تدوين- سوار عبد ربه
في التاسع عشر من كانون أول الجاري، أعلنت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية وقف عمل قناة "إم بي سي" السعودية في البلاد، على خلفية بثها تقريرا وصف قادة المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية، وقادة وشهداء إيرانيين بـ"الإرهاب"، كاستجابة لانتهاك القناة للوائح البث الإعلامي من خلال تجاوزاتها المتكررة وتطاولها على "قادة النصر والمقاومة"، وفق ما جاء في بيان الهيئة.
لم تكن هذه الخطوة المؤسساتية منفصلة عن تحرك جماهيري فوري سبقها، عندما اقتحم مئات العراقيين مقر القناة (MBC)، وحطموا الأدوات الحاسبة وحرقوا قسما من المبنى، بحسب ما تناقلته وسائل إعلامية، في خطوة احتجاجية ورافضة لهذا التطاول على رموز المقاومة.
ولم تنفك الساحة العراقية يوما منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى، عن كونها جزءًا، مساندا للمقاومة الفلسطينية، على المستويين العسكري من خلال التحاق فصائل المقاومة العراقية بركب المعركة في 19 تشرين الأول 2023، وعلى المستوى الشعبي الجماهيري من خلال تنظيم مظاهرات احتجاجية، وتوفير مساحات ثقافية تحاكي واقع الإبادة الجماعية في غزة. علاوة على ذلك، أطلق العراق حملة مقاطعة تشكلت نواتها الأولى عشية الثامن من تشرين الأول 2023، وتبلورت تدريجيا عبر عدة محاور استند إليها القائمون على الحملة، بهدف جعل المقاطعة أداة فعالة، ليس استجابة للظرف الراهن فحسب، بل بهدف تأسيس فلسفة تراكمية تساهم في تشكيل الوعي الجمعي العراقي على المدى البعيد، لتنتقل من جيل إلى آخر، ولتكون سلاحا معرفيا مضادا للخطاب الاستعماري، وما تقوم به وسائل الإعلام الصهيو-أمريكية والغربية وبعض وسائل الإعلام العربية، من حرب "ناعمة"، تهدف إلى شرذمة الهوية العربية القومية وتصفية القضية الفلسطينية.
وفي سياق هذا التحرك الجماهيري، الذي انتفض لمواجهة القنوات الإعلامية التي تسعى جاهدة منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة لتشويه صورة المقاومة والتماهي مع السردية الصهيونية، والذي دفع باتجاه انطلاق دعوات مقاطعة لكافة القنوات المضللة، التقت "تدوين" بالباحث والأكاديمي، وعضو حركة قاطع العراقية، د. عباس العطار وأجرت معه الحوار التالي:
تدوين: في أي سياق يمكن أن يفهم هذا التحرك الجماهيري والمؤسساتي المتمثل في "هيئة الإعلام والاتصالات" الفوري لوقف عمل قناة "ام بي سي" في العراق، بعد تطاول الفضائية السعودية على شهداء وقادة في محور المقاومة؟
العطار: قناة "ام بي سي" وقنوات أخرى في العراق لها سوابق في هذا الأمر من خلال تعرضها لرموز دينية ووطنية واجتماعية، رغم توقيعها على مدونة سلوك أخلاقي ومعايير مهنية يجب ألا تتخطاها، وما تقوم به مخالف للدستور العراقي الذي ينص على عدم المساس بالرموز الوطنية والدينية والاجتماعية ويحظر على القنوات الإعلامية بث أي خطاب يزرع الفرقة، بغض النظر عن توجهاتها أو مصادر تمويلها.
والتقرير الذي بثته القناة المذكورة، فيه مخالفة واضحة للدستور، ومعايير المهنة، ذلك أن رموز المقاومة المساء إليهم في التقرير يمثلون شريحة واسعة من المجتمع، بناءً على ذلك، جاءت خطوة سحب رخصة القناة في البلاد. كما أن الاحتجاجات هي حق مشروع للشعوب، وهي رد فعل طبيعي، تجاه أي اعتداء على رموز المقاومة بهذه الطريقة.
تدوين: كيف أثر توقيت بث التقرير على ردود الفعل الجماهيرية؟ هل جاءت هذه الردود انعكاسا لغضب عابر، أم أنها نتيجة لجهود مستدامة لتعزيز الوعي الجمعي والتي كان لحركة المقاطعة دور بارز فيها على مدار العام الماضي؟
العطار: العالم كله شاهد التقرير الذي يستهدف بوضوح رموز المقاومة الفلسطينية والمقاومين في بلدان أخرى، ويصورهم على أنهم "إرهابيون"، في حين أنهم أصحاب قضية محقة يدافعون عن أوطانهم وهويتهم، وعن التاريخ الذي سلب من فلسطين ولبنان والدول العربية الأخرى. هذا التشويه، الذي ساهمت فيه قناة "إم بي سي"، هو تشويه متعمد يهدف إلى تنميط الصورة في أذهان الناس، من خلال بث الزيف والخداع بهدف تضليل الرأي العام.
