الأحد  20 تموز 2025

إدمون عمران المالح: "لقد تدمَّرت اليهودية العربية نتيجة الصهيونية"

2025-07-18 11:00:13 PM
إدمون عمران المالح:
إدمون عمران المالح

تدوين- ترجمة: سعيد بوخليط

تقديم:
 إدمون عمران المالح كاتب روائي، كتب: "المجرى الثَّابت" (1980)، "أيلان أو ليلة الحكي" (1983)، "ألف عام بيوم واحد" (1986)، "عودة أبو الحكي" (1990)، "أبو النور" (1995). صدر العملان الأوَّلان على التوالي ضمن منشورات "ماسبيرو" وكذا "لاديكوفرت"، بينما تكفَّلت دار النشر "الفكر المتوحِّش" بإخراج الأعمال الثلاثة الأخرى إلى الوجود.

أيضًا، أنجز إدمون عمران المالح عدّة دراسات حول الفنِّ التشكيلي، والتَّصوير الفوتوغرافي، لا سيما حول الفنان أحمد الشرقاوي (منشورات شوف)، "جان جنيه، الأسير العاشق"، "العين واليد، أعمال خالي الغريب" (منشورات الفكر المتوحش).

تخيَّلوا معي شخصًا واقفًا يتأمَّل البحر، صامتًا لا يتحرَّك، أو تقريبًا كذلك، أمام رمال ورياح الصويرة، يداعب بأصبعه طرف شاربه، ثم يقلِّص بلطف أنفه الذي يسند نظَّارتيه، عيناه نصف مغمضتين ومركَّزتين، تحاولان الإحاطة بالمشهد، مثلما نحاول الإمساك بطفل كي لا يسقط. يشبه حجم قامته وشكله والتر بنيامين، نفس ملامح الوجه، وشَعره الأملس والأشيب، ثم ذات النَّظرة المتردِّدة بين الجدِّية والمرح.

إدمون عمران المالح، يهوديّ مغربيّ، وُلد في أسفي عام 1917، يعتبر من الكتَّاب الذين لا يفصلون مشاريعهم في الكتابة عن حيواتهم. لذلك، يمكن الإقرار تقريبًا بأنَّ علاقة الرَّافدين أشبه بالعلاقة بين الشجرة والأرض. وضع يفسِّر حتمًا سبب رفضه بصورة منتظمة دعوات إجراء لقاءات إعلامية معه، محيلًا القرَّاء على مؤلَّفاته، وكذا التوجُّس من الزمن عبر سبل الكتابة. كتابة تختبر تمامًا حركة عودة واسعة؛ ليست عملية استعادة، بل على العكس من ذلك، حركة مدٍّ وجزر تمحو كل تباين بين البداية والنهاية، وتغطِّي باستمرار ثم تكشف عن ثنائيتها، باكتشاف خسارتها… الشِّعاب المرجانية لحياة أمام أمواج الذَّاكرة.

يجرف التاريخ الصُّور التي تعبر هذه الذاكرة نحو وجهتي عالمين، يحرص على عدم الفصل بينهما، والتباعد بينهما، ثم خاصة عدم تجميدهما. تختمر الكتابة بين طيّات نواة هذا اللقاء، وتأخذ الكلمات شيئًا فشيئًا مكان الصمت، ليس من أجل القطع معه، لكن قصد السماح — في إطار سياقه — بالإصغاء، وكذا تسليط الضوء على أصوات توارت.

إدموند عمران المالح حرٌّ، مثلما نصف بلدًا بكونه قد تخلَّص من كل احتلال خارجي، لذلك يرفض قواعد وأغلال ثقافة راسخة. تمتلك عبارات نصوصه قوة وإيقاعًا يدحرجان الأمواج، بحيث تستدعي التيارات، وتحشد بكيفية دائمة وصول أمواج أخرى؛ ثم تقفز سدود علامات التَّرقيم، إذا حتَّم السياق ذلك؛ قصد إعادة إبداع خطوط التَّقاسم. تستبدل اللغة الفرنسية عالمها وكذا نبرتها، تستعرض دواخل اللغة العربية، تتجاوز الحدود، تنفتح على تعدُّد الأصوات، لقد اقتحمتها اللغة. ينطوي هذا الاختيار للكتابة على شجاعة ونفَس نعاينه ثانية — في إطار صيغة أخرى — من خلال مواقفه السياسية.

