السبت  27 نيسان 2024

"هذا ليس معرضا".. تظاهرة فنية في مواجهة محو الاحتلال الثقافي لغزة

2024-02-10 05:24:26 AM

تدوين- تغطيات 

"الفن الفلسطيني لم يكن مجرد ترف على هامش الحياة اليومية والوطنية الفلسطينية، بل شكل جزءًا أساسيًّا من صناعة الهوية الوطنية الفلسطينية ومفردات الصمود الوطني الفلسطيني"، انطلاقا من هذه الرؤية التي عبر عنها عضو مجلس إدارة المتحف الفلسطيني، إيهاب بسيسو في الكلمة التي ألقاها خلال مؤتمر صحفي، عقد على هامش افتتاح معرض "ليس معرضا"، في المتحف الفلسطيني في بلدة بيرزيت شمالي رام الله، نظم المتحف، هذا المعرض الجامع لأعمال ما يزيد عن مئة فنان غزي؛ كامتداد لصوت غزة الذي حاول ويحاول الاحتلال أن يطمسه على مدار حرب الإبادة الممتدة منذ ما يزيد عن أربعة أشهر.

ويأتي هذا المعرض، وفقا لبسيسو، في ظل ما يتعرض له قطاع غزة من استهداف للمعالم الثقافية والروحية والتاريخية، وفي ضوء جرائم الاحتلال بحق المكان والإنسان والحيوان؛ ليؤكد على دور الثقافة والفن اللذان يعدان ضرورة من ضرورات استمرار الحياة والألم أيضا.

وكما طوّع الفنان الإسباني بابلو بيكاسو الفن، ليكون شاهدا على الملحمة الأسطورية التي تعرضت لها قرية "غرنيكا" شمال اسبانيا خلال الحرب التي قادتها القوات الفاشية ضد الجمهوريين، لتصبح لوحته "غرنيكا" نموذجا للصمود والألم، والمعاناة والحياة، جمع المتحف 286 عملًا فنيًّا لما يزيد عن 100 فنّان غزّي ليشكل ذاكرة تعبر عن المأساة المروعة التي يشهدها القطاع، بحسب بسيسو.

لوحة غرنيكا- بابلو بيكاسو

وللمعرض خمسة أهداف وفقا لبسيسو، إذ أنه يعتبر امتدادا لصوت غزة الذي يحاول الاحتلال أن يطمسه ويخرجه من السياق الوطني الفلسطيني، وكذلك يعتبر عرفانا وتقديرا للفنانين الذين استشهدوا خلال حرب الإبادة على غزة، والذين فقدوا أعمالهم الفنية ومرسامهم التي تحولت إلى ركام بفعل القذائف، إضافة لكونه تقديرا للفنانين الشباب الذين يواصلون إنتاج الأعمال الفنية رغم قسوة الأوضاع.

 كما يحاكي المعرض، بحسب بسيسو، من خلال توثيقه للوحة الفنان الراحل بشير السنوار "القربان- الفدائي" التي تعود للعام 1982، القربان الذي تقدمه غزة اليوم، في ظل حرب الإبادة التي تتعرض لها. وأخيرا، يهدف المعرض لأن يؤكد على أن غزة توحدنا اليوم كفلسطينيين، من خلال الفن الذي يقدمه فنانوها إلى المؤسسات الثقافية والمتاحف والأفراد، إذ أنها تعيد صياغة البيان الوطني الفلسطيني من خلال مساهمة كل من تبرع بلوحاته وأعارها إلى المتحف لينجح هذه التظاهرة الفنية.

لوحة القربان- بشير السنوار

وقال مدير المتحف الفلسطيني عامر الشوملي، إن الأعمال المعروضة في المتحف، جُمعت من بيوت الضفّة الغربيّة، وصالات العرض، والمؤسّسات والجامعات على امتداد فلسطين التاريخيّة، بالشراكة مع ما يزيد عن 50 معيرًا بين أفراد ومؤسّسات، في حدث تضامني تضافرت فيه الجهود من أجل إنجاز هذه التظاهرة في وقت يكاد التواصل فيه مع الفنّانين في غزّة، أو شحن أعمالهم أمرًا مستحيلا، وفي ظرف التهمت فيه نيران الحرب بيوت صانعيها ومراسهم ومقتنياتهم، فأصبحت هذه الأعمال ما تبقى من إنتاجهم.

ووفقا لمدير المتحف، تشكل هذه التظاهرة عملًا حيًّا، ستضاف إليه طوال الوقت أعمال لفنّانين لم نستطع الوصول إليها ساعة الافتتاح، وأعمال لفنّانين سيستبدلونها بأخرى بعد توقّف المجزرة. إنّه عمل حي يستجيب لإيقاع الحدث ومستجدّاته كشريط عاجل، تُتاح خلاله بعض الأعمال الفنيّة التي تعود ملكيّتها للفنّانين أنفسهم للبيع، وسيذهب ريع بيعها كاملًا لأصحابها دعمًا لهم وشدًّا من عزيمتهم.

