السبت  21 كانون الأول 2024

بين غزة والداخل المحتل: سؤال الأخلاق والصراع الهوياتي وعقلنة المواجهة من منظور قيادي.. حوار مع سامي أبو شحادة

2024-06-10 05:43:21 AM
بين غزة والداخل المحتل: سؤال الأخلاق والصراع الهوياتي وعقلنة المواجهة من منظور قيادي.. حوار مع سامي أبو شحادة
د. سامي أبو شحادة

تدوين- سوار عبد ربه

يقول الروائي والناقد الياس خوري في أحدث إصداراته "النكبة المستمرة": "عندما نتحدث عن النكبة فإننا لا نتذكر حدثا جرى وانتهى في سنة 1948، لكننا نشير إلى مسار طويل بدأ في تلك السنة، وامتد بأشكال متنوعة ومتعرجة حتى اليوم. فالنكبة هي الآن أيضا، وهي نكبة مستمرة". تقدم هذه الكلمات مقاربة تثير فيها أسئلة بين زمنين مختلفين ومتشابهين، بين نكبة عام 1948، وحرب الإبادة المستمرة التي يمارسها الاستعمار الاستيطاني في غزة منذ السابع من تشرين الأول 2023، في أعقاب عملية طوفان الأقصى التي شنتها المقاومة الفلسطينية؛ "لاستعادة الثورة وتصحيح المسيرة، والعودة لمشروع التحرير وإقامة الدولة بالدم والشهادة"، وفقا لكلمة قائد أركان المقاومة الفلسطينية محمد الضيف، التي أعلن فيها عن بدء عملية طوفان الأقصى، تلك التي شكلت منعطفا مفصليا في مسار القضية الفلسطينية، التي لم تبدأ منذ عام 1948 ولم تنته عنده.

عام 1948 وفي أعقاب استعمار فلسطين، هُجر العديد من الفلسطينيين من الجغرافيا التي يطلق عليها اليوم "الداخل الفلسطيني المحتل" وبشكل خاص، من مدينتي يافا والرملة غربا، وبئر السبع ومحيطها جنوبا، إلى قطاع غزة" وعليه؛ أصبحت عائلات فلسطينية بأكملها لاجئة في غزة، هذه العائلات شهدت تهجيرا أوليا عام 1948، تبعها هجرات أخرى داخلية في مختلف الحروب التي شنها الاستعمار الاستيطاني على غزة، كان آخرها أواخر عام 2023 وحتى يومنا هذا، أي على مدار تسعة أشهر من الحرب المستمرة، شهد الفلسطينيون في غزة، نزوحا داخليا متتاليا، للنجاة بأنفسهم، إلى المناطق التي زعم المستعمِر مرارا أنها آمنة، ولاحقا شهدت هي الأخرى مجازر دفعت من بقي على قيد الحياة إلى تكرار عملية النزوح، بحثا عن ملاذ آمن في حيز يخلو من الأمان، وبالتالي فإنها "نكبة مستمرة بأشكال متنوعة".

نازحون من شرق رفح

هذا الطرح يحيلنا إلى سؤال المواجهة المفتوح منذ بدء الأحداث، والذي لا إجابة واحدة وواضحة له حتى الآن، ما هو دورنا الجماعي في هذه الحرب؟ وكيف علينا كفلسطينيين أن ننخرط في مواجهة مفتوحة وشاملة على امتداد الوطن المحتل، وكيف لا نترك غزة وحدها، وكيف لا نترك أهالينا في غزة ممن أجبروا على النزوح إليها قبل 76 عاما وحدهم أمام آلة البطش المتعطشة إلى الدم الفلسطيني دون شبع.

ولهذا التقت "تدوين"، بـ د. سامي أبو شحادة الكاتب والأكاديمي ورئيس التجمع الوطني الديمقراطي، المقيم في يافا، لسؤاله عن دور الداخل المحتل في الحرب الحالية، بصفته القيادية وصفته الفلسطينية، وكناشط سياسي في مدينة ظلت هادئة أمام الدم الفلسطيني النازف في غزة، ذي العلاقة المزدوجة والمتشابكة، فهو دم أبناء وطن واحد من جهة، ودم ذوي قرباهم وأرحامهم من جهة أخرى. وأجرت معه الحوار التالي: 

تدوين: أين الداخل الفلسطيني من أحداث السابع من تشرين الأول الماضي، ومن حرب الإبادة على قطاع غزة؟

أبو شحادة: التاريخ لم يبدأ منذ السابع من أكتوبر، لأن حصره بهذا التاريخ يمنعنا من قراءة الحدث ومن الأسباب الذي أدت إليه، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش قال إن "السابع من أكتوبر لم يحدث من فراغ، بل كانت هناك أسباب كثيرة أدت بنهاية الأمر إلى حدوثه".

