تدوين- ثقافات
في مقال لطيف، وجندري بامتياز، يميز إدوارد سعيد بين إمرأة وامرأة، بتمييزه ما بين راقصة وراقصة، عبر إعادة الاعتبار لحصافة توظيف المرأة للجسد المؤنث مضبوط الإيقاع بتفاعله مع الأنوثة ومع فاعلية المرأة. سيفيض قلم سعيد في مقاله "احتفاء براقصة شرقية..تحية كاريوكا" بالغزل المرهف بالمرأة المشتهاة، والتي ستكون تحية كاريوكا نموذجها القابل للاتساع وغير القابل للاختزال في ثيمة الجسد. وإن كان المقال من أسلس مقالات سعيد، ذلك لأنه يتنساب مع سلاسة وضرورة الليونة عند الحديث عن المرأة أو تناول كل ما يتعلق بشأن من شؤونها، إلا أنه أيضا مقال إشكالي، ذلك لأنه يستفز السؤال حول ما إن كان سعيد يتحدث عن المرأة/الراقصة أم أنه يتحدث عن الرجل/سعيد.
سيقدم المقال مقاربة فذة لنقض تلك العلاقة المفصومة بين الذات والموضوع، وتقويضا لثنائية أنثى-ذكر، رغم الحضور الأنثوي الطاغي، والذكورية الحاضرة. إذ تمكن سعيد ببراعة أن يتحدث عن الاثنين معا، جاعلا منهما قيمة موجبة، وأن يجعل مسار المؤنث والمذكر مسارا متشابكا بلغة عاطفية لكنها واقعية، تدلل الأنثى في المرأة وتدغدغ ذكورية الرجل. ستكون الراقصة جزءا من السيرة الذاتية لسعيد، لكن كاريوكا ستجسد حكاية أكبر عن المرأة المشتهاة، والتي في قمة أنوثتها تصبح مهيبة. وتلك بحد ذاتها المفاجأة السعيدية، التي يقدمها لنا سعيد بين السطور تلميحا أحيانا، وتصريحا أحياناً أخرى، والتي تمْثُل في اعتبار أن المرأة، كل امرأة، وعندما تكون في قمة أنوثتها الجسدية، أو في قمة وعيها بجسدها المؤنث، ستصبح تجسيدا للحضور المتعالي الوقور للمرأة. فيردم سعيد بذلك تلك الأثلام الثلاثة بين الجسد المؤنث والأنوثة والمرأة، ليكون الجسد المؤنث حيزا لممارسة الوعي الأنثوي الذي تحتفي عبره المرأة بمقدرتها الحسية والروحية في آن.
ولعل هذا المقال، ليس مقالاً استثنائياً أو نادراً كما أشار مترجمه صبحي الحديدي في تذييله للمقال، والذي يبدو اعتذاريا، أو كأنه محاولةٌ لتطهير سعيد من هفوة الكتابة عن راقصة بلغة حميمية تفيض شهوةً، ليوضح أن هذا النص "ينتمي إلى ذلك النوع الاستثنائي الذي اعتاد سعيد كتابته بين الحين والآخر، كي يجمع في ضمير القارئ إحساس المفاجأة بأحاسيس ضرب القدوة الممتازة في موقف المثقف الموسوعي من قضايا وشخوص عصره، وحاجة ذلك الموقف إلى مزيج من اللمسة الإنسانية (الدنيوية والملموسة، والعاطفية أحياناً)، والعمق الفكري، ونزعة المسح البانورامي للعناصر الثانوية ذات التأثير الخاص في صناعة التفصيل الشخصي (في نموذج الصورة القلمية) والتفصيل المشهدي (في نموذج المقاربة التاريخية)." فالمقال ليس هفوة سعيدية، كما يبدو في اعتذارية الحديدي، إذ يصب المقال في سياق التطور الفكري والمعرفي الذي دشنه سعيد وانطلقت في إثره دراسات ما بعد الاستعمار ودراسات التابع، ودراسات سياسات الجسد والهوية، والدراسات النسوية، وشهدت إبانه النظرية النقدية المعاصرة تطورها الملحوظ. وقبل ذلك جميعاً، احتل الرقص والراقصات حيزا مهما في كتاب سعيد "الاستشراق" عندما وضع النظرة الاستشراقية للمرأة موضع تقريع معرفي لاذع حينما أدان كلا من إدوارد لين وجوستاف فلوبير وجعل منهما أمثولة الكتابة الاستشراقية عن المرأة. ففلوبير، مثلا، والذي تأثر بكتابات لين عن الراقصات، قد دون حكاياته الاستشراقية مع السيدة "كشك هانم"، وهي راقصة مصرية سورية الأصل، قابلها فلوبير في أسفاره، وجعل منها النموذج الذي بنى عليه شخصية كل من سلامبو وسالوميه، كما كانت الصورة التي بنى عليها نظرته للمرأة الشرقية التي تحدث عنها في بعض أعماله ورسائله. فسعيد يرى أن الراقصة الشرقية كما وصفها المستشرقون قد ربطت الشرق بالجنس والغواية والمجون وسهلت من عملية تنميطه في أحلام يقظة غربية.
