الخميس  21 تشرين الثاني 2024

شقيقة إدوارد سعيد تستعيد الذكريات في "جدتي وأمي وأنا.. مذكرات 3 أجيال من النساء العربيات"

2023-12-22 07:31:53 AM
شقيقة إدوارد سعيد تستعيد الذكريات في
مذكرات جين سعيد المقدسي تعد رحلة للتواصل عبر الأجيال

تدوين- إصدارات

في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة، يأتي كتاب المؤلفة جين سعيد مقدسي ليضرب بقوة على أوتار الذاكرة الفلسطينية، مرددا أصداء الانتماء لتعزيز رواية الفلسطينيين حول الارتباط بالأرض واستمرار مقاومة الاحتلال.

وتأتي الترجمة العربية لكتاب المقدسي، شقيقة المفكر الفلسطيني الأميركي الراحل إدوارد سعيد (1935 – 2003)، وسط تحديات الإبادة والقتل والتدمير لتُذكرنا بحياة الفلسطينيات قبل نكبة 1948 وبعدها، وتظهر بطولة المرأة الفلسطينية، وهي تغرس جذورها عميقة في الأرض، وفي الخلفية تبرز صور أخرى عن بهاء مدن فلسطين قبل الاحتلال الإسرائيلي وطبيعة ما كانت تنعم به العائلات الفلسطينية من استقرار قبل إعلان قيام إسرائيل.

مذكرات جين سعيد المقدسي -التي درست في الجامعة اللبنانية الأميركية- تعد رحلة للتواصل عبر الأجيال، وبحثا تاريخيا وفعلا تشاركيا يمد خيوط تاريخ وثقافة النساء، متجاوزاً حدود النص نحو ترسيخ الهوية عبر العلاقة مع الآخر كما يعبر عن وعي عميق بتواصل الأجيال وإعادة تركيب الماضي واكتشافه في نص يمثل نسيجا واحدا بألوان متعددة جاءت من فكرة الامتداد العائلي.

وأهمية هذا الكتاب تبدو في جدية منهجه، والتزام الكاتبة بالإبحار في الخاص والوغول به في قلب العام، بما قد يعتبر رؤية جديدة في كتابة السيرة الذاتية، لا تقل أهمية عما كتبه شقيقها إدوارد سعيد صاحب "خارج المكان"، من خلال كتابة مغايرة، وكأن المؤلفة تقول إنها ما زلت هنا "في قلب المكان" رغم أن من تكتب عنهم جميعا عاشوا وماتوا تقريبا في المنافي، إلا أن الحبل السري يربطهم جميعا بالقدس وفلسطين.

والكتاب ليس مجرد سردية للذكريات والروايات العائلية، وإنما هو مذكرات تتناول تجارب الحياة الشخصية في سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي على اتساعه، لتقدم في النهاية تاريخا غير رسمي للمنطقة العربية وتاريخها منذ الإمبراطورية العثمانية وحتى القرن الحالي، وبامتداد العالم العربي.

شهادات موثقة

يحمل الكتاب دفاعا قويا عن التاريخ الضائع، والجغرافيا المغتصبة، ويعيد الاعتبار للنسوية العربية بعيدا عن الفكرة "البالية" بالادعاء بظلم المرأة، بل تتجاوز جين سعيد المقدسي حيز الكتابة التقليدية عن الذات وإنجازاتها الشخصية، لتجمع بين البحث التاريخي والتقصي الذاتي، ويبدو ذلك جليا من خلال الإطار العام للكتاب الذي بلغت صفحاته 370 صفحة، حيث تقسمه إلى 4 أجزاء أساسية هي: جدتي في التاريخ، عالم أمي، نساء معاً، أمي وأنا، وتؤطرها بـ"افتتاحية موسيقية" وتختتمها بما تطلق عليه "المقطوعة الختامية".

وتكشف مقدسي في صفحات الكتاب الأولى عن رحلة ومسار الكتابة التي دامت لسنوات طويلة تجاوزت 20 عاما، أما التفكير في الكتاب فقد تجاوز النصف قرن تقريباً، مؤسسا للعلاقة بين الأجيال الثلاثة من النساء، حيث ينطلق مشروعها من نية استكشاف حياتها باعتبارها امتدادا لتجارب وحياة والدتها وجدتها من خلال حكايات 3 نساء من أجيال متتالية يشكلن امتدادا عائليا وتاريخيا، وتلتحم رواياتهن فيما يشبه ثوبا ملونا يبدأ مع الجدة "منيرة" ثم يتضافر مع الابنة "هيلدا" وأخيرا الحفيدة "جين" التي تمسك بزمام كل تلك الخيوط وتكون منها ذلك العمل الفني البديع.

