السبت  17 أيار 2025

جيل دولوز وإلياس صنبر: الفلسطينيون والهنود الحمر (1)

2025-05-17 10:36:24 AM
جيل دولوز وإلياس صنبر: الفلسطينيون والهنود الحمر (1)
جيل دولوز وإلياس صنبر

تدوين-ترجمة: سعيد بوخليط  

تقديم: جرت وقائع هذه الجلسة الحوارية القصيرة، بمناسبة إصدار المجلة الفلسطينية ''دراسات فلسطينية'' في باريس، بين جيل دولوز وإلياس صنبر، كاتب ودبلوماسي فلسطيني ولد سنة 1947، عضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ 1988. عُيِّن سنة 2005 مندوباً لفلسطين لدى هيئة اليونسكو، جمعته صداقة حميمة مع الفيلسوف دولوز منذ نهاية سنوات السبعينات.

ترجم إلياس صنبور أعمال الشاعر محمود درويش إلى الفرنسية، كما أصدر بنفس اللغة مجموعة دراسات، ضمنها على سبيل التمثيل: ''فلسطين 1948، التهجير'' (1984)، ''فلسطين، بلد المستقبل'' (1996)، ''ثروة الغائبين'' (2001)، ''الفلسطينيون: صورة فوتوغرافية حول أرض وشعبها منذ سنة 1839 غاية اليوم'' (2004)، ''رموز فلسطينية: هوية الأصول، هوية الصيرورة'' (2004)، ''معجم عشق فلسطين'' (2010)، "تبسيط فلسطين أمام العالم قاطبة" (2013)، إلخ.   

جيل دولوز: يبدو بأنَّ شيئا معيَّنا قد أضحى ناضجا، لدى الفلسطينيين. لهجة جديدة، كما لو أنَّهم تغلَّبوا على الوضعية الأولى لأزمتهم، ولامسوا منطقة اليقين أو الطمأنينة، و''الحقّ''، مما ينمُّ عن وعي جديد، وإمكانية مخاطبتهم كل العالم بطريقة مختلفة، لا تهاجم ولا تدافع، بل ''النَّدُّ للنَّدِّ''. فكيف تشرح هذا الأمر، ما دام الفلسطينيون لم يبلغوا بعد أهدافهم؟

إلياس صنبر: لقد شعرنا بهذا التَّفاعل منذ صدور العدد الأول من مجلة ''دراسات فلسطينية". هكذا، تحدّث البعض باللهجة التالية: ''عجيب هل تمكَّن الفلسطينيون من خلق مجلاَّت كهاته''. عبارة، تخلخل داخل رؤوسهم صورة راسخة. أعتقد، بأنَّ صورة الكثيرين حول المقاوِم الفلسطيني، تظلُّ في غاية التجريد. قبل أن يفرض الفلسطينيون حقيقة حضورهم، فقد اعتُبروا مجرَّد لاجئين. وعندما فرضت المقاومة الفلسطينية واقعا يربط بين الوجود الفلسطيني والمقاومة، فقد احتُجِزَ الفلسطينيون ثانية ضمن إطار صورة نمطية ومُختزلة، محض عسكرية، تضاعفت بكيفية لانهائية ومعها الإبعاد، وإبقائهم كليّا ضمن دلالتها. يفضِّل الفلسطينيون قصد انتشال ذاتهم من التصنيف الماثل، صورة مقاومين بدل عسكريين بالمعنى الضيق. أعتقد بأنَّ الاستغراب حيال ظهور مجلة دراسات فلسطينية مصدره أيضا ضرورة بداية تأكيد البعض على وجود الفلسطينيين وليس فقط الوقوف عند حدود التذكير بالمبادئ المجرَّدة. إذا كان مبعث هذه المجلة فلسطين، فلن تشكِّل على الأقل فضاء يعكس اهتمامات مختلفة، ويتناول الكلمة بجانب الفلسطينيين، العرب، الأوروبيين، واليهود، إلخ. ينبغي خاصة على البعض بداية إدراكهم، أنَّه في حالة تبلور مشروع من هذا القبيل، وفق تعدُّد المنظورات، فيلزمهم على الأرجح تبنِّي مستويات فلسطينية أخرى، عبر فنانين تشكيليين، نحَّاتين، عمال، مزارعين، روائيين، مصرفيين، ممثِّلين، تجَّار، أساتذة… باختصار مجتمعا فعليا يحيط به إصدار مجلة ''دراسات فلسطينية''. ليست فلسطين فقط شعبا لكنها أرض، إنَّها الصِّلة بين هذا الشعب وأرضه المستلبة، ومكان يجسِّد مشاعر الغياب والتطلُّع الكبير قصد العودة ثانية. مكان منفرد، بلورته مختلف أنواع التهجير التي عاشها  الشعب الفلسطيني منذ 1948. حينما تغدو فلسطين أمام أعيننا، ندرسها، نفحصها، نقتفي أثر أبسط حركاتها، نوثِّق كل تغير يحدث، نتمِّم مختلف صورها القديمة، بالتالي لن تغيب قط عن نظرنا.

