تدوين- ترجمة: صبحي حديدي
كانت أم كلثوم هي المطربة الأعظم في العالم العربي، على مر القرن العشرين. وبعد خمسة عشر عاماً من وفاتها، ما تزال تسجيلاتها وأشرطتها متوفرة في كل مكان. وأم كلثوم معروفة لدى عدد معقول من غير العرب، وذلك بسبب التأثير السحري وعنصر الكآبة في غنائها، من جهة؛ ولأنها شخصية طاغية، في عملية إعادة اكتشاف فنون الشعوب، الجارية على نطاق عالمي، من جهة ثانية. لكنها أيضاً لعبت دوراً بارزاً في انبثاق حركة نساء العالم الثالث، بوصفها "كوكب الشرق" الورعة، التي تحولت صورتها العامة إلى مثال، ليس للوعي النسائي فحسب، بل للاحتشام الداخلي أيضاً. وخلال حياتها، سرت أقاويل حول كونها سحاقية، لكن القوة الصريحة في أدائها للموسيقى الرفيعة، المقترنة بالأشعار الكلاسيكية نَحّتْ تلك الشائعات جانباً. أما في مصر، فقد كانت رمزاً وطنياً، وحظيت بالاحترام، سواء في العهد الملكي، أم في أعقاب الثورة التي قادها جمال عبد الناصر.
ولقد كان مسار أم كلثوم طويلاً، على نحو استثنائي. وفي أعين معظم العرب، كان ذلك المسار بمثابة الحد المشذب (بالغ الاحترام ولكن الرومانتيكي)ـ من نزعة إيروسية (شهوانية) كانت الرقصة الشرقية هي نمطها. ومثل المطربة الكبيرة ذاتها، اعتادت الراقصات الشرقيات الأداء، في الأفلام والمسارح والكباريهات، وعلى منصات الاحتفال، في الأعراس والأفراح الأخرى، في القاهرة والإسكندرية.
ولئن لم يكن بوسع المرء أن يستمتع ــ حقاً ــ بالنظر إلى أم كلثوم، الجليلة والقاسية؛ لقد كان بوسعه الاستمتاع بالنظر إلى الراقصات الشرقيات. وكانت بديعة مصابني ــ اللبنانية بالولادة ــ هي نجمتهن الأولى، مثلما كانت ممثلةً وصاحبةَ كباريه ومدربةً للمواهب الشابة. وقرابة الحرب العالمية الثانية انتهى مشوار بديعة كراقصة، لكن وريثتها الأولى وتلميذتها، تحية كاريوكا، كانت ــ في قناعتي ــ الراقصة الشرقية الأرفع.
إنها اليوم في الخامسة والسبعين، تعيش في القاهرة، وتتابع نشاطها كممثلة ومناضلة سياسية، وتحتل ــ مثل أم كلثوم ــ موقع الرمز المرموق للثقافة الوطنية. ولقد غنت أم كلثوم في عرس الملك فاروق عام 1936. وفي تلك الحفلة الفارهة، عرفت تحية بدايتها الأولى، وحازت على مكانة بارزة، لن تفقدها أبداً.
وفي أحرج أيامها كراقصة "فوق العادة"، جسدت تحية كاريوكا نوعاً محدداً للغاية، من الجاذبية الجنسية، وعبرت عنها بوصفها الراقصة الأسلس والأقل ادعاء، وبوصفها سيدة الإغراء الأعلى كعباً في الأفلام المصرية. وحين رجعتُ إلى العدد الفعلي للأفلام، التي مثلت فيها بين مطلع الأربعينات، وحتى عام 1980، وجدت 190 عنواناً. وحين سألتها عن الأمر، خلال زيارتي للقاهرة في ربيع 1989، لم تتذكر الرقم الصحيح، ولكنها رجحت أن عدد الأفلام يزيد عن المائتين. وكانت معظم أفلامها الأولى تنطوي على وصلة رقص واحدة، على الأقل، إذ توجب على كل فيلم مصري، لا يزعم "الدراما العالية" (وكانت حفنة محدودة من الأفلام تزعم ذلك) أن يلتزم بروتين إدراج أغنية ورقصة. تلك كانت صيغة شبيهة بباليهات الفصل الثاني، في عروض الأوبرا الباريسية، خلال القرن التاسع عشر، حين كانت الباليه تُعرض، سواء ناسبت القصة أم لم تناسبها. وفي الأفلام المصرية يظهر مذيع ما، ليعلن اسم مطربة أو راقصة، ثم يتكشف المشهد (بشكل غير مبرر غالباً) عن نادٍ ليلي، أو صالة استقبال واسعة، ثم تشرع الأوركسترا في العزف، وبعدها يبدأ الأداء.
