السبت  21 كانون الأول 2024

غزة: سر البقاء بقوة الحيلة- رولا سرحان

2023-11-25 10:03:23 AM
غزة: سر البقاء بقوة الحيلة- رولا سرحان

تدوين- ثقافات

كثيرا ما يَطرح سؤال "البقاء" نفسه أمامنا حول غزة، سواء كان ذلك في الأحوال الطبيعية، والتي هي لا طبيعية لكنها دون حروب، حيث الواقع المعيشي الصعب هو سيد الموقف على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، وسواء في الحروب وما بعدها. فبعد كل مشاهد الدمار، وعندما تنهض غزة من جديد، وتعود للحياة مبتسمة تبني نفسها، وبيوتها بناسها ومحبتهم لبعضهم ولفلسطين وللحياة، سيعود السؤال عن سر غزة في البقاء سؤالاً أساسيا يرهق أعداءها ويفرح محبيها ومناصريها. ويفترض سر البقاء في غزة دون انكسار إجابة تجمع العقل بالمخيلة كي يتمكن للذهن أن يتفتق عن الكيفية التي تفاجئ بها غزة الجميع بينما يكون الكل في مكان تفكير آخر وفي تقديرات وتحليلات أخرى، فتأتي غزة لتكسر كل أفق للتوقع.

لعل أول الأمور التي تقترب من الإجابة هو رفض مبدأ تكيف المستضعفين، وتبني فكرة العيش بقوة الحيلة. عندما نقف أمام "الحيلة" كسبيل للبقاء وسبيل للحياة، سنستبعد مبدأ "التحايل" الذي يتضمن قيمة معيارية سالبة. وستكون "الحيلة" قيمة معيارية موجبة لمعنى البقاء المرتبط بالإمكانيات. وحين يتم رفض "التحايل" فلأن المحتال مزيف وكاذب، أما المتحايل فهو حاذق حصيف لأنه قناص عندما يكون طريدة لقناص آخر، أو لظرف صعب حفز عنده غريزة البقاء وأطلق فيه شرارة الحياة. ستكون الحيلة والحياة متلازمتين، لأن الحيلة تعيد تشكيل الحياة وإن كان وجه الموت حاضرا في الأخيرة بقوة كما يحدث في غزة.

أين بدأت الحيلة؟

تواجه غزة اليوم، وفي معترك "طوفان الأقصى"، آلة دمار "شمشون" الجبار، الذي يحاول الانتقام من غزة التي هزمته أول مرة بحيلة ابنتها "دليلة". بدأت الحيلة في أرض غزة منذ زمن بعيد مؤسسا لظلمها، كما سيظلم الموروث الأدبي والشعبي "دليلة" كثيرا، وسيصورها بصور مشينة، وسينعتها بالخائنة، أو الجاسوسة، أو الزانية. ستكون دليلة حبيبة شمشون مضرب المثل في الخيانة، وسيسود مثل "شمشون" (علي وعلى أعدائي) ردحا طويلا من الزمن باعتباره حلقة من حلقات البطولة والشجاعة والتضحية. وستكون الحكاية المتداولة عن "دليلة" حكاية تظلم ذكاء امرأة حاولت أن تنصر شعبها في وجه القاضي العبراني الظالم "شمشون".  

سيشكل مربع دليلة، شمشون، غزة، الحيلة، ساحة للحكاية التي تروى منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا. سنكون أمام مظلومية تاريخية فرضتها سردية توراتية على "دليلة" ولاقت صدى لها في الموروث الشعبي العربي والعالمي. وستبدأ الحكاية التي سيجري تداولها من المنتصف، متجاهلة السياق، والمعتدي الأول "شمشون"، الذي حاول أن يفتك بالفلستينيين في غزة فاتبع لمرات "زواج الخديعة" إلى أن وقع في غرام دليلة، فهزمته، فهدم المعبد عليه وعلى أعدائه الفلستينيين، وليكون البطل الخارق "شمشون" سيد الحكاية. وسيتم تبني الرواية الصهيونية عن شمشون مثلما تم تبني الإعوجاج في قصة "ماساداه" لتكونا نموذجين عن كيفية تخليق السرديات وكتابة التاريخ، وكيفية الترويج لهذا التاريخ وتسويقه عبر التركيز على جزئيات وتجاهل سياقات تضعها في موضعها الصحيح.

ما سيبقى صالحا للحقيقة من هذه الحكاية، هو صلة العداوة ما بين "شمشون" وأهل "دليلة"، ستظل الحكاية محمولة فوق سماء غزة حكاية لم تنته، حتى يقتص الحبيبُ-العدو من حبيبته-عدوته، أو تنتصر هي عليه بكل حيلة تمتلكها.