جيل دولوز: عدَّة مقالات في مجلة دراسات فلسطينية استعادت وقاربت بكيفية جديدة الوسائل التي طُرد بها الفلسطينيون من أرضهم. مسألة مهمة جدا، لأنَّ الفلسطينيين ليسوا في وضعية أشخاص مستعمَرين، بل نازحين ومطرودين. تركِّزُ اهتمامكَ في الكتاب الذي تهيِّئه على المقارنة مع الهنود الحمر أو أصحاب ''البشرة الحمراء'' (2). يرتكز النظام الرأسمالي على موقفين مختلفين جدا. أحيانا يتعلق الأمر بالإبقاء على شعب فوق أرضه، لكن تسخيره واستغلاله قصد مراكمة الفائض: ما ننعته عادة استعمارا. أحيانا أخرى، قد تُفرغ أرض من شعبها، قصد تحقيق قفزة إلى الأمام، ثم إمكانية الإتيان بأيدي عاملة من مكان ثان. لقد مرَّ تاريخ الصهيونية وإسرائيل مثلما جرى في أمريكا، من السؤال التالي: كيف نخلق الفراغ، وكذا السبيل إلى تهجير شعب معين؟ أشار ياسر عرفات في حوار أجري معه، إلى حدود هذه المقارنة (3). حدود، ترسم أيضا منظور مجلة دراسات فلسطينية: هناك عالم عربي، في حين لم يمتلك الهنود الحمر أيّ قاعدة أو قوة خارج الأرض التي طُردوا منها.

