الأحد  22 كانون الأول 2024

زكريا محمد: المثقف الرحال- رولا سرحان

2023-09-09 09:01:53 AM
زكريا محمد: المثقف الرحال- رولا سرحان

تدوين- ثقافات

يصبح استحضار زكريا محمد في ذكرى أربعين يوماً على وفاته وكأنها محاولة استرداد لا تغرق في الحزن والأسى على فقده بل تصبح تعزية للنفس ومواساة لها، فهو الذي ترك لنا أكثر مما يمكننا أن نكتب فيه وأقل مما يمكننا أن نشبع منه. فتصبح مجموعاته الشعرية وكأنها رحلات ماورائية تدعونا للسفر فيها كي نلتقي زكريا محمد، فلا نظنن أبدا أنه قد رحل، ولا نغرق في جلد للذات أننا لم نكتب عنه عندما كان حياً واستذكرناه فقط لحظة غيابه. تصير هذه المعادلة مختلة، ولا تفي زكريا محمد حقه، وهو الذي أصر دوما على أن "الحياة ليست خالقة معان، بل الموت هو الخالق الحقيقي لها."

سيكون تتبع نصوص زكريا محمد، يُشبه تتبع خطواته الحية الآن وكأنها مشي معه في رحلاته البرية، والتي هي أشبه بنص مفتوح، نقرأ فيه ما كان يقرأ زكريا محمد في مشاهداته عن الأرض، بما تحتها مما هو خفي أو أثري، وبما فوقها من نقش فوق حاضر جماد، أو عشبة قلقة، تُعبر في ذات الوقت عن قلقه. هو رحال في شعره وفي حركته، وعندما يلتقي الشعر بالحركة يظل الكاتب يولد ولادة متعددة، تختلف عن نمط الولادة الثانية للإله أو الرسول، والذي يموت ويعود إلى الحياة في ولادة أسطورية وبلاغية. ففي قصة الإله الرحال، ديونوسيوس، سنصادفُ الولادة الأولى من الأم، التي تكون ولادة غير مكتملة، فيولد الإله من جديد من فخذ الإله الأب. ويولد يسوع المسيح من العذراء مريم ولادة أولى، ومن ثم يولد ولادة ثانية على شكل رحمة إلهية خلاصية بعد أن تكون آياته الأخرى قد اكتفت من معناها الإعجازي بما فيه المشي فوق الماء. أما ولادة زكريا محمد فتكون ولادة لا يمكن تعدادها أو حصرها، فهي حالة من الترحال المتكرر على أساس الاختلاف، فتكون ولادة متجددة في كل مرة يرتحل فيها ما بين الأرض والنص. فلا يكون من السهل أن نلامس تلك اللحظة التي تبدأ عندها الأرض في نص زكريا، ولا متى تنتهي لتصبح رحلة، مثلما لا يكون سهلا أن نمسك باللحظة التي يبدأ عندها الشعر أثناء ترحاله ولا متى ينتهي نصاً. فلا تعود الولادة كبداية للنص على الأرض أو بداية الأرض في النص مهمة، لأنها رحلة متجددة في لحظة من العود الأبدي النيتشوي. فتصبح البدايات مثل النهايات لا ضرورة لها، بل لربما لا تعني زكريا محمد، فأحدهما منسي والآخر سيحتار فيه، وما بين النسيان والحيرة ستكون حركة التيه بينهما ثيمة الترحال عنده ويصعب تحديد عقباها كما يقول:

"لقد نسيت كيف بدأت، وحرت كيف أنتهي. لكن لعله لا ضرورة للبداية، ولا للنهاية. لا ضرورة للمنبع ولا للمصب. نهر يجري ولا يعرف أباه ولا أمه. ولد تائه، ولا يعرف مصيره." (علندى، 12)

باقتفاء ترحال زكريا محمد، سنجد في ذلك الترحال ما يُعيِّن أبعادا تنافذية لتعريف المثقف بالتضاد مع هوية زكريا محمد كمثقف منفرد رحال، نوحي الخصال، فعندما "ضرب الطوفان العالم، صنع [نوح] سفينة، وأنقذ بذرة الحياة" (كشتبان، 38) أما زكريا محمد، فعندما طاف أشباه المثقفين على سطح الثقافة جاء وأنقذ بذرة الثقافة. ففي صحراء الثقافة الفلسطينية، التي تنضح بعابري السبيل وتضن بالمثقف، يقف زكريا محمد في وسطها كشجرة معلنا لنا جميعا: "أنا شجرة".."ألعن كل عابر سبيل وأقذفه بحجر" (كشتبان، 60).