لقد أدت تحية مثل هذه المشاهد، ولكنها لم تكن أكثر من اسكتشات خاطفة، خام عن عروضها القادمة في الكباريه، والتي شاهدتُ واحداً منها، وسأظل أتذكره إلى الأبد، بحيوية متوثبة. حدث ذلك عام 1950، حين اكتشف زميلُ دراسةٍ مغامرٌ أنها سترقص في كازينو بديعة مصابني، المكشوف على ضفة النيل في الجيزة (موقع الشيراتون اليوم)، واشتريت البطاقات، ووصل أربعة فتيان في سن الرابعة عشرة، في المساء الموعود، قبل ساعتين على الأقل من موعد البدء.
حرارة النهار في ذلك اليوم من شهر حزيران (يونيو) كانت قد تحولت إلى مساء منعش، تتخلله رياح خفيفة. وحين أُطفئت الأنوار استعداداً لوصلة النجمة، كان كازينو بديعة مليئاً، وكانت الأربعون طاولة ــ أو نحوها ــ مكتظة بجمهور مصري صرف، من نظارة متحمسة تنتمي إلى الطبقة الوسطى. وكان شريك تحية، في ذلك المساء، هو المطرب عبد العزيز محمود ــ الرجل الأصلع، بمظهره المتبلد، وببذلة السهرة البيضاء ــ الذي تقدم وحشر نفسه في كرسي من الخشب والخيزران، وُضع في منتصف خشبة مسرح بدائية، وبدأ يغني بمصاحبة "تختة" صغيرة، هي الأوركسترا العربية، انزوت إلى جانبه. كانت الأغنية هي "منديل الحلو" التي تحتفي كلماتها بامرأة طرزت المنديل، وذرفت فيه الدموع، وزينت به شعرها، وهكذا.. طيلة ساعة كاملة تقريباً.
بعد خمسة عشر دقيقة على الأقل، من الأغنية، ظهرت تحية على مبعدة بضعة أقدام، خلف كرسي المطرب. كنا نجلس بعيداً عن خشبة المسرح، قدر المستطاع، لكن الزي الأزرق اللامع والمتلألئ، خطف الأنظار ببساطة. وكان الترتر والتوشيح البراق يتألق بقوة، وكان سكونها الطويل منضبطاً، وهي تقف هناك رابطة الجأش.
يقوم جوهر فن الرقص الشرقي الكلاسيكي العربي، ليس على كثرة، بل على قلة، حركات الفنانة
وكما في مصارعة الثيران، يقوم جوهر فن الرقص الشرقي الكلاسيكي العربي، ليس على كثرة، بل على قلة، حركات الفنانة. وحدهن المستجدات، والمقلدات البائسات اليونانيات والأمريكيات، ينخرطن في درجة مريعة من الهز والتقافز، هنا وهناك، معتقدات أن هذه الحركات هي "الجاذبية الجنسية"، وصخب وعجيج الحريم. المسألة تتعلق بإحداث تأثير ما عن طريق الإيحاء أساساً (ولكن ليس حصراً على الإطلاق) ثم القيام بذلك، عبر سلسلة أحدوثات محبوكة معاً، في نوبات متغايرة، وموتيفات متكررة دورياً، على غرار التشكيل التام المفتوح، الذي قدمته تحية في تلك الليلة. الموتيف الرئيسي في "منديل الحلو" كان علاقة تحية بعبد العزيز محمود، الغافل المنسي. كانت تنزلق وراءه، وهو غارق في الدندنة، وتوشك على السقوط بين ذراعيه، وتقلده وتسخر منه، ولكن دون أن تلمسه مرة واحدة، أو تستثيره أية استجابة.