ميَّزت حقبتان مسار إدموند عمران المالح: حقبة أولى سرِّية وعسكرية داخل الحزب الشيوعي المغربي، ثم حقبة ثانية غداة التزامه بالكتابة أساسًا وابتعاده عن النشاط النِّضالي. لم يشكِّل هذا الانعطاف تنكُّرًا، بل درجة إضافية على مستوى الحرية والوضوح.

لم يتغير قط ارتباطه بالثقافة اليهودية-المغربية، والعربية بمعناها الواسع، وكذا رفضه لإسرائيل من خلال كونها قوة استعمارية، رجعية، وعنصرية، لكنها تبلورت تعبيريًا منذئذ بكيفية أخرى.

إدموند عمران المالح، كاتب ملفِّق، منذ عمله الأول "المجرى الثابت"، غاية إصداره الأخير "أبو النور"، يعرض ما يفوق الوصف، يضفي حياة على العالم الذي أنقذته ذاكرته من الغرق، عالم يتلاشى لاستحضار منزل فارغ انبعث ثانية في اتصال بـ"ثلاث نخلات من فوق حائط أحمر"، تنتصب إحداها ضد تزييف التاريخ، وتنمحي أخرى قصد منح المكان إلى الليل.

قِلَّة هم الأشخاص، داخل العالم العربي، الذين أمكنهم الحفاظ بكثير من الصرامة والاستمرارية ضمن أفق مطالبهم، بل أدَّى بعضهم ثمن ذلك بعزلة كبيرة.
 تمثِّل شهادة إدموند عمران المالح، من وجهة نظر أدبية، وكذا وجهة نظر الذاكرة، مساهمة وحمولة ذات قيمة نفيسة. ويظل مؤثِّرًا ومطمئنًّا حين رؤية الاحتضان، وكذا التقدير الذي تحظى به كتاباته اليوم في المغرب. (دومنيك إده)

دومنيك إده: لقد أخبرتني طويلًا عن طفولتكَ في المغرب؛ مدينة أسفي أولًا، وفيما بعد الانتقال إلى الدار البيضاء حين بلوغكَ سنّ الثانية عشرة. تعطَّل عمل آلة التسجيل، ولم أعثر ثانية في الشريط السمعي سوى على مقطع يصف مدينة أسفي، وكذا المنزل الذي وُلدتَ فيه:
 "مدينة أسفي حصن برتغالي لا زالت تحتفظ بجزء من أسوار تلك الحقبة. شُيِّدت وسط جوف منحدر، عند مستوى البحر، يحدُّها يسارًا أحد أبراج المراقبة البرتغالية. يمتدُّ السور نحو الأعلى، وجهة البادية. توجد المدينة داخل فضاء، بين الأسوار. نغادره جنوبًا نحو البادية، وقد بدا سلفًا مجال أوليّ يغمر المدينة الجديدة. إنّه مجال ساحة الرباط، حيث تواجدت مخازن أبي الكبيرة (أو الهري بالعربية)، مع مستودعات الحبوب ومكاتبه. ننتقل من هناك نحو البادية من خلال حيّ تراب الصيني، عبارة في مجمله عن ورش أو نواة المدينة الجديدة. ننتقل شمالًا عبر بوابتين: باب القوس وباب الشعبة. حاليًا تلّ الفخَّارين. نجد في الأعلى حيّ بيَّاضة التل المطلّ على المدينة. خصوصية باب الشعبة (مدخل البادية)، كونه يفضي تحديدًا صوب سلسلة من الحدائق، أو بشكل أكثر تحديدًا بساتين توفِّر حاجيات المدينة من الفواكه والخضر. فضاء تحدّثتُ عنه في رواية المجرى الثابت، حينما استحضرت ذكريات ذهابي إلى التنزّه على متن الدّابة عبر الحقل، صحبة من سمَّيته بـ"مرشدي حسن"."

جميل هذا المنعطف الطويل عبر المدينة والبادية، قصد الانتهاء إلى منزل طفولتكَ، والذي لا نعلم بعدُ موقعه؟

إدمون عمران المالح: نعم، منزل وسط المدينة، في الشارع الرئيس "شارع النجَّارة" الموجود غاية اليوم، على خطوات من منزلنا، الذي شكَّلته عدَّة طبقات. لا أعلم نوعية طرازه، فقد توفَّر على شرفة، لكنها ليست ذات طابع مغربي، بل ربما حصيلة تأثير برتغالي؟ تألَّف المنزل من غرف عديدة، ومدخل طويل يُنعت بـ"سْتْوَانْ".