سيصبح الجرح الذاتي المتعمد أساسياً لمقولة المثقف الرحال. لأنه حالة تأمل انعكاسي، تتخطى الخوف، وتتحرر من الصنافيات والنمذجة، فلا يعود النص له طريقة أو أسلوب مسبق حاضر وجاهز، ​

كان زكريا محمد مدركا لأهمية أن تضع الحياة الثقافية الفلسطينية نفسها على المشرحة، فهي أشبه بدكان قروي (محل سمانة) يوجد فيه السكر إلى جانب الطحين والبنزين والتمر والكبريت دون أن يحدث ذلك مشكلة على مستوى التساكن أو الصراع. وذلك في إحالة إلى غياب الجدل والنقاش النظري وضعف التيار النقدي.  (في قضايا الثقافة الفلسطينية، 86) وهو ما يدخل المشهد الثقافي الفلسطيني في حالة من العدمية على أساس الثابت المتجول، فاختار زكريا محمد لنفسه أن يكون رحالاً متحركاً.

وأن يكون المثقف رحالاً ومتحركا، فمعناه أنه سيدخل في علاقة تنافر مع كل ثابت أمام المثقف أو مع كل جوّال فيه، فالرحال نقيضُ الجوال. أما الثابتُ والجوال، فهما سمتان متلازمتان، تقفان على الضد من الترحال والحركة. فبينما يتصف الترحال بالـ لا- استقرار المصحوب بالقلق النقدي، وأسئلة الحيرة الوجودية؛ يصبح التجوال حركة منقوصة، غير مكتملة، لأنها تعبر عن قدر من الإذعان لصيغة الاسترخاء النقدي أحياناً، وأحيانا أخرى كثيرة تعبر عن الإذعان للواقع وشروطه والسعي نحو التحرك فيه ومن خلاله، فيجري تقديس الثابت والمحافظة عليه وتصبح الحركة حركة جوالة في حدوده. وبتعبير أدق، يصبح التجوال حالة تعبر عن اللاتجانس في الأزمنة والأمكنة، والتي تنتج قيمها ومبادئها خارج منطق التراكمية الفطنة المبدعة، التي تحاول تفكيك خلل الشرط التاريخي والخروج عليه. فتضيع فيها المواقف القيمية والمبدئية فيتحرك المثقف في كل اتجاه بحثاً عن موقفٍ يتماشى مع الثابت الذي لا يستطيع الخروج عليه في زمانه ومكانه المتعينين. تلك الحالة التي عبر عنها فيصل دراج بإطلاقه اصطلاحا يعبر فيه عن حال المثقف الفلسطيني باعتباره "مثقفاً جوالاً"، أي مثقفاً "هامشياً" أو مثقفاً بـ "نصف صوت" أنتجه غياب المرجعية السياسية وغياب المجمتع المدني وضياع الوطن.

ولتخطي حالة التجوال نحو الترحال يصبح إخضاع الزمان والمكان، اللذان هما حدا الحدث، إلى النقد ميزة الترحال. فهذان الحدان اللذان يتصفان بالعمق السحيق والعقم الذي بلا علاج عند الكثير من المثقفين، يصبحان، في عرف زكريا محمد، مجرد ذبابة، بمقدوره أن يضربها على رأسها ويعيد تعريفها من جديد ليعيد تعريف نفسه أولا:

"... اللحظة التي كدت فيها أن أحول كل شيء إلى ذبابة وأضربه على دماغه: ماضي، حاضري، رغباتي، إرادتي، كرهي وحبي. في اللحظة التي قطعت فيها صلاتي وعلائقي: لا تحت، لا فوق، لا أمام، لا وراء، لا أمل، لا يأس، لا أب، لا أم، لا قبل، ولا بعد. [في تلك اللحظة] وبالمعول والمجرف أخذت أعرف ذاتي.... أبحث عن خلاصي." (عصا الراعي)  

سيسير زكريا محمد متحللا من كل الروابط، التي قد تشده في أي اتجاه ونحو أي علاقة، فكل اتجاه سيعيق تدفقه، فهو: "سيل كبير حدث فجأة، ولا يعرف له مجرى" (علندى، 107).