كل هذا التطرف، أدى إلى السابع من أكتوبر، لأن كثرة الضغط تؤدي إلى الانفجار

الحصار المجحف على أهلنا في قطاع غزة على مدار 17 سنة دون أفق، وجرائم الاحتلال اليومية، والاستيطان في الضفة الغربية، ومشاهد الضم، وحكومات اليمين المتعاقبة، والاعتداءات الدائمة على المسجد الأقصى، وعمليات التطبيع مع العالم العربي التي قفزت فوق القضية الفلسطينية وأصبحت تتجاهل تماما أن هناك شعب، مناضل من أجل العدالة والحرية والاستقلال وحقه في تقرير المصير، وفقدان الأفق السياسي وتدحرج "المجتمع الإسرائيلي" نحو اليمين الفاشي، وكل هذا التطرف، أدى إلى السابع من أكتوبر، لأن كثرة الضغط تؤدي إلى الانفجار.

وفي الوقت الذي تستمر فيه الحرب على غزة، حكومة اليمين المتطرف أعلنت منذ اللحظة الأولى حربا على الداخل المحتل، هذا الإعلان قابله ابتعاد عن المشهد في الداخل الفلسطيني.

تدوين: كيف نظرتهم كأحزاب سياسية فلسطينية في الداخل المحتل إلى عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول؟

أبو شحادة: السابع من أكتوبر كان مفاجأة استراتيجية على المستويين العسكري والسياسي، للفلسطينيين كما كان للعالم كله، فلم يعرف أحد كيف يتعامل معه.

إنه حدث تاريخي سياسي استراتيجي متدحرج، نحن حتى الآن لا نعرف إذا كنا في بداية الحدث أم في منتصفه أم في نهايته، ومن الممكن أن يكون من تبعاته أن تشن حرب على لبنان، أو حرب على مستوى الشرق الأوسط تتدخل فيها إيران ودول عربية أخرى، لذلك من الصعب جدا تقييم هذا الحدث لأننا لا نعرف متى سينتهي.

تدوين: ذكرت في بداية حديثك أن حكومة اليمين المتطرف أعلنت الحرب على الداخل المحتل تزامنا مع بدء الحرب على غزة، كيف انعكس ذلك على ساحة الداخل المحتل، وكيف تلخص ماهية التغيرات التي طرأت على فلسطينيي الداخل في التعاطي مع تهديدات الحكومة من جهة، ومن جهة أخرى مع دورهم في الحرب؟

أبو شحادة: نتنياهو أعلن الحرب في الأسبوع الأول بعد السابع من أكتوبر، على أربع جبهات، وهي غزة، الضفة الغربية، لبنان، وعلى الداخل الفلسطيني.

تم التعامل مع فلسطينيي الداخل على أنهم أعداء، فبعد أن أعلن نتنياهو الحرب علينا، نحن الذين نشكل 20% من سكان "الدولة"، بدأ مباشرة بملاحقة أي فلسطيني يعبر عن رأيه ضد الحرب، وأي فلسطيني يعترض على قتل النساء والأطفال، وكذلك أي فلسطيني لا يريد الحرب، وشمل ذلك اعتقالات للمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، وعدد من الفنانين مثل دلال أبو آمنة، بالإضافة لملاحقة الطلبة الجامعيين، حيث طرد عدد كبير منهم دون جلسات استماع، لأنهم كتبوا جملة إنسانية على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة لملاحقة الأطباء في المستشفيات، والمعلمين والعمال، حيث أوقفت ورشات العمل العربية كافة.

تدوين: هذا يعني أن تهديدات حكومة اليمين المتطرف، حالت دون الانحياز إلى الهم الجماعي في ظل الحرب المصيرية الدائرة؟

أبو شحادة: أخذنا فترة طويلة من أجل أن نستطيع كفلسطينيين في الداخل من خلال لجنة المتابعة العليا أن نكسر حاجز الصمت، وأن نتعامل مع جو الإرهاب الذي زرعته حكومة نتنياهو الفاشية، وأن نبدأ بالعمل لرفع صوتنا ضد الحرب، وضد المجازر والقتل والانتقام وكل البشاعة التي خلفتها هذه الحرب.

كان هناك عملية تدريجية بدأت بفعاليات صغيرة، بحضور العشرات من القيادات، ثم توسعت لتشمل مظاهرات تضم المئات في بلدات وقرى مختلفة، ومن ثم كان هنالك نشاطات كبيرة بالآلاف، كفعالية يوم الأرض الخالد في دير حنا، ومن ثم مسيرة العودة مؤخرا والتي ضمت عشرات الآلاف.