ولا تكتفي الكاتبة -مؤلفة "شتات بيروت: مذكرات حرب 1975-1990"- بسرد ذكرياتها وحكايات جدتها ووالدتها، بل كان توثيق المذكرات هو أهم درس تعطيه للأجيال المقبلة، بأن الذكريات ليست سرديات تذروها رياح النسيان، بما تحمله الذاكرة وما تغفله بمرور الزمن والتجربة الذاتية، بل يمكن أن تكون جزءاً أصيلا من الحقيقة والتاريخ.

ما فعلته المؤلفة أنها استندت في مذكراتها إلى العديد من المصادر التي توردها بالتفصيل في نهاية الكتاب التي تجمع بين المصادر الرسمية وغير الرسمية، حيث تشير الدراسات التاريخية والوثائق الرسمية التي اطلعت عليها إلى استيعاب التاريخ السياسي للمنطقة عبر عشرات السنين، عن سوريا وفلسطين التاريخيتين والاستعمار الفرنسي والبريطاني، واستعانت بالوثائق المحفوظة في المؤسسات الدينية والتعليمية والإرساليات الأجنبية في صياغة الخلفية التاريخية والسياسية لحياة العائلة ونسائها.

وتتحدث في مستهل المذكرات عن تفاصيل الكتابة، ويتضح أن نزعتها الأولى لم تكن نحو كتابة سيرة ذاتية، بل سيرة محبة مزدوجة لهاتين المرأتين الجدة والأم، كما تقول المترجمة في مقدمتها الإضافية، وذلك بالتأكيد على موقعها ضمن السلسلة الممتدة من التاريخ والتراث النسائي العائلي، ورغم أنها أرادت أن تكتب سردية شبه روائية، فإنها وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع التاريخ بكل حقائقه وخيالاته، لتتحول بالتالي كتابة المذكرات إلى عملية بحث وتأويل وتمثيل.

وفي تقديم المؤلفة للكتاب في طبعته العربية أصرت أن تضع اعتذارا عن عدم الكتابة باللغة العربية، من خلال تفسيرها علاقة "اللغة بالتاريخ"، وتقول "اللغة العربية هي لغة قلبي ولغة روحي، هي اللغة التي تربطني بماضيّ، بفلسطين ومصر ولبنان حيث أعيش، تربطني بوالدي ووالدتي وجدتي، وتربطني بالنضال في سبيل التحرر والحرية التي تمنحني الأمل والأحلام والسعادة، كما تربطني بأبنائي وأحفادي وسعيهم لتعلم اللغة العربية والارتباط بها وحبها مثلما أحبها أنا".

وكان إحساسها بالتمدد الإمبريالي واضحا منذ البداية، وهي تؤكد أنه رغم ضعف لغتها العربية، فإن انتمائها للعروبة والهوية العربية لم تنل منه الأحداث يوما، تقول: "كنت واعية ومدركة إدراكا حميما لمعنى الإمبريالية تحديدا، الذي صرت أستشعره مع تزايد وعيي السياسي، وكانت جهود والدي ووالدتي المتواصلة وإصرارهم على الاهتمام بلغتنا العربية قد أثارا وعيي بتلك المشكلة، وبعد حرب السويس تعلمت من عبد الناصر المعنى الدقيق للتحرر من الاستعمار، إذ تغيرت أسماء الشوارع والميادين لتعكس تاريخ مصر وأبطالها بدلا من أسمائها الأجنبية".

كتابة لإنقاذ الذاكرة

تروي المؤلفة فكرة اهتمامها بالكتاب، فتقول "بدأت التفكير في الكتاب، عندما رأيت جدتي لأمي، منيرة بدر موسى، وقد أخذت في الوقوع في براثن ضعف الذاكرة التي سحبت النور من أيامها الأخيرة، وكانت والدتي هيلدا موسى سعيد، في تلك الفترة تعيش أولى سنواتها كأرملة، وكبر أطفالها وارتحلوا وتركوها لتعاني مرارة فراغ عشها، وقررت يوما أن أكتب عن حياة جدتي ووالدتي، وعن حياتي، كتابة تقوم على الدراسة والمقارنة والتأمل، وعندما توفيت جدتي في عام 1973، ازداد إصراري على ذلك وقد عمقه الحزن عليها، وعندما قامت الحرب الأهلية في لبنان وبعدها بعامين ازددت إصرارا".