يتدفق هذا السيل، لينتج المعنى أو ليخلق المعنى من اللا معنى (علندى، 61)، فبالنسة له تكمن الفرضية الأولى بأنه ما من معنى للأشياء إذ "يجب أن نخترع لها معنى كي نتمكن من العيش (علندى، 150). وسنخترع المعنى لا لنتقيد به، بل أحيانا لنخربه كي يصير شعرا (علندى، 77) وأحيانا سنخترعه ليكون فنا، يضيف طاقة جمالية لنتمكن من الحياة، فـ "المعنى بلورة سكر فضي، حيلة صغيرة كي يغني المغني" (علندى، 150). وسيحمل زكريا محمد "عصا الراعي"، ويضرب بها رأس الذبابة، ويتحول إلى راعٍ، أحياناً "للفرس قرب الشعير"، وأحياناً للحصوات الصغيرة، وأحياناً يحرك العصا أمام الوجوه كي نفسح له المجال كي يتنفس: "أفسحوا لي كي أتنفس. كي أقول ما عندي. فقد قبضتُ على المعنى كأنني أقبض على النهار القصير" (علندى، 90)، والقبض على المعنى الذي يريد ليس بالأمر اليسير، لأنه حين يصل إلى المعنى يخسره (علندى، 61)، وكي لا يخسره عليه أن "يدرب كفيه على أن تجرحا بالسكين". (علندى، 60)

فلا يكون من السهل أن نلامس تلك اللحظة التي تبدأ عندها الأرض في نص زكريا، ولا متى تنتهي لتصبح رحلة، مثلما لا يكون سهلا أن نمسك باللحظة التي يبدأ عندها الشعر أثناء ترحاله ولا متى ينتهي نصاً.

سيصبح الجرح الذاتي المتعمد أساسياً لمقولة المثقف الرحال. لأنه حالة تأمل انعكاسي، تتخطى الخوف، وتتحرر من الصنافيات والنمذجة، فلا يعود النص له طريقة أو أسلوب مسبق حاضر وجاهز، بل يتحضر أثناء ترحالية زكريا. فلا يكون النص قطعة أعلى منه ولا أقل منه، فهو يتحرك مع النص وكأنه يسيرُ معه جنباً إلى جنب بطريقة محايثة، كتلك التي تحدث عنها دولوز. فهو يمشي في الطبيعة وكأنه يخلقُ الطبيعة من جديد وتصبح الكلمات هي مخلوقات الطبيعة، ويصبح هو جزءا من الطبيعة ومن ثم يعود ليكون خالقها. وكل نص هو حالة خلق متجددة، وتخلق لمرة واحدة فقط، ولشخص واحدٍ فقط، فهو يخلق نصه من تجربته، فنصه تجربته، تدل عليه وعلى رحلته التي قام بها. فكل نص هو رحلة ما، خلق لتجربته النصية من خلال علاقته هو وحده مع الجداء، وألواح الصبار، أو ثمار العليق الحمراء، أو مع قشرة الجوز. وتلك هي تجربته الحصرية وحدها، فهو لا يريدنا أن نتعلم منه شيئاً، بل على كل واحد أن يشق طريقه بنفسه: "أنا هنا كي أعلم نفسي فقط. لا أحد يعلم أحدا. كل واحد شيخ نفسه" (علندى، 132) حينها يصبح النص حرا هو الآخر وليس بحاجة إلى دليل إرشادي أو منهج أدواتي، وهكذا يصبح لكل شاعر شعره، طبيعته ومخلوقاته، ربه وأدواته.  

يصبح لكل رحلته وترحاله.