كانت أستارها الشفافة تنبسط فوق البيكيني المعدل، والذي كان ضرورياً لعدة الرقص، دون أن يتحول إلى مصدر أساسي للجاذبية. وجمال رقص تحية كان ينبع من ترابطه: الإحساس الذي كانت تبثه عبر جسد لدن متناسق وبديع، يتموج من خلاله سلسلة معقدة ــ ولكنها زخرفية ــ من الحجب المصنوعة من الشاش والأستار والعقود، وشرائط الذهب، وسلاسل الفضة، التي كانت الحركات تجسدها عن سابق قصد، وعلى نحو نظري أحياناً. كانت ــ على سبيل المثال ــ تقف، وتأخذ في هز ردفها الأيسر ببطء، الأمر الذي يفضي إلى تنشيط الأردية الفضية، حول ساقيها، والخرز المسدل على الجانب الأيمن من خصرها.
كان رقص تحية أشبه بأرابسك مديد، يصاغ من حول زميلها الجالس
أثناء ذلك كله، تواصل التحديق في الأجزاء المتحركة ــ إذا جاز القول ــ وتثبت أنظارنا عليها أيضاً، كأننا نشهد دراما صغيرة منفصلة، بالغة الانضباط إيقاعياً، تعيد تكوين جسدها، بحيث يتم التشديد على الجانب الأيمن، شبه المنفصل. كان رقص تحية أشبه بأرابسك مديد، يصاغ من حول زميلها الجالس. وهي لا تقفز أبداً، ولا ترج ثدييها، ولا تنخرط في حركات سحن وطحن الجسد. وكان الأمر بأسره ينطوي على قصدية مهيبة آسرة، ظلت محافظة على طابعها، حتى أثناء المقاطع الأسرع. وكان كل منا يدرك أن ما نشهده هو تجربة إيروسية بالغة الإثارة، لأنها مرجأة إلى ما لا نهاية، ولأنها من نوع ليس بوسعنا أن نأمل في مطابقته على الحياة الفعلية. تلك كانت المسألة على وجه الدقة: كانت هذه هي الجنسانية، بوصفها حدثاً عاماً، يجري التخطيط له وتنفيذه ببراعة، لكنه يظل، على نحو كلي، غير قابل للاستهلاك أو الوقوع.
وقد تلجأ راقصات أخريات إلى الألعاب البهلوانية، أو التلوي على الأرض كالحية، أو الانخراط في ستربتيز معدل، ولكن ليس تحية كاريوكا، لأن سحرها وألقها يوحيان بشيء كلاسيكي وتذكاري احتفالي، في الآن ذاته. والمفارقة أنها كانت حسية على نحو بالغ مباشر، ونائية عصية على الامتلاك، وبعيدة المنال. وفي عالمنا المقموع بشدة، كانت هذه الخصال تؤطر الانطباع الذي تخلفه تحية. وأنني أتذكر بصورة خاصة، أنها منذ الشروع في الرقص، وحتى استكمال عرضها، كان ثغرها يفترّ عن ابتسامة صغيرة، تطفح على الوجه المستغرق في تفكير ذاتي، وكأنها كانت تتأمل جسدها ذاتياً، وتستمتع بحركاته. وكانت تلك الابتسامة تخرس أية بهرجة مسرحية، مقترنة بالمشهد وبالرقص، وتطهرهما، بفضيلة التركيز المنصب على دواخلها العميقة، وأفكارها الشاردة في النفس. والحق أنني ــ وأنا أراقبها ترقص في خمس وعشرين أو ثلاثين من أفلامها ــ وجدت الابتسامة ذاتها على الدوام، تضيء المشهد الذي يبدو سخيفاً ومصطنعاً عادة، ونقطةً ثابتة في عالم متحرك دوار. وبالنسبة لي، بدت تلك الابتسامة رمزاً لتميز تحية، في ثقافة تعرض عشرات الراقصات، اللواتي يحملن اسم زوزو أو فيفي، وتعامل معظمهن كفئة لا ترتفع ــ إلا قليلاً ــ عن مستوى البغايا. ذلك كان واضحاً على الدوام، في أطوار الازدهار المصري، مثل أواخر أيام فاروق، على سبيل المثال، أو حين تسببت طفرة النفط في توافد أثرياء الخليج على مصر. وكان هذا هو الحال أيضاً، حين كان لبنان ملهى العرب، بوجود آلاف الفتيات الموفرات للعرض أو التأجير.