الحيلة في "معركة طوفان الأقصى"

يجمع المراقبون أن "معركة طوفان الأقصى"، كانت مفاجأة مذهلة على كل الأصعدة، بما فيها التخطيط والتوقيت والتنفيذ. وراجت عبارة "الحرب خدعة" في أوساط المحللين، في حين أجمعت الصحافة الإسرائيلية على أن "طوفان الأقصى" كانت "أكبر عملية خداع إستراتيجي للجيش الإسرائيلي". ويعزى أحد أهم الأسباب التي أدت إلى هذه المفاجأة، إلى سياسة التحايل التي اتبعتها حركة المقاومة في غزة تجاه العدو الإسرائيلي على مدى أكثر من عامين حين لم تشارك خلالها في جولات القتال عندما فرض القتال على القطاع في مرات عدة. وهو ما روج لعدة تفسيرات كان أبرزها أن حماس لم تعد راغبة في المواجهة وأنها ترغب في تجنب إسرائيل خاصة في خضم التطبيع المحتمل مع السعودية والتقارب السعودي- الإيراني، والذي أدى إلى توقع تغييرات استراتيجية في المنطقة. لكن الناطق العسكري باسم "كتائب القسام"، الذراع العسكرية لحركة حماس، "أبو عبيدة"، جاء ليوضح المصيدة التي أوقع فيها عدوه- فالقناص دائما ما يحاول أن يحجب الفخ. إذ قال في كلمة مصورة مساء الخميس 12 أكتوبر/تشرين الثاني، إن الكتائب قد مارست "خداعا استراتيجياً بدأ منذ 2022" على العدو الإسرائيلي، في إطار الإعداد لعملية "طوفان الأقصى"، مشيرا إلى أنه "كان من مظاهره أننا استوعبنا الكثير من الأحداث التكتيكية بما فيها التغاضي عن بعض اعتداءات الاحتلال". وأضاف أنه قد جرى الاعتماد على "أساليب الإعماء لإخفاء تقدم مقاتلي كتائب القسام".

تستدرجنا كلمات "أبو عبيدة" هذه إلى التوقف عند تلك العلاقة التي تشكلها "الحيلة" في العمل العسكري عندما يخلق خيطا رفيعا ما بين الواقع والخيال فيلعب على الجلي والخفي بخلطهما. فواحدة من مقومات الحيلة هنا هي المقدرة على عكس أو قلب الأمور وإعادة تشكيلها، أي عندما يتم تحويل المتخيل في ذهن العدو إلى حقيقة، وتحويل الواقع الحقيقي الذي يجري الإعداد له إلى أمر متوهم. هذه المقدرة، هي بمثابة السحر العجائبي الذي فتن الجميع في "طوفان الأقصى"، وهو الذي أربك العدو فمنعه من رؤية الجانب الذي حجبه عنه العقل المدبر للمعركة. ولمزيد من الافتتان، فإن سياسة الخلط هذه كانت متلازمة مع حلم أو متخيل جماعي آخر يفيدُ باستنهاض الانتصار من مستنقع الهزائم يوما ما. ذلك الحلم الجماعي سار على أرض الواقع وأصبح حقيقة يؤرخ لها بأن ما قبل 7 أكتوبر ليس كما بعده.

مستوطنة وهمية بنتها القسام للتدريب

تخلق الحيلة حالة من الفوضى لأنها تكسر المستقر والثابت في الأذهان، متجاوزة الحسابات المباشرة إلى طريقة تفكير عقلية مختلفة، تعيد بناء الواقع الذي يخرج من الفوضى إلى عالم له معنى، لأنها رفعت اللُّبس عنه. وهذا المعنى يصبح مقبولا ومحتفى به من قبل الجميع إلا الذي انطلت عليه الحيلة، لأنه وقع فيما يسمى بـ "فشل التخيل". وذلك عندما لم يكن قادرا على أن يرى أن الواقع يكمن في مكان آخر غير الذي توفره له أجهزة استخباراته، وأنظمته التجسسية، يبنى أمام عينيه، وفي حلقات التدريب التي كانت تنظمها القسام لعناصرها، وفي المستوطنة الوهمية التي بنتها لتدربهم على اقتحامها. كل ذلك دون أن يتخيل أن هذه المحاكاة ستصيرُ حقيقة.

وعندما انطلت حيلة "القسام" على العدو بقي الأخير فترة من الزمن مذهولا صامتا، فقد فشل جيشه كقوة رد سريع أمام اكتمال المفاجأة. إذ تجول عناصر "القسام" في المستوطنات، وقاموا بأخذ الأسرى، ومن ثم ظلوا هناك مشتبكين ليومين كاملين منذ بدء التوغل. وبعد سويعات قليلة من دخولهم، لحق بهم المدنيون، قاموا هم أيضا بأخذ الأسرى، وأخذوا بعض المعدات التي هم بحاجتها، وبعضهم ملأ خزان الوقود في شاحنته. أصبحت المستوطنات عالما غرائبيا، ينظر المشاهد إلى المنظر فيرى مشاهد فوق التصور لكنه يطيح بأوهام الانهزام، فهنالك حيز فارغ من العدو مليء بالفلسطيني وكان محرما عليه: أرضه التاريخية.