دومنيك إده: ماذا عن أثاثه؟
 إدمون عمران المالح: أثاث غربي، مصدره عروض المزادات، دواليب من خشب "الأكاجو"، وغرف من خيزران جاوا… أذكر أيضًا مرآة من مدينة البندقية، تواترت بخصوصها مختلف أنواع الإشاعات، بحيث قيل بأنَّ المسمار الذي استعان به النجار قصد تثبيت المرآة على الحائط، هو نفسه الذي استعان به قصد قتل أخيه أو أحد أفراد أسرته، لا أعلم تحديدًا!

دومنيك إده: أخبرتني عن معاناتكَ المبكِّرة مع نوبات الرَّبو التي حالت دون ذهابكَ إلى المدرسة. هكذا تقيَّدت تقريبًا ببرنامج دروس خاصة. فكيف نجحت في اجتياز الباكلوريا ضمن تلك الشروط؟
 إدمون عمران المالح: لا أعلم غاية الآن كيف استطعت النجاح والحصول على الباكلوريا. كان ذلك خلال سنة 1940، فترة الحرب العالمية الثانية. طيلة سنوات، قطنّا مدينة الدار البيضاء، الحقبة الكبيرة للمراهقة والشباب. كنتُ منطويًا على نفسي، فانكببتُ بنهمٍ على القراءة.

دومنيك إده: هل تتذكَّر كتبًا أساسية، وكتَّابًا دون غيرهم؟
 إدمون عمران المالح: فرنسيون، أنجلوساكسونيون، روسيون، على منوال: بول فاليري، أندريه جيد، ستفان مالارميه، إميل زولا، أندريه مالرو، جيمس جويس ورواية ''يوليسيس''، ويليام فولكنر، تشارلز دينكز، فيودور دوستويفسكي، جون ستينبيك.         

دومينيك إده: هل نسجت صداقات مع مغاربة مسلمين؟
 إدمون عمران المالح: لم يتحقَّق ذلك قبل انتمائي إلى الحزب الشيوعي، بل كان أصدقائي من اليهود والإسبان. لكن حتى وإن التحقتُ بالمدرسة النظامية، فلن يكون بوسعي التَّواصل مع المغاربة المسلمين، ما دام الفصل يتمُّ منذ المدرسة. تواجدت مدارس فرانكفونية، ومدارس التحالف الإسرائيلي، والمدرسة الفرنسية، حيث لا يُقبل انتماء اليهود والمسلمين سوى بأعداد قليلة للغاية، أشبه بقطَّارة، ممَّا يدفع أغلب المسلمين نحو فصول المدارس الفرنكفونية-العربية.
 بيد أنِّي عشت منعطفًا كبيرًا، نهاية الحرب سنة 1945، مع أوج صعود الحركة الشيوعية السوفياتية. لم أنخرط في صفوف الحزب الشيوعي مثلما يفعل عامل، بل بوازع رومانسي. بداية، حضرت اجتماعات، ثم التقيت أفرادًا لا يمكنهم الظهور علانية، وفرنسيين مناهضين للتوجُّه السياسي لدى الماريشال فيليب بيتان.

دومينيك إده: هل انتميتَ سنة 1945 إلى الحزب الشيوعي الفرنسي؟
 إدمون عمران المالح: نعم، خلال السنة الأولى كان فرنسيًا، ثم انطلاقًا من السنة الموالية، 1946–1947، انقلبت الأمور، بحيث صار الحزب مغربيًا، عندما غادر كثير من الفرنسيين سفينة القيادة. انطلاقًا من تلك اللحظة أصبحتُ عضو المكتب السياسي، فكانت نقلة نوعية في حياتي: الشاب اليهوديّ الغربيّ، مثلما كنتُ، اكتشف نفسه بعمق مغربيًا، دون افتقاد شيء من هويّتي.
 اكتشاف تجلَّى، ليس نتيجة عملية الروح القدس أو تعليلات معيَّنة، بل جرَّاء انغماسي تمامًا وسط الجمهور المغربي. لم أتأسَّف قط على حقبة انتمائي للحزب، أو أحسست خلال لحظة بأنِّي ضيَّعت وقتي خلال تلك الحقبة. لازالت ذاكرتي تستحضر الشخصيات الرّائعة التي تعرّفتُ عليها بفضل التزامي السياسي. يمكنني الإقرار بأنَّها قِلَّة قليلة من المثقفين المغاربة الذين أسعفهم الحظ كي يعشوا تجربة من هذا القبيل.