وفي تلك الظروف ظهرت معظم الراقصات الشرقيات، لارتقاء سلم الشهرة. وكان الملهى الليلي يقوم بدور شباك عرض البضاعة المؤقت، ويقع بعض اللوم في ذلك على ضغوطات الثقافة الإسلامية المحافظة، مثلما على التشوهات الناجمة عن تطور غير متكافئ. فأن تكون المرأة محترمة وراشدة، كان يعني أن تكون منذورة للزواج، دون المرور بطور المراهقة؛ وأن تكون المرأة شابة وجذابة، ليس امتيازاً دائماً ــ بالتالي ــ ما دام الأب التقليدي قد يعتمد هذا السبب، بالذات، لترتيب زواجٍ ما، من رجل "ناضج" وحسن الأحوال. وإذا لم تدخل المرأة في هذه التخطيطات، فإنها تجازف بالتعرض لكل أنواع الخزي والمعصية.
وتحية لا تنتمي إلى صف الفتيات الهامشيات، أو الساقطات المصنفات نساءً يسهل التعرض لهن بالسوء، وفق الثقافة السائدة؛ بل إنها كانت منتمية، دوماً، إلى عالم النساء التقدميات، اللواتي يحاذين ــ أو يتجاوزن ــ الأسيجة الاجتماعية. لكنها ظلت مرتبطة، على نحو عضوي، بمجتمع بلادها، لأنها اكتشفت لنفسها دوراً أكثر أهمية، كراقصة مشاركة في الحفلات العامة. ذلك كان دور "العالمة" المأثور الذي لا يُنسى، الذي تحدث عنه زوار الشرق الأوروبيون، من أمثال إدوارد لين وفلوبير في القرن التاسع عشر. لقد كانت "العالمة" دوماً محظية من نوع خاص، حظيت بامتيازات ذات مغزى؛ وكان الرقص واحداً من مواهبها، فيما تضمنت المواهب الأخرى الغناء وإلقاء الشعر القديم، وإلقاء الخطب التهكمية، وإيقاع رجال القانون والسياسة والأدب في إغواء مسامرتها.
يشار في هذا السياق إلى تحية كـ"عالمة"، في أحد أفضل أفلامها المبكرة، "لعبة الست" (1949) الذي قام ببطولته نجيب الريحاني ــ الأعظم بين الممثلين والكوميديين العرب في القرن العشرين ــ ذلك الممثل الذي يطرح مزيجاً رائعاً من شابلن وموليير. في هذا الفيلم تلعب تحية دور راقصة شابة، موهوبة، ومرحة، يستغلها أهلها الأنذال، للإيقاع بذوي النفوذ من الرجال. والريحاني ــ الذي يلعب دور مدرس عاطل عن العمل ــ يحبها، وهي تحبه، لكن أهلها يدفعونها إلى لعبة الإثراء السريع، بوسيلة الزواج من لبناني ثري. وينتهي الفيلم بعودة تحية إلى الريحاني، وهي خاتمة عاطفية بعض الشيء، ولا تتكرر إلا في القليل من أفلامها الأخرى. وتؤدي تحية في هذا الفيلم رقصة قصيرة، ولكنها استفزازية، لا تعد سوى تفصيل ثانوي، بالمقارنة مع وضوح سخريتها وذكائها وجمالها.