وأثناء الحرب اللبنانية، تكمل مقدسي "حين أخذ عالمنا ينهار فوق رؤوسنا، في هذا الوقت صار للذاكرة الملموسة والدائمة أهميتها البالغة، وبدأت الإلحاح على أمي والضغط عليها لكي تكتب ذكرياتها، ووافقت على تسجيل ذكرياتها على الورق، وخلال عدة شهور من الكتابات المتقطعة، ناولتني كراسة ذكرياتها مكفهرة معلنة أنها لن تكتب شيئا بعد الآن، واحتفظت بالكراسة وسط أشيائي الثمينة العزيزة، ولم أقرأها إلا بعد انتهاء الحرب، وبعد مرور عدة شهور على وفاتها. ومن الصفحة الأولى عادت أمي إلى الحياة مثلما عاد إليها موتاها في أثناء الكتابة، والدها وزوجها وإخوانها وأمها".

وتشرح "أمها أو جدتي التي كنت أتذكرها تحتفظ بقاعدة بيانات كبيرة بشأن من ترك فلسطين ومتى، وهل حدث ذلك أثناء أم بعد حرب 1948 التي أدت إلى تهجيرهم هي وأبناؤها وبنتها، وكانت تعرف أين يعيش كل فرد من دائرة معارفها الواسعة، وأين انتهى بهم الأمر كلاجئين".

وتحكي المؤلفة "امتدت حياة جدتي عبر عصر شهد تغيرا وصراعا ثقافيا هائلاً، وتقلبات اجتماعية وسياسية في المنطقة المعروفة ببلاد الشام، أي سوريا التاريخية التي ضمت فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، وفي مصر التي حملها مصيرها إليها، فقد ولدت في عام 1880 في مدينة حمص السورية، حيث كان والدها أول قس عربي راع للمجتمع البروتستانتي الناشيء في بلاد الشام، والتحقت بمدرسة بروتستانتية في بيروت لإعداد المعلمات، وفي 1905 تزوجت جدي، شكري موسى، الذي ترجع أصوله إلى مدينة صفد في شمال فلسطين، ثم انتقلوا إلى أميركا ليعود الجد قسا في الكنيسة المعمدانية ليعيشوا في مدينة الناصرة -مدينة الرب- كما كان يسميها".

مراجعة فكرية

وتعترف المؤلفة أن مفهومها عن الحداثة كان زائفا، وتقول "علمت خطأ العديد من آرائي المسبقة مثل مفهومي للحداثة كنقيض للتراث، وخاصة عند تطبيقه على حياة جدتي ووالدتي، كان مفهوما غير صلة بالموضوع إن لم يكن زائفا زيفا تاما، فقد امتزج الماضي الآن مع الحاضر، والموتى مع الأحياء، كنت أظن أنني سأعيد اكتشاف حيواتهم، ولكني أدركت أن ما كنت أقوم به هي عملية اكتشاف، وهي عملية مختلفة تماما، كانت العملية أشبه بتجربة كشف أثري، لم يكن لدي أية فكرة عن وجودها أصلا".

وتتابع "مع وصولي إلى نقطة النهاية كان ماضي كل من جدتي وأمي صار يخصني، كما صار ماضيّ أنا يخصهما، فمن خلال فهمي الجديد لحياتهما، أصبحت حياتي في نظري أقل غشاوة، وأقل انفصالا عن حياتيهما، شعرت بأني أقل احساسا بالاغتراب، وأكثر اتصالا بالعالم، وأكثر راحة وسلاما مع جدتي ووالدتي ومع نفسي والعالم الذي أعيش فيه".

وتخلص إلى أن الجوانب المتنوعة لهويتها، التي كانت تشعر بها "متصارعة ومتقاتلة"، استقرت أخيرا في مكانها، "استقرارا مفهوما ومعقولا"، وتقول إن الحديث والتقليدي، والغربي والشرقي، والمسيحي والمسلم، والغني والفقير، والسياسي واللاسياسي، والماضي والحاضر "هي كلها جوانب تعلمت أن أراها لا باعتبارها متناقضات، أو فئات تقصي إحداها الأخرى، فلا يمكنني اختيار واحدة دون أخرى، وإنما باعتبارها خلفية ثقافية للوضع الثقافي والتاريخي للحياة التي عشتها، ورغم ما أثار هذا العمل من أسئلة، وما سببه لي من قلاقل، فإنه كان عملية اكتشاف للذات ومسيرة تصالح".