دومينيك إده: ما الذي يعكسه بالنسبة إليكَ المعطى اليهودي ضمن هويتكَ؟
 إدمون عمران المالح: كان والداي ملتزمين بالممارسة الدينية، لكنَّهما لم يفرضا عليَّ شيئًا كبيرًا. مع ذلك، استرعى اهتمامي عيد الفصح. الطقوس والصلاة (هاكادا) ليلة عيد الفصح. تعني هاكادا "سردًا"، ومثَّلت أصل علاقتي بالكتابة، بل تعتبر جوهر روايتي "أيلان أو ليل الحكي". تجري أمسيات ليالي الفصح في منزل أجدادي من جهة أبي في الصويرة، داخل القصبة. لقد كانت ليلة عشاء عيد الفصح، حفلة على الطاولة. أيضًا، وُلدتُ خلال إحدى ليالي عيد الفصح.
 أمَّا بالنسبة لليهودية كديانة، فقد رفضتُها باكرًا جدًا. أن تغدو "عصريًا" في نظري، يعني رفض التديُّن.

دومينيك إده: مع ذلك، فأنت قارئ شغوف للنُّصوص الصوفية.
 إدمون عمران المالح: تقريبًا لاهوت سلبي، فيما يخصني. لا يمكنني القول بأنَّه دين بلا إله، يستمرّ سؤال الإله مطروحًا… أو بالأحرى، تديُّن دون ممارسة.

دومينيك إده: يقول فلوبير: "أنا متصوِّف لا يؤمن بأيِّ شيء." هل تجد نفسك مع حيثيات هذه القولة؟
 إدمون عمران المالح: لا، هذا نوع من الصيغ يُخفي تعقُّد الأشياء، ولا تنطوي على وضوح يُذكر.

دومينيك إده: فلنحاول تقديم مزيد من الوضوح.
 إدمون عمران المالح: لا أعتقد في إمكانية بلوغنا ذلك، أو قابلية الصياغة وفق آليات خطاب عقلاني، بل تتحقُّق المسألة خلال سياق استثنائي. يمكن لبعض قراءات القصائد (أفكِّر مثلًا في قراءة حديثة لأشعار جوزي إنخيل فالنتي) بلورة أفق حالة قريبة جدًا من هذه الحالة الفاصلة، المستعصية عن الوصف. لا يمكننا عقلنة ما لا يقبل العقلنة، بحيث تندرج ضمن إطار المشاعر، بناء على نوع من التزهُّد.

دومينيك إده: هل تعتبر التزامكَ السياسيّ عقلانيًا؟
 إدمون عمران المالح: لا، لم يكن انخراطي السياسي عقلانيًا، بل تعبيرًا دينيًا. ينسى الأفراد، في خضمِّ تنديداتهم — المشروعة تمامًا — المنصبة على النظام السوفياتي، ما كان رائعًا: تلك الأسطورة الشيوعية الكبيرة التي ألهمت ملايين الأشخاص، ولم تُستوعب نتيجة ضربة إحصائيات جرائم الستالينية.

دومينيك إده: تقول بأنَّ الصهيونية افتقرت للديني؟
 إدمون عمران المالح: بل أُضيف: حتَّى بناة الدولة الصهيونية قد انعدم لديهم الحس الديني.

دومينيك إده: ماذا عن شخص مثل غرشوم شوليم؟
 إدمون عمران المالح: إنَّه مختلف. انطلق حتمًا من الدين، لكنه ظلَّ خاصة مرتبطًا بمطلب اللغة. هكذا، انصب التزامه الديني على اللغة.