مسيرة العودة إلى القرى المهجرة في الداخل الفلسطيني

تدوين: كيف قوبلت محاولات كسر حاجز الصمت؟

أبو شحادة: عادت موجة الاعتقالات من جديد، وطالت أعضاء في التجمع الديمقراطي الوطني، كعضو المكتب السياسي للحزب محمد صبح وشقيقته الناشطة ميسان صبح اللذان اعتقلا في أعقاب مظاهرة قانونية نظمت بترخيص من الشرطة، بالإضافة لرفاق آخرين اعتقلوا من مدينة شفا عمرو بعد تنظيمهم مظاهرة مطالبة بتحرير جثمان الشهيد الأسير وليد دقة.

الأمور مركبة جدا، فجو الإرهاب ما زال موجودا، لأن الوزير الإرهابي إيتمار بن غبير هو الذي يتحكم بجهاز الشرطة، ونحن نتوقع أن يقوم بأي شيء، فهو يرى أن قتل الفلسطينيين والاعتداء عليهم هو فرصة تاريخية له، لزيادة شعبيته.

تدوين: في الماضي القريب، عام 2021، عندما انخرط الكل الفلسطيني في مواجهة قرار الاحتلال بإخلاء 28 عائلة في حي الشيخ جراح من منازلهم، أجبر الاحتلال على التراجع عن قراره، وذلك بعد تجسيد معنى "وحدة الساحات" ميدانيا، أي أن الانخراط الجماعي في المواجهة أثمر في حينه، وكان فاعلا وناجحا، لماذا لم يتكرر هذا النموذج في الحرب الحالية، وأين يقف فلسطينيو الداخل المحتل اليوم من الحرب على غزة؟

أبو شحادة: موقفنا المبدئي والوطني والإنساني والأخلاقي واضح، نحن مع شعبنا ومع غزة، وضد الحرب، وضد القتل، وضد كل السياسات العنصرية ضد أبناء شعبنا في القدس والداخل، لكن علينا أن نعمل بحكمة.

تدوين: لماذا لم نشهد هبة الكرامة 2؟

العلم الفلسطيني في حيفا أثناء مظاهرة تضامنية مع معتقلي هبة الكرامة

أبو شحادة: هبة الكرامة عام 2021 هي الاستثناء وليست القاعدة، كانت ردة الفعل آنذاك نادرة، ولذلك أحدثت كل هذه الضجة، إلا أن ردة الفعل الإسرائيلية على كل ما جرى في هبة الكرامة ألقى بظلاله على ما بعدها.

ففي أعقاب هبة الكرامة، اعتقل آلاف الفلسطينيين، وقدمت مئات لوائح الاتهام، ناهيك عن الحصار الاقتصادي العنصري الذي مارسته جماعات اليمين واليسار ضد رجال الأعمال والمصالح الاقتصادية في الداخل الفلسطيني.

فلسطينيو الداخل دفعوا ثمنا كبيرا بعد هبة الكرامة وليس فقط أثناءها، وإنما المخابرات الإسرائيلية استمرت على مدار أشهر، بملاحقة كافة الشباب الذين قاموا بالتظاهر أو ممارسة أي نشاط سياسي في أيار 2021 وهذا أثر على ما بعد هبة الكرامة.

هبة الكرامة عام 2021 هي الاستثناء وليست القاعدة

تدوين: كي توضع الأمور في سياقها الصحيح، هذا الطرح لا يحمل حكما، إنما محاولة لفهم المشهد الفلسطيني في هذا الحيز الجغرافي فالكل الفلسطيني يسأل نفسه منذ اللحظة الأولى ماذا علينا أن نفعل؟ وكيف علينا أن نفكر جماعيا في هذا السياق؟

أبو شحادة: هذا السؤال مشروع، أين نحن كفلسطينيين مما يجري ضد أهلنا في قطاع غزة، وهذا سؤال اجتماعي وأخلاقي من الدرجة الأولى، ويجب أن نملك الإجابة، ولكن كي لا نحمل الناس أكثر مما تستطيع تحمله، ما يجري في غزة لا يستطيع الفلسطينيون في الداخل أو في الضفة إيقافه.

تدوين: مقصرون؟

أبو شحادة: نعم، نحن مقصرون، لكن ما يجري في غزة هو حرب، والحرب بحاجة إلى جيوش منظمة، تقوم بدورها العسكري من أجل أن توقف هذه المجازر، ليس لدينا هذا، التقصير باعتقادي فلسطينيا على مستوى الضفة كان في الدور السياسي والديبلوماسي، إذ لم تطرح برامج سياسية أولا لإنهاء حالة الانقسام، ولم يجري الاتفاق على برنامج سياسي للخروج من هذه الأزمة، وإعادة إعمار وبناء غزة من جديد، لكن في اعتقادي أنه حتى لو جرى هذا لا يعني أنه كان بالإمكان إيقاف الحرب.