أهالي غزة: الحيلة في رغيف المواجهة

سيُذهِل أهالي غزة المتابع للأحداث بمقدرتهم على تخطي حاجز "قلة الحيلة" بـ "الحيلة". فرغم انعدام سبل الحياة بمقولة المستعمر الشريرة "لا طعام، لا ماء، لا كهرباء، لا وقود"، وفي ظل حرب إبادة تخلق القبور في كل مكان، سينتصر أهل غزة على مقولة الشر بمقولة "الحيلة" بإعادة تدوير الحياة بتدوير مخلفات الحرب وبقايا منازلهم وملابسهم، وأدواتهم الرياضية، وألعابهم، كي يتمكنوا من البقاء والحياة. ستعيد "الحيلة" نفسها إلى موضعها الأول، مكانا للتهكم والسخرية من عقول "العقلانيين" و"المتنورين" وأصحاب الياقات الزرقاء، والمستعمرين، كي تكون قصصا عن الحياة تروى بمرح وقليل من الضحك رغم المأساة والبكاء الخانق.

عملية إعداد الخبز ستصبح بحد ذاتها مقولة سياسية بالنسبة للفلسطينيين في غزة

سيحدثنا "عبود" الناشط الشهير على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي ينقل لنا مشاهد الحرب في الحياة بلغة ساخرة، كيف يصنعون الخبز في غزة فيقول لنا: "نحن شعب نحب الحياة، والآن نصنع خبزا ، خبز بلادي لم نعده منذ عام 1948".1 سترتبط عملية إعداد الخبز في غزة بالنسبة للكثيرين بأمرين، الأول: التحايل على حرب التجويع بصناعة أفران بدائية مما هو متوفر، قد يكون كرسيا مقلوبا وعليه رقاقة حديدية، وقد يكون فرنا من الطين، أو بقايا غاز طهي مدمر، بحيث يتم تزويده بالفحم أو الورق أو الحطب كمصدر للوقود بعد أن منع العدو دخول الوقود إلى غزة. الأمر الثاني، هو أن عملية إعداد الخبز ستصبح بحد ذاتها مقولة سياسية بالنسبة للفلسطينيين في غزة. ستقول إحدى الأمهات، وبكل عنفوان، بينما تعد الخبز لأطفالها: "ما زلنا صامدين، ما زلنا نجعل من المستحيل بادرة أمل... لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي..لا تسقطوا رغيف الخبز من يدي."2 سيصبح رغيف الخبز، رغيف مواجهة، يحيلُ إلى بندقية تحدث عنها الراحل ياسر عرفات، عندما خير العالم بين خيار السلام والمقاومة، فحاول العدو إسقاط الخيارين، فأظهرت له غزة خيارا ثالثا هو أصعب من الخيارين السابقين: أن يصنع الفلسطيني من الخراب المستمر حياة مواجهة.

هكذا بدأت غزة منذ الحصار المفروض عليها، ببناء غزة تحت أرضية، عبر شبكة من الأنفاق التي ضمنت لها حياة مواجهة، تثبت نفسها اليوم في معركة "طوفان الأقصى"، رغم الحصار الخانق، ورغم الدمار الهائل، ورغم تدمير معظم الأنفاق لمرات، وإعادة بنائها لمرات أخرى. لا أحد يعلم اليوم شكل غزة تحت الأرض، كل ما يراه العالم فوق الأرض هو غزة المدمرة، وناسها المتمسكين بالحياة. ما لا يراه العالم في غزة أن لها بعد رابع في المساحة، العمق الفيزيائي تحت الأرض، والعمق الروحي الذي يحلق في داخل أهلها، وهو الذي يفاجئ الجميع في كل مرة.

ستتصدر عملية إعداد الخبز في غزة الكثير من عمليات توثيق الأحداث أثناء الحرب، وستكون عبارة "هكذا يتم صناعة الخبز في غزة في عام 2023"،3 عبارة عامة تشبه الشعار إلى حد كبير، لما لها من مدلولات كبيرة، أهمها إعادة التفكير بالمفصل التاريخي الذي انكسرت عنده الحداثة في فلسطين عام 1948، ويعاد تكسيرها، بل وسحقها، للتأكيد على أن الفلسطيني ما زال يعيش عصورا بدائية يتصرف فيها كـ "حيوان بشري" لم يرتق بعد في سلم الحداثة باعتباره إنسانا متعقلا قادرا على التطور. ففي كل حرب تشن على فلسطين، يتم كسر كل مقومات إنسانية الفلسطيني، وجعله لا مرئيا بجعل تحضره مسألة خاضعة للشك وللتساؤل. فستتصدر المشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي لقطات عن استحمام الغزيين في مياه البحر، وغسل ملابسهم هناك بعد أن قطع عدوهم الماء عنهم. وسيستخدمون المعدات الرياضية التي حطمتها الحرب في محاولة لتوليد الكهرباء لشحن هواتفهم الخليوية. مشاهد تدعو في الكثير من الأحيان، لا إلى الشك في حداثة الفلسطيني، الذي، بلا شك، لا تعنيه معايير الحداثة الموصوفة غربيا، بل إنها مشاهد تدعو للتمعن في كيفية تخليق الإمكانيات التي تحفز لدى الفلسطيني المقدرة على الارتباط بالمكان حتى لو كان ارتباطا بقوة الحيلة.