دومينيك إده: متى ابتدأ تاريخ معارضتكَ للصهيونية؟
 إدمون عمران المالح: منذ الوهلة الأولى، تقريبًا الدولة الافتراضية. فبخلاف ما نعتقده (أجريتُ بهذا الخصوص نقاشات مع مؤرِّخين مغاربة)، كنَّا عفويًا ضدّ الصهيونية، رغم طبيعة الموقف الرسمي الذي تبنَّاه الحزب الشيوعي المغربي، وجاء لصالح إسرائيل.
 للتَّوضيح أكثر: آمنَّا بمواقف الرَّفض نحو إسرائيل، لكن عمليًا لم نُمارس شيئًا ضدَّها. لقد تبلورت المعطيات انطلاقًا من تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، وخاصة بعد سنة 1967، لكن إدراكي الواعي ترسَّخ وتعمَّق، ثم بلغ أوجه مع حرب لبنان.
 مع ذلك، لا أحبُّ عبارة "مناهضة الصهيونية" التي تحتجِز وتحبِس ضمن نطاق الأيديولوجيا أو السياسة، بينما مصدر الأسئلة المطروحة يتجاوز فعليًا ذلك. كلما تأمَّلتُ بعمق حقيقة البلد (مغربية–عربية)، أتبيَّن كارثة تدمير الجماعات اليهودية في العالم العربي، بدءًا من المغرب، وكذا تدمير رأس مال القيم من خلال استمرار تقييمه.
 الصهيونية نفسها متورِّطة، بحيث أجهضت اليهودية العربية وطردت الفلسطينيين من أرضهم. ارتبطت التراجيديتان بكيفية جوهرية.
 بخصوص رافد ثان (استلهمتُ من ماضي كرجل انتمى إلى اليسار تبصُّرًا دقيقًا للغاية)، فقد لاحظتُ بأنَّ كل ما ينتمي إلى اليسار داخل فرنسا — وليس فقط في فرنسا — يتحمَّل مسؤولية احتضان الحركة الصهيونية العنصرية والرجعية. مع ذلك، يبدو غريبًا أنَّ شخصًا لم يجرؤ، أبعد من انتقادات النظام الإسرائيلي، على تناول تحليل فلسفي لمرتكزات الصهيونية العنصرية. عنصرية، مادام "الوطن دمًا"، طرد غير اليهود، في سياق التوسُّع المكاني، الإرهاب، اغتصاب القوانين الدولية… وهلمَّ جرًّا، مختلف ذلك تحت غطاء الخداع الشهير، بل الأسوأ: أقصد خدعة "اشتراكية الكيبوتس".

دومينيك إده: هل عدم سفركَ أبدًا إلى القدس يستند إلى التزام مبدئي؟
 إدمون عمران المالح: نعم، حتمًا مبدئي، بل أضحى مفرطًا. لا يعني الأمر رغبة في القضاء على إسرائيل، لكن، مثلما قلت أو أعيد القول، لا أجد نفسي قط داخل أجواء هذه الدولة.
 لقد شكَّل تعصُّب وتطرُّف اليهود نسخة أولى عن التطرُّف الذي عايناه ثانية، فيما بعد، مع الإسلام. لا ينبغي نسيان أنَّ حملة نتنياهو تمَّت وفق الصَّدح بشعارات دينية ذات خاصية تحيلنا على العقيدة اليهودية الباطنية، المعروفة باسم "القبّالة"، التي تنطوي على شعيرة تدعو إلى قتل العدوِّ السياسي. إنَّها أكثر فظاعة من فتوى إدانة سلمان رشدي. لقد فتح التطرُّف الإسرائيلي الأبواب نحو تبرير الأسوأ من خلال الدين.

دومينيك إده: كيف تختبر تجربة صعود الصهيونية ضمن زمرة أفراد عائلتكَ؟
 إدمون عمران المالح: بكيفية فولكلورية. لم يكن أبي صهيونيًا، عكس أحد أخوالي.
 الخال الأمازيغي إدوارد، الذي تزوَّج أخت أبي، كان يتخيَّل نفسه واحدًا من النبلاء الإنجليز. فقد حرص على نوع من "الدانديزم"، أي اهتمامه بأبسط تفاصيل أناقته، مع نزوع نحو الهوس بالكذب، وكذا مدح نفسه لكونه تبادل رسائل مع برجسون وبن غوريون…
 حكايته، التي ابتدأت كوميدية، أضحت تراجيدية خلال اليوم الذي قرَّر فيه الاستقرار في إسرائيل.
 كان له ابن أخ يشتغل في الإدارة البريطانية، وأخت ثرية جدًا، تقطن حيفا. توهَّم بأنَّ رمزية تلك الرسائل، ستجعله موضوع ترحيب من طرف الجميع بأيدي مفتوحة؛ لكنه، حقيقة، اكتشف نفسه وحيدًا، في غياب أيِّ شخص يهتمُّ به، فانتهى به الأمر داخل ملجأ، فعاد مرة أخرى إلى المغرب، ومات بئيسًا تقريبًا.