سيُعيد سعيد تقديم الراقصة والرقص والمرأة وأنوثتها باعتبارها خطابا تتحدد معالمه بحسب نظرة منتجه، أي علاقة المرأة بجسدها وتوظيفها ونظرتها له؛ وأيضاً ستتحدد بحسب متلقي هذا الخطاب أي الرجل/المرأة وضروب أنساقهما المعرفية والثقافية. فسعيد، لن يقدم على الاستهانة بالجسد المؤنث، ولن يحدث تلك القطيعة ما بين البيولوجي والثقافي، ولكنه يُدخل ذلك القطع على علاقة الجسد المؤنث باستخدامه، فتوظيف الجسد له معان سيميائية تحدد قيمته، والتي عندها سيكون إما عرضة للاضطهاد والقمع أو الاستهلاك ولتنميط النظرة الدونية، وإما يكون جسدا متعاليا على الحسي الرخيص مهيباً يفرض حضوره على المتعاطي معه أو متلقيه. وسيتعامل سعيد مع الرقص باعتباره موضع التمثيل الأهم لعلاقة الجسد بتوظيفاته، فتوظيف الجسد المؤنث بالنسبة لسعيد وعي وتأمل.
سيفصل سعيد، عبر تفصيل رأيه في الراقصة المصرية تحية كاريوكا، جسد المرأة، باعتباره مكاناً للتأمل الذاتي في الوقت الذي سيكون فيه أيضاً مكاناً للشهوة. لن تصبح شهوة سعيد لجسد كاريوكا بمعزل عن إمكانيات هذا الجسد ومقدرته على طرح أسئلة أخرى حول الأفكار. فابتسامة تحية كاريوكا أثناء عرضها الراقص، ستكون حيزا لإخراس أي طارئ ذهني يربط جسدها بالشهوة وحده رغم حضورها الكثيف في مقال سعيد. إذ ستكون الابتسامة الساحرة حركة تطهرية تسحب الناظر من على ردفيها نحو ما في داخل صدرها وما يعتمل ذهنها من أفكار. إنها مثل ابتسامة الموناليزا التي تدعوك إلى التساؤل عن تلك المرأة التي رسمها دافنشي في لوحة خلدت الموناليزا قبل أن تخلد رسَّامها. ستصبح كاريوكا رمزا للتمييز الثقافي بين قيم الاستهلاك وقيم الفكر. ستكون أنوثة الراقصة قادرة على تعديل فاعلية المرأة من كونها قابعة في أدنى سلم درجات الاستهلاك إلى داعية للنظر من خلال جسدها، وليس عبر نبذه، للتساؤل حول من هي هذه المرأة؟ أو من هي المرأة؟ من هي المرأة الكاريوكية التي خلبت لب سعيد؟ أليس سؤال المرأة، سؤالاً يلاحق الجميع بدءا من الميثولوجيا وآلهاتها، إلى الأديان وخطيئتها، والأيديولوجيات ومبادئها، وحتى تلك العلاقة المعقدة ما بين المرأة والرجل في أعز اللحظات الحميمية بينهما؟
