «الإنسان في حاجة إلى سنتين لتعلُّم الكلام وإلى ستين سنة لتعلّم الصمت».
- «إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي أطلق المستقبل نار مدافعه عليك».
- «نحن الشعراء مسؤولون عن العالم، لكن الذي لا يرتبط بجباله لا يمكن أن يمثّل العالم».
- «لا تخبئ أفكارك. إذا خبأتها فستنسى في ما بعد أين وضعتها».
- «أكثرُ السهام دقّة سهامُ أقربائي، فهم يعرفون أكثرَ من أيٍّ كان كيف يسددون، لتكونَ الإصابةُ أكيدة،
وفي أكثر الأماكنِ إيلاماً لي».
في ديوانه الأخير الذي نشره عام 2003 نجد، كما قال شاهر أحمد نصر (مترجم القصائد إلى اللغة العربيّة)، نفحة جديدة في شعر رسول حمزاتوف، هي نفحة الإيمان بالله وحب القرآن الكريم ورغبته في معرفة اللغة العربية كما أتقنها أبوه حمزة، كقيمة جديدة في القصائد الأخيرة. فالشاعر الذي وهب كثيراً من شعره للمرأة والأغاني يعود في شيخوخته فيصحو صحوة جديدة على الله والدين والقرآن، «ربما كان لانهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي دور في البوح بهذه الصحوة» (المترجم)، وبنبرة شجيّة فيها كثير من الصدق يبتهل إلى الله قائلاً:
أعترف أني في حياتي البسيطة
لم يرني الناس في المساجد
لكن صدق كلامي
أنا لم أشرك بالله
أيّها العليّ شق صدري
لقد صدرت مني
كلمات تجديف فلا تؤاخذني عليها
***
سامحنا على آثامنا يا الله
***
لم أطلب حمايتك
أنت وهبت لي الكثير
لقد غفرت ذنوبي
حميتني طول الطريق
***
يا لحسرتي لأني لا أتقن كأبي
لغة القرآن الإلهي
هذا هو رسول حمزاتوف في قصائده الأخيرة شاعر يقتفي أثر شعراء مسلمين كبار كأبي نواس وعمر الخيام، يعترف بذنوبه ويسأل الله المغفرة، ويحول الشعر إلى ومضات عاطفيّة ترتفع بالسامع إلى الأنقى والأعلى والأبعد.
أصيب في آخر حياته بأمراض خطيرة جعلته طريح الفراش سنوات عديدة، وهو الشاعر/ الفارس الذي لا يني عن خوض الصراعات يواجهها ببسالة كبيرة، ولئن تحمّل تلك الأمراض بجلد وصبر جميلين، فإنه لم يتمكّن من تحمّل غياب زوجته فاطمة التي كانت ملاذه في سنين الشيخوخة القاسية.
رحل حمزاتوف في 3 نوفمبر 2003 عن عمر يناهز الثمانين عاماً. وكان يبدو، كما قال الباحث محمد فاروق الإمام «كما لو كان شخصاً لا يرحل، أو لا يجوز أن يرحل، أو لا يصحّ أن يرحل، لأن رحيله يحدث خللاً شديداً في موازين الخير والشر في العالم».
توفي الشاعر وهو يردّد: «حياتي مسودة، كنت أتمنى لو أن لديّ الوقت لتصحيحها»، ودفن إلى جانب زوجته في مقبرة إسلاميّة صغيرة في سفح جبل تاركي تاوو.