  دومنيك إده: كيف تفسِّر، بجانب هذه الحكاية الخاصة عن خالكَ، الهجرة المكثَّفة لليهود المغاربة صوب إسرائيل؟
 إدمون عمران المالح: هي ظاهرة معقَّدة جدا، حركة تتجاوز الإرادات الفردية. لا أمتلك ربَّما شخصيا إمكانية تفسيرها على الوجه الأكمل. فعلا اعتُبرت حصيلة للدعاية الصهيونية، لكنها أكثر من ذلك، فقد جَسَّدت خلاصة اشتغال عميق بواسطة التعليم، من خلال افتتاح المدارس العبرية (يشيفا)، التي ازداد عددها انطلاقا من سنة 1948. أيضا، يلزم النَّظر إلى ذلك ضمن استمرارية حركة إضفاء الطابع الغربي على الجماعات اليهودية، واختراق الشعب المغربي، عملية مهَّدت الطريق أمام الدعاية الصهيونية. إنَّها الأطروحة التي نعاينها ثانية في أعمال المؤرِّخ المغربي محمد كنبيب. لم يتعرَّض اليهود في المغرب إلى القتل، لكن بعض الحوادث أثارت هاجس الحذر ضمن صفوف الساكنة. كانت هناك، خاصة، أحداث مدينة وجدة ضدّ السلطات الاستعمارية الفرنسية، قُتِل إبَّانها بعض اليهود، أو لنقل أقليَّة يهودية مؤثِّرة، موصولة بمجال ديني وروحي صارم، فنشروا تعليما ذا حمولة إيديولوجية، مع فكرة إعادة بناء الدولة اليهودية، إلخ. ثم، من جهة أخرى، لم تعمل الحركة الوطنية المغربية على الاحتفاظ باليهود. يلزم الإشارة بأنَّ أصواتا انتمت للحركة تبنَّت حينها، للمرة الأولى عند نهاية سنوات الأربعينات، نبرة معادية للسامية جراء الوجود الإسرائيلي. جرت هجرة اليهود في أجواء مفعمة بالاندفاع والذُّعر. يعود تاريخ الموجة الأولى إلى لحظة تأسيس دولة إسرائيل، بينما تؤرِّخ الثانية لسنة 1957، مع استقلال المغرب.

دومنيك إده: غادرتَ المغرب سنة 1965 متوجِّها إلى باريس. لماذا، وما دواعي ذلك؟
 إدمون عمران المالح: غادرتُ المغرب طوعا بعد اعتقالي لمدَّة أسبوع على إثر أحداث الدار البيضاء سنة 1965. من جهة، راكمتُ خبرة كبيرة بعد أربعة عشر سنة من الممارسة النضالية، فأدركتُ، من جهة أخرى، بأنَّ البقاء هنا معناه توريطي، بكيفية أو أخرى، في خضم الوضع السياسي. والحال، انفصلتُ جوهريا عن كل أشكال الحياة النضالية. لذلك اخترتُ إراديا نوعا من المنفى، مع احتفاظي، غاية اليوم، بجنسيتي المغربية، ولم أختبر أبدا وضعية اللاَّجئ السياسي.

دومنيك إده: كيف جرت ظروف قدومكَ إلى فرنسا؟
 إدمون عمران المالح: بين صفحات كتاب لم يُنشر بعد تحت عنوان "رسائل إلى نفسي"، وصفتُ شخصية، حتى لا أقول بأنَّه أنا، من يقف عند آخر المَرْكَبِ الذي يغادر طنجة نحو الجزيرة الخضراء. رصدتُ حينها هذا النوع من مشاعر الكآبة العميقة جدا، ثم الحنين المتبلور منذ اللحظة الأولى. إحساس عميق، تجرَّد عن السِّمة العابرة للتمزُّق، الذي تخفَّف في الآن ذاته، أو، أكثر تحديدا، كافأه الارتياح بعد الاختبار.