سيشف مقال إدوارد سعيد عن الكثير من ملامح تلك المرأة المشتهاة، الكاريوكية في خصالها، فسعيد الذي لم يقتضب في سرده لتفاصيل حركات كاريوكا ولا تفاصيل ثوب رقصها، يستحضر المرأة المتخيلة من المرأة التي أمامه الآن ترقص وتثير غرائزه، وتحفزه على إعادة قراءة المرأة كنص مفتوح، لكنه محكم الاستغلاق في آن على من لا يستطيع الموازنة بين الحسي والروحي، عندما تتسلح المرأة بأنوثتها ولا تكتفي بها. لذلك، سنجد سعيد يقتفي أثر كاريوكا خارج ساحة الرقص، وخارج أعمالها الفنية، التي هي بمثابة التجسيد الأول لأنوثتها، سيُعمل أدوات البحث المنهجي في التعرف على كاريوكا الأخرى. سيقصد سعيد أرشيف القاهرة المركزي للسينما باحثا عن مادة مكتوبة أو مصورة تخص كاريوكا، وسيلتقي بها، وسيَحضر لها عرضا مسرحيا لا يعجبه.
يعيد إدوارد سعيد المرأة المهمشة-الراقصة من الاستبعاد إلى المركز، هل حاول سعيد الحديث باسم المرأة؟ تصبح فكرة "الحديث باسم" في حد ذاتها استبعادا للمرأة، لتحيل المرأة إلى كيان صامت، يحتاج إلى من يتحدث باسمه. ما يفعله سعيد هو أنه يتحدث عن الرجل، يتحدث باسم الرجل عن المرأة، وعن موضوع المرأة، دون أن يغرق في ثنائية العلاقة الضدية أنثى-ذكر، بل يتعاطى مع المرأة التي يحتفي بأنوثتها على قاعدة المساواة الإنسانية، فهو يعود ليضعها موضع النقد في نهاية مقاله. فقد كان التحول في مظهر كاريوكا صاعقا بالنسبة لسعيد، ومع ذلك لم يكن هذا التحول في المظهر إلا ضربا من تعديل المتخيل في ذهن مراهق في الرابعة عشرة من العمر، والذي يلتقي بعد أربعين عاماً وجها لوجه بالمرأة التي مر عليها الزمن وملأها أحداثا وهي في الخامسة والسبعين. سيُقوِّم سعيد نظرته لنظرته لكاريوكا، التي ستستمر في حيازة إعجاب سعيد الذي قرأ كاريوكا كإنسانة كانت قادرة على أن تحيا عالم المرأة وتقلباته حد مداه كإنسانة. فالرقص لم يَحل دون أن تقوم كاريوكا بمساندة اليسار المصري في فترة من فترات حياتها، ولا أن تناصر القضية الفلسطينية، عندما ظهرت في أثينا عام 1988 كجزء من مجموعة مصرية من الفنانين والمثقفين الذين يستعدون إلى الانضمام للسفينة الفلسطينة "العودة"، قبل أن تنسفها المخابرات الإسرائيلية. ستصبح كاريوكا امرأة بثقل وسلطة أكبر بكثير من كونها مجرد راقصة، بل هي امرأة حرة بتاريخ لم يدون القسط الأكبر منه بل كما يقول سعيد: "يبقى حاضراً بكامل بهائه، معرضاً للنهب والتخريب".
هذه المقالة بالقدر التي تحتفي به بالمرأة فإنها أيضاً عن الرجل السعيدي، عن كل رجل يشتهي أن يصادف يوما تلك المعادلة ذات التركيبة الصحيحة للمرأة التي تحتفي وتوازن ما بين الجسد المؤنث والعقل روحا وحسا، فتصل حدها الإنساني بمنتهاه.