تأسيساً على ذلك، بدت تحية وكأنها ثبتت ــ على يد مخرجي الأفلام، في تنويع أكثر خشونة من هذا الدور (الأمر الذي جعلها تكرره فيلماً بعد آخر) ــ أنها المرأة الأخرى، المناهضة للدور النسائي، الفاضل والمقبول اجتماعياً، والأقل أهمية. وكانت موهبة تحية تتألق في ذلك كله. والمرء يؤمن أن تحية ستكون أكثر أهمية ــ صديقة وشريكة جنسية ــ من المرأة التي يتزوجها ممثل الدور الرئيسي. كما يشك المرء في أن موهبتها الكبيرة، وجاذبيتها الجنسية، هما السبب في وجوب تصويرها كامرأة خطيرة (العالمة) التي تعلم أكثر مما ينبغي، وذكية مفرطة في فتنتها لأي رجل في مصر المعاصرة.
وفي حقبة الخمسينات باتت تحية التجسيد المعياري للمرأة الشيطان، في عشرات الأفلام المصرية. وفي فيلم "شباب امرأة" ــ الذي سيُعَدّ لاحقاً من روائع الكلاسيكيات السينمائية ــ تلعب تحية دور أرملة خشنة، ولكنها متعطشة للجنس، تؤجر غرفة إلى ريفي بريء وسيم، جاء إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، فتغريه وتتزوج منه. ولكنه يلتقي بالابنة الملائكية لصديق العائلة، فيتخلص من سحر تحية ــ الأشبه بلعنة سيرسيه ــ وينكرها، وينبذها، ليتزوج من المرأة الآمنة المملة، والأكثر شباباً.
وفي أمثولة قد لا تتميز بشيء في مقام آخر؛ يوجد مشهد رائع في فيلم، تقوم فيه بانتزاع زوجها الشاب، من حفل في شارع ترقص فيه راقصة شرقية شابة، شدهت الطالب غير المجرب. فتأخذه تحية إلى بيتها، وتجلسه، وتخبره بأنها ستريه الآن الرقص الحقيقي. وهنا تقدم له عرضاً خاصاً ينم عن غضب داخلي، ويبرهن على أن تحية كاريوكا ــ وبصرف النظر عن كونها في أواسط العمر ــ ما تزال الراقصة الأبدع، والذهن الأروع، والموضوع الجنسي الأكثر إثارة للرغبة.
ومثل العديد من المغتربين، الذين شكلت تحية الرمز الجنسي الكبير لشبابهم، افترضتُ أنها ستواصل الرقص إلى الأبد، بهذا القدر أو ذاك. ولكم أن تتخيلوا الصدمة الأليمة، التي مُنيتُ بها حين عدت إلى مصر، في صيف عام 1975، بعد غياب خمسة عشر عاماً، وعرفت في القاهرة أن العمل المسرحي، الأطول عرضاً والأكثر رواجاً، هو "يحيا الوفد" الذي تمثل فيه تحية كاريوكا، وزوجها الأحدث فايز حلاوة، كاتب النص. وفي ليلتي الثانية في القاهرة، قصدت سينما ميامي العتيقة ــ التي باتت اليوم مسرحاً مكشوفاً ــ وأنا مفعم بمشاعر الترقب العاطفية المستثارة، إزاء هذه الفرصة النادرة، لاستعادة جزء من شبابي الدفين. كانت المسرحية مهزلة مبتذلة مفرطة في الطول، حول مجموعة قرويين مصريين، أندس عليهم وفد من الخبراء الزراعيين السوفييت. وبلا هوادة، تعرض المسرحية بشاعة وجمود الروس (وكان السادات قد طرد جميع الخبراء الروس عام 1972) وتحتفي بطرائق المصريين في إحباط مخططاتهم، على نحو بارع طريف. والمسرحية بدأت حوالي التاسعة والنصف مساءً، لكنني لم احتمل سوى ساعتين ونصف (أي نصف مدة العرض) من مهازلها السخيفة.