إلياس صنبر: اتَّسم تهجير الفلسطينيين بالاستثنائية فلم ينتقلوا نحو أراض أجنبية، لكن عبر تمديد لـ''المكان نفسه''. لقد شُرِّدُوا نحو أرض عربية، بحيث لم يرغب شخص في انصهار الفلسطينيين بل الفكرة نفسها حماقة. أفكِّر هنا في الزَّيف الهائل لبعض التأكيدات الإسرائيلية التي تؤاخذ على العرب عجزهم بخصوص ''إدماج الفلسطينيين'' مما يعني ''طمسا'' في اللغة الإسرائيلية. هكذا، صار فجأة من طردوا الفلسطينيين منشغلين بعنصرية عربية مفترضة نحو الفلسطينيين. هل يعني ذلك عدم اختبارهم تناقضات داخل بعض البلدان العربية؟ بالتأكيد، غير أنَّها تصادمات ليس مصدرها أنَّ الفلسطينيين عرب، لكن أحيانا لا مفرَّ من ذلك نتيجة الثورة المسلحة التي يمثِّلها الفلسطيني. أيضا، الفلسطينيون هنود حمر بالنسبة للمستوطنين اليهود داخل فلسطين. يرتكز الدور الوحيد والاستثنائي، في نظر هؤلاء المستوطنين على ضرورة اختفاء الفلسطينيين. بهذا الخصوص، تاريخ المؤسسة الإسرائيلية، على الأرجح، بمثابة استئناف لنفس المسار الذي خلق الولادة للولايات المتحدة الأمريكية. ربما، يحيل هذا المعطى على واحد من العناصر الجوهرية قصد استيعاب حيثيات تضامنهما المشترك. أيضا، تكمن العناصر التي جعلت حقبة الانتداب غير الاستعمار ''الكلاسيكي'' المألوف، من خلال تعايش بين المستعمِرِين والمستعمَرِين (3). تطلَّع الفرنسيون، الإنجليز، إلخ، قصد توطين مساحات شَكَّل داخلها حضور السكان الأصليين شرط وجود تلك الفضاءات. يلزم فعلا كي تتحقَّق الهيمنة وجود المهيمَنِ عليهم، في عين المكان. وضع يخلق أردنا أم رفضنا، ملاذات مشتركة، بمعنى شبكات، قطاعات، وكذا مستويات حياة اجتماعية تخلق مجالا لممكنات ''هذا اللقاء" بين المستعمِرِين والمستعمَرِين. أن يكون ''الأجنبي" غير محتمل، مكتسِحٍ، مستبِدٍّ، فلا يظهر قط تأثير ذلك، إذا ابتدأ بحتمية تواصله مع "المحلِّي" بغية الهيمنة عليه. بينما استند المفهوم الصهيوني، عكس التصور السابق، على حتمية إلغاء الفلسطيني، كما استثمرت خصوصية عناصرها (الانتماء إلى الطائفة اليهودية)، وجعلت منه مكمن رفض الفلسطيني، تهجيره، ترحيله، وتغيير المعالم مثلما وصف ذلك فعلا إيلان هاليفي (4). هكذا، ظهر بالنسبة للفلسطيني، وتبلور ضمن أثر ذلك من يلزم نعتهم حسب اعتقادي ب''المستوطنين الغرباء''، هؤلاء من حاولوا طيلة مسارهم كي يجعلوا خصائصهم الذاتية قاعدة من أجل استبعاد مطلق للآخر. من جهة أخرى، لم تُحتل فلسطين فقط سنة 1948، بل ''اختفت'' بطريقة أو أخرى. بالتأكيد، صار حينها المستوطنون اليهود ''إسرائيليين'' ينبغي لهم أن يعيشوا الوضع. لقد جَنَّدت الحركة الصهيونية الجماعة اليهودية داخل فلسطين ليس بناء على فكرة رحيل الفلسطينيين ذات يوم، لكن عقيدة أنَّ البلد كان ''فارغا''. طبعا، أتى البعض إلى عين المكان، ولاحظوا عكس ذلك ثم عملوا على توثيقه! تصرَّف معظم أعضاء الجماعة اليهودية نحو أفراد، كما لو انعدم وجودهم، رغم احتكاكهم بهم جسديا يوميا. لم يكن هذا العمى فيزيائيا، فلا شخص كان ساذجا من المقام الأول، ويدرك العالم أنَّ الشعب الحاضر اليوم، كان ''بصدد انتظار اختفائه''، ويعمل الجميع قصد إنجاح عملية الإخفاء، بحيث اقتضى الأمر الاشتغال منذ البداية كما لو حدث سلفا، بمعنى ''عدم الاكتراث'' أبدا بوجود الآخر، رغم حضوره الفائق. ينبغي، كي ينجح تفريغ المكان الانطلاق من استبعاد أذهان المستعمِرِين لهذا ''الآخر''. بلغت الحركة الصهيونية ذلك، بعد اشتغالها جوهريا حول نظرة عنصرية جعلت اليهودية أساس استبعاد الآخر وإقصائه. ساعدها بشكل حاسم الاضطهاد داخل أوروبا، الذي مارسه عنصريون آخرون، مما أتاح للحركة الصهيونية العثور على تصديق لما تقوم به. أتصوَّر من جهة أخرى، احتجاز الصهيونية لليهود، وإبقائهم أسرى ضمن المنظور الذي أشرتُ إليه. ينبغي التأكيد مرة أخرى، بأنَّهم استمرُّوا محتجَزِين وليس فقط خلال مرحلة معينة. أقول ذلك، فقد تطوَّر المسعى، بمجرَّد أن أضحت المحرقة ماضيا، وحُوِّرَت ضمن ''مبدأ أبديٍّ'' زائف جعل من اليهود ''آخر'' داخل المجتمعات التي يعيشون فيها أينما كانوا وعبر مختلف الأزمنة. بينما، لا يوجد أيّ شعب أو جماعة بوسعهما- حسن حظِّهما- ادعاء إمكانية أن يشغلا دائما وضعية هذا الآخر المرفوض والمنبوذ. حاليا، يمثِّل العرب والفلسطينيون آخر، منطقة الشرق الأوسط. ويعتبر أوج النِّفاق والاستخفاف، إجبار القوى الغربية لهذا الآخر بضمانات، وفق ترتيب مستمرٍّ نحو اختفائه. والحال، أنَّ الفلسطينيين من يحتاجون إلى ضمانة ضدَّ جنون القادة العسكريين الإسرائيليين. مع ذلك بادرت منظمة التحرير الفلسطينية، ممثِّلنا الوحيد، إلى اقتراح حلٍّ للصراع يكمن في الدولة الديمقراطية الفلسطينية، دولة تقوِّض مختلف الجدران بين أفراد ساكنتها، كيفما كانوا.