وفي كلمة مسجلة، ألقاها الفنان شريف سرحان من محترف شبابيك للفنّ المعاصر في غزّة، قال إن "هذا ليس معرضًا" يصبّ في مفهوم الوجود الفلسطيني، حتّى وإن كانت غزّة ضحيّة الحصار والقصف والنار، وأنّ الفنّان الفلسطيني سيكون دائمًا قادرًا على إنتاج الفنّ الذي يرفع صوت غزّة وأهلها عاليًا، حتّى وإن عزلوها عن العالم. كما يؤكّد سرحان على أهميّة هذا المعرض كمساحة للتضامن وتسليط الضوء على قضايا غزّة. ويضيف: "لعبت شبابيك والتقاء، كجموعتين فنيّتَين، دورًا مهمًّا خلال السنوات الماضية في التأثير والتأثّر بالمحيط، ويأتي هذا المعرض في سياق التدخّل الذي نحاول بناءه منذ سنوات بيننا وبين الجمهور، سواء محليًّا أو عربيًّا".

وتأتي هذه التظاهرة على شكل ثلاث مساحات عرض متوازية، أوّلها "هذا ليس معرضًا"، في قاعة المعارض الرئيسيّة، وثانيها معرض فردي للفنّان تيسير بركات بعنوان "المفقودون"، تُقام في الرواق الزجاجي، وثالثها عرض بعنوان "نساء غزّة"، يلقي الضوء على قطع تراثيّة من المنجز الشعبي لمناطق غزّة المختلفة.

وعن معرض المفقودون، قال الفنان الغزي الذي يقيم في رام الله تيسير بركات، "كانت مشاهد أولئك الذين يحملون صور أبنائهم المفقودين في مناطق الشرق الأوسط تراودني دائمًا، سواء كانوا في فلسطين، أو لبنان، أو سوريا، هؤلاء الأشخاص الذين يندفعون إلى الشوارع متظاهرين لمعرفة مصير أبنائهم، وأقربائهم، وأحبّائهم الذين فقدوا لمدّة تزيد عن عشرين وثلاثين عامًا. أنا واحد من الذين عاشوا تلك التجربة، فُقد عمّي في عام 1956، ورغم أنّني ولدت بعد ذلك، إلّا أنّ السؤال حول مصيره كان يلحّ عليّ دائمًا، في حين أنّنا لم نعرف عنه شيئًا حتى الآن".

وأضاف: "زادت الحرب الأخيرة على قطاع غزّة الوضع سوءًا، مع فقدان الأحباب والأصدقاء والإخوة والأخوات، خاصّة أولئك الذين فقدوا تحت ركام المباني، هؤلاء الآلاف في غزّة دفعوني للعمل حول المفقودين، وحول فكرة الفقد بحدّ ذاتها، وهي فكرة مؤثّرة جدًّا على المستوى الشخصي، وجراحها عميقة".

ويعتبر هذا المعرض الفردي، واحدا من سلسلة معارض فردية يخطط المتحف الفلسطيني لتنفيذها لفنانين انشغلوا بتوثيق الحرب منذ العام 2009، حتى باتت جزءًا من مشاريعهم الفنية.

وبالتوازي مع هذا كلّه، تأتي مساحة "نساء غزّة"، في عرض إثنوغرافي في بهو المتحف لأثواب وحُليّ تراثيّة تروي قصّة نساء غزّة بين الإبداع والتهجير والتكافل، وترصد الحبّ الأزليّ الذي يجمع نساء فلسطين بموروثهنّ الخالد، وتحكي حكاية ماضٍ لم يمض، ومستقبل يبدأ الآن.

بعدا روحيا 

واعتمد المتحف في عرضه على الإنارة الخافتة، في مساحة العرض كاملة، دون أن توضع أية إضاءة خاصة إلى جانب كل عمل فني كما جرت العادة، إذ ينظر القائمون على المعرض إلى مجمل الأعمال الفنية على أنها عمل فني واحد، وتعبير عن حالة أكثر اتساعا، كما أن هذه الإضاءة أقرب لما تكون عليه في المعابد وتضفي بعدا روحيا للحيز ككل، الأمر الذي سيضطر الجمهور إلى الاقتراب من الأعمال الفنية المعلقة أمامهم للتعرف على تفاصيلها، في إشارة إلى محاولات التعتيم على غزة وعزلها عن العالم، والدعوة إلى الاقتراب من حقيقة الصورة والانغماس في أبعادها.

واستخدم اللون النيلي على الجدران كونه يشير إلى صبغة "النيلة" التي اشتهرت بها قرية المجدل، وهي المادة التي كانت تصبغ بها النساء أثوابهن وقت الحداد، كما أن استخدامه هنا كناية عن أت فلسطين للفلسطينيين من النهر إلى البحر. 

ويتوسط القاعة ركام يرمز إلى المعرض الذي كان المتحف بصدد افتتاحه بداية العام الحالي، إلا أن الحرب جعلت منه خطة ملغية؛ للانخراط في أعمال ومعارض ذات صلة بواقع غزة. 

لمتابعة المؤتمر الصحفي كاملا