خيبة أملي، بما آلت إليه تحية، لم تكن قليلة. لقد كانت تلعب دور الفلاحة الأكثر خشونة وصرامة، التي تؤجر كبشها الفحل لأغراض تناسلية (وثمة هنا وفرة من النكت المتوقعة حول الفحولة الجنسية). لكن مظهرها وأسلوب أدائها، جعلاني أحبس أنفاسي. لقد انطوت أيام سيدة الإغراء السمراء، الراقصة البديعة، التي تقطر رهافة وبراعة وحسن أداء. وها هي اليوم متنمرة متبجحة، بوزن يزيد عن المائة كيلو غرام، تقف وقد عقدت يديها حول خصرها، لتقذف الشتائم، وتطلق الألفاظ البذيئة، والنكات السمجة، والتوريات الرخيصة، بأسلوب التهريج المبتذل المنفلت من أي عقال، والذي يصب بأسره في خدمة ما بدا أنه النوع الأسوأ، من سياسة انتهازية مؤيدة للسادات ومناوئة لعبد الناصر.
تلك كانت حقبة ميل السياسة المصرية إلى إرضاء هنري كيسنجر، والنأي عن الالتزامات التقدمية تجاه العالم الثالث والعرب، التي سبق أن قادها عبد الناصر بعد عام 1945. ولقد أحزنني أن تتورط تحية وزوجها الأعجف في هذا النوع من النشاط.
وفي الأربع عشرة سنة التالية لتلك الرحلة، كانت نتف وشذرات المعلومات عن تحية، لا تضيف سوى المزيد من التعقيد على صورتها. وعلى سبيل المثال، حدثني عالم اجتماعي مصري معروف، أنها كانت شديدة القرب من الحزب الشيوعي، في الأربعينات والخمسينات، وأطلق على المسألة تعبير "تجذر الراقصات الشرقيات". وفي عام 1988 سمعت أنها ظهرت في أثينا، كجزء من مجموعة مصرية، وأخرى عربية، من الفنانين والمثقفين، الذين وافقوا على الانضمام إلى السفينة الفلسطينية "العودة"، التي أريد لها أن تكون المثال المعكوس من رحلة "الإكسودس" إلى الأراضي المقدسة. وبعد أسبوعين من العثرات المتواصلة، قامت المخابرات الإسرائيلية بنسف السفينة، وتم إلغاء المشروع. ولقد سمعت، فيما بعد، أن تحية برزت كواحدة من قادة نقابة جريئة، ومتقدمة سياسياً، ضمت ممثلي ومخرجي ومصوري السينما.
ما هي، إذا حقيقة الراقصة التي شارفت على الخامسة والسبعين، وبلغت شأو الشخصية المركزية العامة، الممثلة لمؤسسة بأسرها، تقريباً، في ثقافة مصر ما بعد السادات، وأواخر القرن العشرين؟
لقد ضربت موعداً لملاقاتها، بصحبة إحدى صديقاتها، مخرجة الأفلام الوثائقية نبيهة لطفي. إنها اليوم تعيش في شقة صغيرة، غير بعيد عن المكان الذي رأيتها ترقص فيه، قبل أربعين عاماً. ولقد رحبت بي وبنبيهة، بأنفة مهيبة لم أكن أتوقعها. كانت ترتدي الأسود الغامق، وقد جملت وجهها جيداً. وكانت الأكمام الطويلة تغطي ذراعيها، والجوارب السوداء ساقيها، كما يليق بامرأة مسلمة ورعة. وكانت أقل بدانة من ذي قبل، ولم يلُحْ عليها أي مظهر ابتذال.
إنها الآن تنقل ثقلاً وسلطة، نابعين من كونها أكبر، بكثير، من مجرد راقصة شرقية سابقة. أسطورة حية ربما، أو ملحمة شعبية مشهورة: "العالمة" في طور شبه الاعتزال. وكانت نبيهة تخاطبها بلقبها "الحاجة"، وهو التعيين الذي لا تشدد عليه السيمياء الوقورة فحسب، بل أيضاً العديد من صور مكة المعلقة على الجدار، وكتاب القرآن الموضوع بجلاء على طاولة قريبة. وإذ جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، مرت حياتها أمامنا في مراجعة جليلة ساهرة.