جيل دولوز: انطوى بيان مجلة دراسات فلسطينية، كما جاء في أولى صفحتي العدد الأول، على العبارة التالية ''نحن شعب مثل باقي الشعوب''، صرخة تتعدَّد دلالتها. في المقام الأول، هي تذكير، أو نداء. تستمرُّ مؤاخذة الفلسطينيين على رفضهم الاعتراف بإسرائيل، ويدَّعي الإسرائيليون مقولة ''انظروا سعيهم إلى تدميرنا''. لكن منذ خمسين سنة، والفلسطينيون بدورهم يقاومون حتى يتحقَّق الاعتراف بهم. في المقام الثاني، يتعلَّق الأمر بتناقض، ما دام بيان إسرائيل يؤكِّد بالأحرى على ''أنَّ إسرائيل ليست شعبا كباقي الشعوب"، من خلال استعلائها وكذا جسامة اضطهادها. من هنا أهميَّة العدد الثاني من مجلة دراسات فلسطينية، الذي تضمَّن نصَّين موضوعيين لكاتبين إسرائيليين حول المحرقة، وكذا الدلالة التي أخذتها الواقعة داخل إسرائيل، ثم لدى الفلسطينيين ومجموع العالم العربي. أن تطالب الدولة الإسرائيلية ''كي تُعَامل مثل شعب خارج المعيار''، معناه الاستمرار بشكل أكبر ضمن وضعية تبعية اقتصادية ومالية نحو الغرب، بحيث لم تختبر أيّ دولة قط وضعية مماثلة (بواز إيفرون). لذلك، يتمسَّك الفلسطينيون كثيرا بتبني العكس: أن يصبحوا ما هم عليه، بمعنى شعبا ''طبيعيا" تماما. هناك دلالة للتاريخ، ضدّ التاريخ المروع، والتي تشكِّل مع الممكن شيئا واحدا، تعدُّد الممكن، غزارة الممكنات خلال كل لحظة. ألا تكمن هنا رغبة مجلة دراسات فلسطينية، وما تتوخى توضيحه لا سيما عبر نافذة تحليلاتها الراهنة؟

*إلياس صنبر: حتما. فإشكالية تذكير العالم بالوجود الفلسطيني، مفعمة حتما  بالدلالات، لكنها أيضا ذات بساطة مفرطة. حقيقة معينة، ما إن يتم إقرارها حقا، حتى تجعل الوظيفة صعبة جدا بالنسبة لمن يتوقَّعون اختفاء الشعب الفلسطيني. حقيقة تقرُّ، في نهاية المطاف، امتلاك كل شعب بكيفية أو أخرى ''الحقَّ في القانون''. إنَّها بداهة، لكنها ذات قوة، بحيث تجسِّد شيئا ما نقطة بداية ومنتهى كلِّ صراع سياسي. لنأخذ الصهيونيين، ومواقفهم  بخصوص هذا الموضوع؟ لن تسمعهم قط يقولون: ''لا يمتلك الشعب الفلسطيني الحقّ في أيِّ شيء". تأويل، يستحيل على أيِّ قوة دعمه ويدركون ذلك جيدا. في المقابل، تسمعهم بالتأكيد يعلنون ما يلي: ''لا يوجد شعب فلسطيني''. لذلك، يعتبر إقرار الفلسطينيين بوجودهم كشعب، ويلزم قول ذلك، أقوى كثيرا مما يظهر للوهلة الأولى.          

هوامش:

مصدر الحوار:

Gilles Deleuze :Deux Régimes de fou. textes et entretiens(1975-1995).les éditions de Minuit.pp :179-184.

تصدَّرت هذا الحوار بعض الأسطر كتبها جيل دولوز، حول مجلة دراسات فلسطينية التي ظهر عددها الأول سنة 1981، واتَّجه هدفها الجوهري نحو تحليل معطيات الأزمة في الشرق الأوسط: ''انتظرنا منذ زمن بعيد مجلة عربية باللغة الفرنسية، بالأحرى من طرف أهل شمال إفريقيا، والحال أنَّ الفلسطينيين من أنجزوا المهمة. تميَّزت بخاصيتين انصبَّت ببداهة على الشأن الفلسطيني، لكنها تهتم كذلك بمجموع العالم العربي. من جهة تقدِّم مقاربات سوسيو-اجتماعية عميقة جدا وفق نبرة مضبوطة، وباتِّزان. من جهة ثانية، عبَّأت ''متنا'' أدبيا، تاريخيا، اجتماعيا، عربيا خالصا، غنيا جدا وغير معلوم كثيرا''.

يتعلق الأمر بكتاب ''فلسطين 1948، التهجير'' (باريس)، منشورات مجلة دراسات فلسطينية الصادر سنة 1983
تحت سلطة النظام العسكري البريطاني غاية سنة 1921، بعدها صارت فلسطين بقرار من عصبة الأمم تحت الانتداب البريطاني. بدأ النظام المدني سنة 1923، واستمر غاية يوم 15مايو 1948، تاريخ رحيل البريطانيين والإعلان عن الدولة الإسرائيلية.

 (4) Ilan Halevi, Question juive : la tribu, la loi, l'espace, 1981

(5)Boaz Evron :les interprétations de L'Holocauste: un danger pour le peuple juif. revue    d'études   palestiniennes .numéro2.hiver 1982.P36-52.