الأحد  08 أيلول 2024

غسان كنفاني: "زمن الاشتباك المستمر" يتحدى "زمن الإبادة المستمر"- رولا سرحان

2024-07-08 09:28:43 AM
غسان كنفاني:

تدوين- رولا سرحان

 

"كل مشكلة إنسانية ينبغي النظر إليها من وجهة نظر الزمن"

فرانز فانون- بشرة بيضاء أقنعة سوداء

عند استحضار غسان كنفاني في زمن الإبادة الذي تقاسيه غزة كفعل عنف مستمر يعيشه الفلسطينيون منذ نكبة عام 1948، فإن هذا الاستحضار يلقي بقوة دفع رافعة للفلسطيني ولفلسطينيته، مكانا وزمانا وهوية، مستمدة من التحدي الذي يفرضه فعل المقاومة المستمر الذي يؤدي إلى تخليق زمن يواجه الحركة المشوهة للزمن، ومكرس في زمن الاشتباك كفاعلية مضادة لفعل المحو عبر الإبادة. ولأن فعل الإبادة كفعل أصل في تكوين المستعمر، فإن كل فعل عنف آخر إنما يتفرع عنه وعلى شكل أفعال إبادة تكوّن عناصره ومستمدة منه وتخلق إمتداده: إبادة ثقافية، إبادة إعلامية، إبادة معرفية، إلى آخره من أشكال كل فعل يقصد محو الناس والمكان من الذاكرة. وقد أدرك غسان كنفاني العنصر الأساس في الفكر الصهيوني عندما نظّر من خلال قصصه ورواياته ودراساته إلى ضرورة استدخال المواجهة كمكون في بنية الفلسطيني كي يتمكن من التصدي لزمن الإبادة. فمثلما تقاس الأمور بنظائرها، وتتمايز بتضاددها، يتخلق في الزمن ما هو ضده، إنه زمن الضد في اليومي، ضد كل ما هو يومي قائم على النفي والمحو، ومتشكل في اشتباك دائم مع نقيضه ولا يتوقف، لأن صيرورته تتغذى على علاقة التنافر القائمة في ثنائية المحو/ البقاء.

في رائعته القصصية "الطفل يذهب إلى المخيم" ، سيكون كل ما هو يومي اشتباكا قائما على رفض تقبل المكان بعلاقاته كما هو، بل يجب تحدي البنية العلائقية للمكان وإن بتفاصيله الصغيرة التي تفرض شكل الحياة على الفلسطيني في خانة المقموع المقهور، فمحاربة الجوع في المخيم اشتباك، والحفاظ على الليرات الخمس اشتباك، والانقضاض على ملفوفة تحت عجلات عربة خضراوات اشتباك. فالطفل الصغير الذي يعيش في المخيم مع أبيه وأمه وأخوته السبعة وأسرة عمه وأطفالها الخمس والجد في مكان واحد، ستكون حياته اليومية اشتباكا مستمرا، فكل تصرف قائم على الحفاظ على البقاء هو بحد ذاته فعل اشتباك، فمجرد مصارعة التفاصيل اليومية للحياة البائسة من أجل البقاء هي في أساسها فضيلة أولى كبرى، فليس زمن الاشتباك زمن فضيلة بالنسبة للفلسطيني، وليس زمن البحث عنها، بل كما يقول كنفاني "لا أحد يطالبه بالفضيلة"، فبقاء الفلسطيني هو بحد ذاته تجسيد للفضيلة، أن يعيش الفلسطيني "كيفما كان وبأية وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة"، بل إنه "حين يموت المرء تموت الفضيلة الأولى، [...] في زمن الاشتباك يكون من مهمتك أن تحقق الفضيلة الأولى، أي أن تحتفظ بنفسك حيا وفيما عدى ذلك يأتي ثانيا. ولأنك في اشتباك مستمر فإنه لا يوجد ثانيا. أنت دائما لا تنتهي من أولا".