لقد تحدرت من أسرة في الإسماعيلية، ذات باع طويل في السياسة. وكان اسمها الحقيقي تحية محمد كريم. عمها قُتل على يد البريطانيين، وحمل ثلاثة على الأقل من أفراد أسرتها اسم "نضال"، كما ذكرت بفخار. والدها قضى بعض الوقت في المعتقلات. وبدت طرطوفية (نسبة إلى شخصية موليير) بعض الشيء، وهي تصف أحاسيسها حول الرقص (وكأنها في معبد، كما قالت)، ولكن كان واضحاً من كلامها أنها تؤمن بأنها ــ في الرقص ــ تقوم بما هو أكبر من استثارة الرجال، على طريقة القيان العاديات. وقالت باقتناع تام: "كراقصة، كانت حياتي جميلة، وأنا أحبها". ولقد رأت تحية ــ على صواب كما أظن ــ أنها جزء من نهضة ثقافية أساسية، وحركة إحياء وطني، في الفنون، ارتكزت على حركة سعد زغلول، الليبرالية المستقلة، وعلى ثورته عام 1919. وكانت الشخصيات الفنية ــ في هذه الحركة ــ تتضمن أدباء كنجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وطه حسين؛ ومغنين من أمثال أم كلثوم، وعبد الوهاب؛ وممثلين مثل سليمان ونجيب الريحاني.
ولقد رأت تحية ــ على صواب كما أظن ــ أنها جزء من نهضة ثقافية أساسية، وحركة إحياء وطني، في الفنون
ومنذ صباها، تلقت تحية تعليمها على يد بديعة مصابني، التي نصحتها بعدم التلكؤ أمام الملاهي الليلية والبارات، بعد أداء وصلتها. وأضافت ــ بكآبة ــ أنها وجدت صعوبة بالغة في تعلم استخدام الصنوج، لكنها نجحت في ذلك أخيراً، بفضل بديعة، المرأة التي تحدثت عنها بحب وتبجيل.
وحين حضر الشاي والبسكويت، سألتها أن تتحدث عن حياتها السياسية. وكانت شروحاتها ذات أهمية فائقة، بسبب أنني أدركت ــ للمرة الأولى ــ أنها كانت على الدوام جزءاً من اليسار القومي (وذكرت أن عبد الناصر زج بها في السجن، لأنها كانت عضوة في "رابطة السلام"، إحدى المنظمات المرتبطة بموسكو في الخمسينات)، ولكن أيضاً بسبب رأيها، الذي يحط كثيراً من قدر قادة مصر الحاليين. وسألتها عن كارثة "يحيا الوفد"، فقالت: إن العمل اعتبر مسرحية ساداتية، ولكنها نظرت إليها من زاوية الاستعداد المصري الدائم، للنظر إلى الأجانب كأناس "أفضل منا". هذه المحاججة غير المقنعة، للدفاع عن عمل ما أزال اعتبره مسرحية تخدم خط السادات بوضوح، قادت تحية إلى الانخراط في نقد لاذع لزوجها السابق فايز حلاوة، الذي استدرجها من كارثة إلى أخرى، كما قالت. ثم سألتني: "لماذا تراني أعيش هنا وليس في بيتي؟ لأنه أخذه بكل ما فيه، ومعه صوري وأفلامي، ولم يترك لي أي شيء". وسرعان ما أفسحت عواطف الشفقة الميدان أمام المرح، حين سألتها عن الولايات المتحدة، التي زارتها عدة مرات. وحدث مرة أنها جابت طول البلاد وعرضها في سيارة، خلال رحلة وجدتها ممتعة: "لقد أحببت البشر، ولكني أكره الحكومة الأميركية".
وكان الحديث مع هذه السيدة الوقورة الطاعنة في السن منعشاً، خصوصاً بالنسبة لامرئ شب على الأفلام المصرية، دون أن يعرف الكثير عن خلفياتها، ومثل له رقص تحية ذاكرة خصبة ولكنها غير مستكشفة نسبياً.