دومنيك إده: أقمتَ رفقة زوجتكَ ماري سيسيل في 114 شارع مونبارناس، ودرَّست الفلسفة في ثانوية "سانت بارب". اندرجت هذه الحقبة الأولى من حياتك الباريسية بين النشاط النضالي والكتابة.
 إدمون عمران المالح: نعم، أربعة عشر سنة من النِّضال، ثم أربعة عشر أخرى على مستوى النَّشاط المهني، وأخيرا منذ أربعة عشر سنة فيما يتعلق ببداية النشاط الأدبي! لكن، بهدف العودة إلى حقبة وصولي فرنسا، أقول بداية بأنِّي أرفض مختلف الاستيهامات، وكذا الصور النَّمطية المعتادة المرتبطة بمفهوم المنفى. كانت فترة معقَّدة، وفق معنى كونها موسومة، في الوقت ذاته، بالغياب، الإحساس بالابتعاد، والتطلُّع نحو استعادة المغرب مرة أخرى. مشاعر تفاقمت، ثم في نفس الوقت، وضعية مادية مميَّزة. أيضا، شكَّلت الثقافة الفرنسية والغربية التي أنتمي إليها سندا خلال الحياة الجديدة، مع استحضار، طبعا، تباينات دقيقة موصولة بعروبتي وثقافتي المغربية. مثَّلت الفترة كذلك تثمينا للحياة اليومية من خلال سحر باريس، والالتقاء بأشخاص استثنائيين، ثم تعاوني مع جريدة "لوموند" منذ 1976، مما أتاح لي توسيع مجال علاقاتي مع الكتُّاب والفلاسفة الفرنسيين، والانفتاح على أفق نشاط نقدي.

دومنيك إده: كيف تفسِّر، هذه المسافة التي تمركزت تدريجيا بينكَ وكذا هذا العالم الأدبي؟
 إدمون عمران المالح: لا أعلم، ولا أعرف التُّهمة تحديدا. بدا تطوُّر المناخ الثقافي في التَّدهور بعد ماي 1968، ثم صار هذا الانحدار، كي يغدو حسب تصوُّري، في غاية الخطورة. لقد وجدتُني عند موقف معارض لعدد معين من الأشياء، لاسيما حيال كيفية مقاربة النظرية الماركسية. أفكِّر، خاصة، في أعمال لوي التوسير، الذي لم أكن متفقا معه خلال تلك الحقبة. إذن، اتَّضح لي تدريجيا صدامي مع نموذج ثقافي باريسي، جَسَّدَه، من بين أمور أخرى، دجل الفلاسفة الجدد.

دومنيك إده: كيف تحدِّد ذلك المعطى الفكري الجديد؟
 إدمون عمران المالح: بنوع من البلاغة المثيرة خلال الوهلة الأولى، ثم بعدها، يكتسي ملامح سوفسطائية، نتيجة اكتفائه بذاته.

دومنيك إده: ألاترى في ذلك أيضا غطرسة؟
 إدمون عمران المالح: الغطرسة ليست الكلمة المناسبة، بل الزَّيف، أو، بالأحرى، غياب الصِّدق.

دومنيك إده: ماذا عنكَ ثانية، وكذا سنوات الستينات؟
 إدمون عمران المالح: يصعب التَّأريخ للوقائع. أعتقد بأنَّ إحساسي بالابتعاد، الذي يكمن ظاهريا ضمن إطار الأفكار، ارتكز حقيقة على حركة أكثر عمقا، بدأت لديَّ بأزمة معيَّنة، لم تبلغ مستوى نبذ نموذج غربي بعينه، أو، للتعبير بكلمة مناسبة، أقول: تطلُّعا معيَّنا نحو وضعية وجودية. هنا يكمن ينبوع روايتي "المجرى الثابت"، التي، عبر مضمونها، عن هذا الرَّفض، وأخذ مسافة. حينما انتقض يوشع بن نون على نمط معين من الحبِّ، العيش، الأكل، مما يعكس عودة الأصيل، والأوَّلي، بعد أن تأتَّى له تحريك وتقويض المشهد القائم. ذوق توارى، ثم اكتشفتُه ثانية.