تدوين: ما هي الصورة التي تسعى تلك القنوات إلى ترويجها؟
العطار: تعمل تلك القنوات على تصوير رموز المقاومة بأنها السبب في عدم الاستقرار في المنطقة والمسببين لغياب السلام. وقد تسربت هذه المفردات والمصطلحات إلى أوساط منطقتنا منذ سنوات، عبر منظمات دولية وثقافية من الخارج، مما أدى إلى تغذية طبقة من الشباب، لأن أي خطاب أو بث ثقافي يحتاج إلى فترات زمنية ليؤثر، حيث يبدأ الرفض الأول من المتلقين الذين يعارضون هذه الثقافة والأطروحة الليبرالية المزيفة. تتبنى هذه الأطروحات أساليب تشبه الحرب الناعمة التي تنتهجها الولايات المتحدة والصهيونية والدول الداعمة مثل بريطانيا وفرنسا، بهدف تغيير الصورة النمطية والثقافة، وضرب الهوية، وتحويل الحق إلى باطل تحت مسمى "بناء السلام".
هذا المصطلح بدأ يتسلل إلى القنوات العربية ومنظمات المجتمع المدني التي بدأت تتلقى دورات حوله، مما يسهم في تكييف الأجيال الجديدة وقبولهم لهذه الأطروحة.
تدوين: ما هي الاستراتيجيات الفعّالة لمواجهة الخطاب الإعلامي الذي يروّج لروايات مضادة؟
العطار: يتحمل الإعلاميون والأكاديميون والكتّاب والمثقفون والفنانون وقادة الرأي من مختلف المنابر الدينية والثقافية والمؤسساتية، مسؤولية كبيرة في إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. يتوجب عليهم مواجهة الأطروحات المزيفة التي تتنكر تحت مسميات مثل "بناء السلام" و"الاستقرار" في المنطقة.
يستلزم ذلك فضح زيف هذه الأطروحات بالأدلة، بدلاً من الاكتفاء بخطابات عامة. ينبغي أن تكون البرامج إعلامية مركزة وفعّالة، مع خطاب يؤثر في تشكيل الرأي العام. من المهم أيضًا مواجهة المصطلحات التي يستخدمها النظام الاستعماري بمصطلحات مضادة مستندة إلى توجهات الرأي العام.
جدير بالذكر أن النظام الاستعماري يستخدم ماكينة دعاية تُعرف باسم "الهاسبراه"، التي تهدف إلى تبرير الأفعال الوحشية للكيان الصهيوني تحت ذريعة محاربة "الإرهاب". تعمل هذه الآلة على تزييف الحقائق وتضليل الرأي العام، مما يشتت انتباه الناس عن الواقع. مستخدمة مصطلح "معاداة السامية" لتشويه أي انتقاد يوجه لـ"إسرائيل"، بهدف إيهام الشعوب بأن هذه الانتقادات غير مشروعة.
كما أطلقت الوكالة اليهودية كتيبًا صغيرًا يستهدف الطلبة وجميع القطاعات الثقافية والأكاديمية والإعلامية، بالإضافة إلى منصات التواصل الاجتماعي، لتعليمهم أساليب الحوار والنقاشات بهدف تغيير الحقائق لصالح روايتهم.
تدوين: أطلقتم في العراق حملة مقاطعة تحولت لاحقًا إلى حركة اجتماعية مؤثرة، ربما كان لها دور في تشكيل الوعي الجماهيري الذي أسفر عن التحرك الفوري إزاء التهجم على رموز المقاومة. كيف تشكلت النواة الأولى لهذه الحملة وما الأهداف التي سعت لتحقيقها؟
العطار: حملت الحملة التي أطلقنا عليها اسم "قاطع العراقية" طابعا إنسانيا يهدف إلى مواجهة الإبادة الجماعية في غزة. بدأت أنشطتنا في الثامن من أكتوبر الماضي، حيث أصدرنا بيانا في اليوم الثاني من انطلاق الحملة، وقد جاء هذا البيان من مجموعة صغيرة جدا من المثقفين.
دعونا في هذا البيان جميع المثقفين إلى التوقيع عليه، وحرصنا على نشره عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بهدف خلق رأي عام قوي وحركة اجتماعية مؤثرة. أردنا من خلال هذه الجهود أن نلفت انتباه العالم إلى أن القضية ليست مجرد قضية فلسطينية، بل هي قضية إنسانية وتاريخية تحمل بعدا أخلاقيا وقيميا يتطلب منا جميعا التفاعل، إذ لا ينبغي لنا السكوت عن هذه الحرب أو مشاهدة ما يجري بلا مبالاة، بل يجب أن نتحرك بحس من المسؤولية ونتفاعل مع هذه الأحداث المؤلمة.