كانت مصدر معلومات حول سلسلة متنوعة هائلة من الموضوعات، روتها جميعاً بنبرة سخرية دافئة ومرحة وجذابة للغاية. وعند نقطة ما، انقطع الحوار بفعل أذان المغرب، المرفوع عبر مكبر صوت أعلى مئذنة مسجد قريب. وعلى الفور توقفت عن الكلام، وأغلقت عينيها. ومدت ذراعيها رافعة الراحتين إلى الأعلى، ورافقت المؤذن في تلاوة الآيات القرآنية. وحين فرغت من ذلك، سارعتُ إلى طرح السؤال الملح، الذي كنت لا آمل في إيجاد الفرصة المناسبة له، والذي حبسته في داخلي طويلاً، ربما منذ أن رأيتها ترقص في الخمسينات: "كم مرة تزوجت يا تحية"؟ ذلك كان يرقى إلى مصاف مطالبتها برط حسّية رقصها (وابتسامتها الخلابة تلك) بحياتها الشخصية.
كان التحول في مظهرها صاعقاً. كانت فرغت لتوها من الصلاة، حين تهيأت للإجابة عن سؤالي، فوقفت منتصبة وكوعها مائل نحوي باستفزاز، والذراع الأخرى ترسم إيماءة مجازية في الفضاء، وقالت: "مرات عديدة". ثم اقترن صوتها بالصفاقة المعهودة عند نساء الليل. وبدا أن عينيها ونبرة صوتها تضيف التالي: "ثم ماذا؟ لقد عرفت الكثير من الرجال". ولكي تخرجنا من هذا المأزق الصغير، سارعت نبيهةُ ــ الجزعةُ أبداً ــ إلى سؤالها عمن أحبته بين هؤلاء، ومن الذي تأثرت به أكثر من سواه؟. وردت تحية بحدة: "لا أحد على الإطلاق. كانوا مجموعة رثة من الأوغاد"، وأعقبت قولها بشريط من أقوال الحشو. ولقد كشف هذا الانفجار الجبار عن شخصية ذاتوية ومقاتلة، أبعد ما تكون عن استسلام وركون سيدة مصلية طاعنة في السن. ومع ذلك فقد كان المرء يستشعر الروح الرومانتيكية، في كائن اعتاد الوقوع ضحية الخداع، ولكنه مستعد للانخراط في العشق من جديد، إذا وجد الفرصة. ولقد سردت تحية، بتفصيل لا ندم فيه، وقائع مصاعبها الأخيرة مع الرجل الوغد ،الذي يدعى فايز حلاوة. وكان تعاطفنا معها تاماً، مثلما كان حالنا معها ومع نبيهة، في علاقتهما بمنتج ثري أراد استغلال النقابة. "آه من الرجال" قالت متنهدة. ومازحتني عيناها المثيرتان حين انتقلتا إلي.
لقد عرفتْ أنساق وأشكال عالمها، واحترمتها إلى حد كبير. كانت ابنة نجيبة، وهي اليوم مسلمة تقية عجوز. لكن تحية كانت شعاراً لكل ما هو غير خاضع للإدارة والضبط والانضواء في ثقافتها، ولهذا كان مسار "العالمة" والراقصة والممثلة الفذة، هو الحل الممتاز لتلك الطاقات. وبمقدور المرء أن يتحسس الثقة، التي أضفتها على علاقتها بمراكز السلطة، وتحديات امرأة حرة.
وحين قصدت أرشيف القاهرة المركزي للسينما، في اليوم التالي، بحثاً عن مادة فوتوغرافية ومكتوبة تخص تحية، لم أعثر سوى على خرائب، في شقة سفلي صغيرة، تحتوي على مستخدمين أكثر من العمل، وعلى تصميمات مبهمة لتسجيل تاريخ مصر الفني، أكثر من الخطط، الكفيلة بإنجاز العمل الفعلي.
ثم اكتشفت أن تحية كتبت تاريخها الذاتي الخاص، الذي لم يسجل القسط الأكبر منه، والذي يبقى حاضراً بكامل بهائه، معرضاً للنهب والتخريب.