ولا ينتهي الفلسطيني من أولاً لأن صراعه الذي يتشكل اليومي منه على أساس البقاء هو غريزة طبيعية لا يمكن تجريده منها بل تتعزز كلما فرض عليه زمن الإبادة، لتتفرع عنها مفاهيمه ومعجمه الحياتي، والصمود- البقاء هو واحد من هذه المفاهيم، والمقاومة- الاشتباك هو مفهوم آخر يتشكل منهما الوعي الفردي والجمعي الفلسطيني، والذي بدوره يُشكل الوعي التاريخي الذي يتجسد فيه الزمن الحقيقي من خلال الفعل، ومن خلال استدخال فعل الاشتباك المستمر إلى الزمن فيعرف الأخير به. ستُبنى فكرة "البقاء- الصمود" و"المقاومة-الاشتباك" على جدلية الزمن المفتوح أي أن التاريخ المعاش بصيغته الحالية لا يمكن أن يُغلق أبدا، بل مبني على استمرارية تاريخية متحققة في استمرارية الوجود الفلسطيني، أو السعي دوما للحفاظ على استمراريته في نطاق المكان، أو الجغرافيا التي تسمى فلسطين. من هنا تتحق مقولة أهالي غزة الصارخة دوما عبر وسائل الإعلام التي تلتقط الصورة من فوق الركام وبمحاذاة الجثامين "أننا لن نرحل من هنا"، أو عندما نشاهد على إحدى الفضائيات العربية كيفية استدراج الزمن في مقطوعة صور تبدأ من وجه امرأة عجوز تصرخ "روحوني على داري"، ليتدحرج الزمن إلى الوراء حيث يتكرر التاريخ بالتقدم إلى الخلف وليس إلى الأمام، كأنه شريط ذاكرة يستحضر كل حدث بشكل عكسي، عودة إلى الزمن الأول الذي انبثق عنه زمن الآن المصاب بالشلل.  في قصته الرسائلية القصيرة المؤثرة من العام 1956، "ورقة من غزة"، سيختار الراوي البقاء في غزة وألا يفارقها، رغم الفرصة المتاحة أمامه لـ "الهروب" لإكمال دراسته في جامعة كاليفورنيا، وأن يكمل حياته في مسار الزمن المفترض خارج زمن غزة. ورغم صعوبة الحياة في غزة التي تمثل كما يقول: "انغلاقا كأنه غلاف داخلي، ملتف على نفسه، لقوقعة صدئة قذفها الموج إلى الشاطء الرملي اللزج قرب المسلخ"، إلا أن الراوي سيقرر البقاء قائلا "سأبقى هنا، ولن أبرح أبدا...[...] إنه لشيء يزعجني حقيقة، [...] أن لا نكمل ذلك الجريان لحياتينا في خط واحد"، ومع ذلك سيكون مدركا أن الزمن الطبيعي خارج زمن الفلسطيني الموسوم بزمنه النكبوي إنما يستقيم داخل الفلسطيني ويغرزه في المكان نافيا أن يكون بإمكان الراوي تخيل أن هناك نهاية ما قابلة للتحقق دون تصويب مسار الزمن، بل هي مجرد بداية لـ "نضال ممجوج مع الزمن"، في مكان ينغلق على أصحابه كقبر حتى الخروج منه.

قصة "ورقة من غزة" من مجموعة كنفاني "أرض البرتقال الحزين"