تدوين: ألا ترى أن انخراط فلسطينيي الداخل في المواجهة كما جرى عام 2021، سيغير من مجريات الحرب لنحو مغاير لما هي عليه الآن؟

أبو شحادة: الأمور مركبة جدا في الداخل الفلسطيني، حتى لو تم رفع صوتنا بشكل أكبر ضد الحرب لن تتوقف، فدخول المواجهة ضمن علاقات القوى الموجودة، كانت ستؤدي إلى مجازر في الداخل المحتل، وهذا لن ينفع غزة، ومع ذلك نحن جميعا نشعر بالتقصير، وكنا نريد أن نفعل أكثر من ذلك بكثير.

تدوين: هل كان بالاستطاعة فعل الأكثر؟

أبو شحادة: في علاقات القوى الموجودة الآن وفي ظل حكومة يمينية متطرفة، ووجود الإرهابي بن غبير رئيسا على الأجهزة الأمنية والشرطة، لا يوجد ما نفعله أكثر مما فعلناه، لتوضيح الأمر، عندما طلبنا ترخيصا للمظاهرات من الشرطة، كان الرد أن الأوامر بيدهم هي استعمال الرصاص الحي ضد المتظاهرين، وهذا أمر جديد، ودوري القيادي يحتم عليّ أن آخذ بعين الاعتبار احتمالية حدوث مجازر، وبالتالي منعها.

تدوين: إذن هي حسابات عقلانية؟

أبو شحادة: طبعا.

تدوين: بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة المستمرة، هل عقلنة اللامعقول ما زال خيارا في حضرة شلال الدم الفلسطيني النازف؟

أبو شحادة: أولا لا نستطيع أن نحتكم إلا للعقل وكذلك لا نستطيع أن نضع كل الشعب تحت هذه الجرائم، هذا ليس من المحكمة، أحيانا يجب أن يكون للقيادي اعتبارات لحماية شعبه، حتى لو لم يستطع حماية الشعب كله، على الأقل جزء منه.

تدوين: بين نهجي دفع الثمن الفلسطيني الذي لا يأبه لحسابات العقل، لأن أي عملية تحررية يقابلها تضحية وبذل للدماء، وتدفيع الثمن الإسرائيلي الذي ينتهجه اليمين المتطرف، أيهما كان أكثر حضورا ضمن هذه الحسابات؟ وأي تناقض تعيشونه كفلسطينيين بين هذين النهجين؟

أبو شحادة: قلت سابقا إن أي محاولة للانخراط في المواجهة نتيجتها زيادة في عدد الشهداء واتساعا في رقعة المجازر، وهذا ما لا نريده، نحن في وضع مركب جدا، فرضت علينا المواطنة في "الدولة" التي أقيمت على أنقاض شعبنا ودولتنا، نكبة عام 1948 حولتنا إلى أقلية في وطننا، التناقض بيننا وبين الصهيونية هي حالة متجذرة وستبقى، لأنها مبنية على مشروع عنصري، وعلى الفوقية اليهودية وهذا يمنع المساواة بين المواطنين، حتى على المستوى النظري، وعدم وجود مساواة معناه أنه لا يمكن لهذه الدولة أن تكون دولة ديمقراطية، فهناك تناقض بنيوي بين يهودية الدولة وديمقراطيتها ولذلك الصراع بيننا مفتوح وسيبقى.

التناقض بيننا وبين الصهيونية هي حالة متجذرة وستبقى، لأنها مبنية على مشروع عنصري، وعلى الفوقية اليهودية 

تدوين: ماذا عن "الصراع" الذي يتشكل في دواخلكم كسياسيين فلسطينيين تحتكمون للعقل أولا كما أوضحت، وبين هويتكم الوطنية التي قد تملي عليكم أحيانا اتخاذ قرارات بمعزل عن كل الاعتبارات المذكورة سابقا؟

أبو شحادة: هذا تناقض كبير نعيشه بشكل يومي، ففي النكبة عام 1948 تم تهجير عشرات الآلاف من اليافيين إلى قطاع غزة، وهم ممن يقتلون الآن يوميا، هؤلاء عائلاتنا وليسوا فقط أبناء شعبنا.

في الأمس القريب كنت في زيارة لعائلة في مدينة يافا، ارتقى لها نحو 30 شهيدا ضمن الحرب، وكان النقاش الدائر في حينها عما إذا كان من الممكن افتتاح خيمة عزاء لهم، أم العزوف عن الفكرة كي لا تقوم الشرطة بتخريبها والبطش بمنظميها الذين فقط يريدون الحداد على أهلهم.

نحن نعيش تناقض يومي صعب له أبعاد نفسية وسياسية وثقافية.