تدوين: ما هي المحاور الرئيسية التي استندت إليها الحملة، وكيف تم تنظيمها وتطويرها لتتحول إلى حركة اجتماعية مؤثرة في المجتمع العراقي؟
العطار: انطلقنا في هذه الحملة على أربعة محاور:
المحور الأول: بدأنا نشاطنا من خلال منصات التواصل الاجتماعي، حيث أنشأنا صفحة خاصة بالحملة. هدفنا من ذلك هو تعزيز الوعي الثقافي حول المقاطعة الاقتصادية، والتي تظل ضعيفة في بلداننا رغم امتدادها التاريخي. ومع تغير الأجيال، تتراجع هذه المعرفة. لقد قدمنا معلومات حول أهم المنتجات التي تدعم الكيان المحتل، وأكدنا على دور الفرد في المقاطعة. ركزنا في البداية على فلسفة المقاطعة، ولم نبرز البعد الاقتصادي بشكل فوري، بهدف تمكين المصطلح ودوره في تعزيز الوعي الفردي بشكل تراكمي. أكدنا على ضرورة أن يكون للفرد موقع وصوت، وأن يسعى لمعرفة الحق ودعمه.
المحور الثاني: بعد مرور خمسة عشر يوما، لاحظنا وجود توجه إيجابي نحو الحملة، حيث التحق عدد من الشباب والشابات بمبادرتنا واستعدوا للمقاطعة. هذا المؤشر شجعنا على طباعة ملصقات وتوزيعها في الأسواق العراقية، والأماكن العامة، والمقاهي، وملاعب كرة القدم.
المحور الثالث: قمنا بالتواصل مع بعض أعضاء مجلس النواب العراقي وقدمنا لهم دليل المقاطعة، بهدف الحصول على دعمهم في الحملة. الغرض من هذا التحرك هو إصدار قرار يمنع دخول البضائع التي تدعم الكيان المحتل إلى العراق. إن القضية كبيرة، ولا يمكن للمجتمع وحده تحمل هذه المسؤولية، بل يجب أن يكون هناك قادة رأي سياسي وديني داعمين. تواصلنا مع المرجعيات الدينية والسياسيين ووزارة التجارة المسؤولة عن المنافذ التجارية واستيراد البضائع، سعيا للحصول على قرار حكومي يمنع دخول المنتجات المرفوضة. هذه الخطوة لها بُعد آخر وهدف بعيد الأمد؛ فعندما تصدر الحكومة قراراً بمنع دخول هذه المنتجات، سيتوجه المواطنون إلى المتاجر ويسألون عن سبب المنع، مما سيحفزهم على البحث والاستفسار حول القضية بشكل أعمق.
المحور الرابع: ركزنا من خلال الحملة على دور الإنسان في نصرة أخيه الإنسان، إذ لا يأمن إنسان في وطنه وهناك في ظل وجود من يعايش الخوف والقتل والدمار.
تدوين: هل حققتهم نتائج ملموسة؟
العطار: نعم، حيث شهدت الحملة نموا ملحوظا من ثلاثة أفراد إلى آلاف المؤيدين. بناءً على ذلك، قررنا التوجه إلى الجامعات، إذ أن الطلاب يمثلون صوتاً قوياً ومؤثراً في محيطهم وفي المجتمع بشكل عام.
في حملة "قاطع"، ننظر إلى الإنسان كخوارزمية؛ حيث يرتبط كل فرد بأسرته وأصدقائه، وتتشعب الأسرة لتشكل شبكة عنقودية. تبدأ هذه الثقافة في الانتشار والتسرب إلى وعي الناس.
تدوين: ما الذي يلزم لضمان استدامة المقاطعة فكرا ونهجا، وليس فقط على الصعيد الاقتصادي، لتحقيق تأثير فعال على المدى البعيد؟
يعتبر خطاب المقاطعة ضروريا، ولكنه ليس كافيا بمفرده، إذ إنه يؤثر على الأساس الاقتصادي؛ فضعف البنية الاقتصادية لأي كيان أو جيش سيؤدي إلى ضعفه بشكل عام، حيث إن الاقتصاد يعد شريان استمراره. وبالتالي، فإن المقاطعة تسهم في إحداث الأثر المطلوب.
يجب أن يكون خطاب المقاطعة متوازنا، دون إغفال الجوانب الأخرى. على المدى البعيد والمتوسط، يجب أن يظل خطاب المقاطعة مستداماً، مع ضرورة وجود تكتيك واستراتيجية واضحة. يتمثل التكتيك في توعية الناس، بينما تتجلى الاستراتيجية في تمكين الأفراد من أخذ دور أكبر في القضية.