 بالنسبة لكنفاني، فإن اليومي في حياة الفلسطيني ليس سوى تلك العلاقات القائمه في زمنه المشطور إلى زمن نكبوي مستمر متجسد في زمن الإبادة المستمر الذي يحاول اللحاق بالحاضر كي يهزمه أيضا، فالحاضر المليء بالرجال المهزومين وبالأنظمة العربية الهزيلة وبالقيادات المتنفعة من ديمومة الهزيمة كفكرة متسللة إلى بنية الفلسطيني-العربي، كلها تفترض وفق منطق كنفاني أن تُخلّق الصراع مع اليومي، الذي يدفع دوما باتجاه "العودة إلى زمن الاشتباك وليس للخروج منه". ففي مقدمته لرواية أم سعد، سيكون الاشتباك كما يعبر عنه كنفاني "جزءا لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب". وبهذا التلاحم ما بين اليومي والاشتباك يتم التأسيس لنفي الهزيمة ونفي الزمن النكبوي من زمن الفلسطيني، فزمن الهزيمة زمن له بداية ونهاية محسومة بنفي الهزيمة. فرواية "أم سعد"، ستجدد مفاعيل طرد الهزيمة الذي يتم فقط من خلال استعادة "آدمية" الفلسطيني، فإنسانية الفلسطيني، وتعريف فلسطينيته مرتبطة بمدى التصاقه بفهم معنى أن يكون مشتبكا دوما. فأم سعد ترى أن الزمن غير قادر على التوقف عند زمن الهزيمة، بل إن زمن الهزيمة هو زمن لا وجود له،  فكما تقول: "بدأت الحرب بالراديو وانتهت بالراديو، وحين انتهت قمت لأكسره، ولكن أبا سعد سحبه من تحت يدي"، فالزمن محدد البداية والنهاية لا يجب أن ينتهي بالهزيمة، بل يجب أن يظل مفتوحا إلى زمن آخر يتم فيه نفي الهزيمة، وبهذا تتحقق مقولة الاشتباك المستمر التي تحتم "آدمية الفلسطيني"، فالفلسطيني "الآدمي" هو ذاك الذي يرفض تعريف نفسه إلا بالمشتبك القادر على تحدي السلطة والقوة القاهرة التي تريد اختزال الفلسطيني في الصمت والسكون.  فعندما ستروي أم سعد الحديث الذي دار بين سعد ورفاقه المحبوسين ومحاولة المختار فك حبس سعد حكت تقول إن المختار عندما ذهب وأراد أن يأخذ من سعد ورفاقه "توقيعا على ورقة يتعهدهون فيها أن يكونوا أوادم" رفضوا وطردوه، وسأله سعد: "شو يعني أوادم؟"، فقال أحدهم "أوادم يعني قاعدين عاقلين؟" وقال رجل ثالث: "يعني ناكل كف ونقول شكرا؟"، في حين قام سعد وقال له: "يا حبيبي، أوادم يعني بنحارب، هيك يعني هيك".

رواية "أم سعد" كتبها كنفاني في 1969

إنه الخروج من نطاق الزمن المقيد، والمسجون في المكان الذي لا يتمرد على قوانينه، فكل تعيّن يعيشه الفلسطيني ويرضى بغير الاشتباك هو تعيّن محبوس، والفلسطيني محبوس خارج آدميته حينما يكون خارج الاشتباك، وسواء كان هذا التعين هو المخيم، الجسد، الشارع، العمر، السلطة، فهي جميعها تمثلات للسجن أو المسجونية في المكان عندما لا يتحقق فيه شرط الاشتباك. سترد أم سعد في توضيح آدامية الفلسطيني وانحباسه دون فعل اشتباك قائلة:" أتحسب أننا لا نعيش في الحبس؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل هذا الحبس العجيب؟ الحبوس أنواع يا ابن العم! أنواع! المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والراديو حبس، والباص والشارع وعين الناس، أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية حبس، والمختار حبس [...] حبس، حبس، حبس. أنت نفسك حبس فلماذا تعتقدون أن سعد هو المحبوس. محبوس لأنه لم يوقع ورقة تقول إنه آدمي...آدمي؟ من منكم آدمي؟ كلكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بأخرى ومع ذلك فأنتم محبوسون".

عندما وصف وزير الحرب الصهيوني، يوآف غالانت الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية" أصاب في شيء واحد، إننا كذلك عندما لا نكون "أوادم" حسب تعريف سعد وأم سعد.