دومنيك إده: أحسستُ، منذ بداية هذا الحوار، بتردُّدك، بل وانصرافكَ عن الخطاب السياسيّ حسب المعنى الشائع والنِّضالي للكلمة، وكتاباتكَ تشهد على ذلك، فاللغة التي تنطوي عليها كتبكَ تخلق وتتمِّمُ حركة الذاكرة. هذه "القوة الميتافيزيقية للكتابة" التي استحضرتها ماري سيسيل في كتابها حول "ولتر بنيامين"، تأويل ينطبق حقا على مساركَ ككاتب.
 إدمون عمران المالح: ليست، في الواقع، بديهيات التجارب، حصيلة أبحاث تاريخية، تحليلات سياسية، أو نقاشات فلسفية، إنَّها تتحدَّد بين طيات الكتابة، والأخيرة من تكتشف وتميط اللثام عنها. هكذا، حينما استحضرت، في رواية "المجرى الثابت"، مقبرة أصيلة، فالعاطفة نحو هذا المكان واللحظة من بعثت الشرارة، وخلقت عالما بأكمله، ليس ممكنا سوى بالكتابة. أو أيضا، الطفل المحترِق بالنابالم في رواية "ألف عام بيوم واحد"، فهو من أحرق الكتاب على امتداد صفحاته. هكذا يتبدَّى التطوُّر العضوي للكتابة. الحقائق ليست أفكارا مجرَّدة، بل تنمو الكتابة، وتحفِّز جذورا تتجاوز الانغلاق الإيديولوجي.

دومنيك إده: أعمالكَ مقروءة بشكل أفضل، وتُستوعب مضامينها في المغرب وإسبانيا، قياسا مع فرنسا. هل تعتقد بأنَّ مواقفكَ السياسية نحو إسرائيل لعبت دورا بهذا الخصوص؟
 إدمون عمران المالح: أتمنَّى حقا الإيمان بذلك، لكني لا أظنُّه تفسيرا ملائما لقضية تبدو أكثر تعقيدا. أعتقد بأنَّ التأويل الأقرب إلى الحقيقة، الإقرار بكون نمط الأدب الذي أنجزه، لا يتيح بسهولة إمكانية النَّفاذ إلى الوسط الأدبي، الذي يفكِّر في وجهة أخرى مختلفة تماما. لقد رفض جلُّ النَّاشرين، سواء الكبار أو الصغار، مسودَّة روايتي "ألف عام بيوم واحد"، ثم صدرت، أخيرا، بفضل ألان جوفروي. مع ذلك، لست راغبا، خاصة، في تقمُّص دور الضحيَّة، بل أذهب غاية تقديم الشكر إلى السماء لأنِّي لم أَمُر من برنامج برنار بيفو. أرغب، ضمن هذا السياق، الإشارة على سبيل التأكيد إلى مسألة في غاية الأهمية لعبت دورا بخصوص مساري، أقصد حركة ينطوي عليها المغرب، مثيرة للإعجاب على مستوى الاهتمام باليهود المغاربة، والنَّظر إليهم كجزء أساسي ضمن نسيج البلد. هكذا، يُطرح سؤال رحيل اليهود، مثلما الاعتراف بما قدَّموه للبلد. يترجِم ذلك تدريس العبرية في جامعة الرباط، وكذا انصباب اهتمام الباحثين على الأدب الإسرائيلي بالعربية، أو بفضل روائيين مثل التازي أو عبد الكريم الجويطي، الذين يتطرَّقون، عبر نصوصهم، إلى الحضور اليهودي في المغرب. معطيات مختلفة تهتدي بي صوب حركة تعاطف واعتراف لا تلامس قط الجانب السياسي، مما يزعجني قليلا. في نفس هذا الإطار، انصبَّ الاهتمام على منجزي الأدبي، الذي يحظى بالتقدير والتثمين في المغرب. أعتقد بأنَّ هذا يستند، كذلك، على رفض كتاباتي للنزعة الاستئثارية اليهودية، ولا أتحدث ضمن استراتيجيتي (استراتيجية وفق دلالة توظيف خوان غويتسولو للكلمة: "النقطة التي نتموقع انطلاقا منها")، كيهودي من منظور خارجي، لكن باعتباري مغربيا.

دومنيك إده: قبل هجرتهم، قُدِّر عددهم بمئات الآلاف، بالتالي اختفى عالم بأكمله. كم يبلغ عددهم حاليا داخل المغرب؟
 إدمون عمران المالح: بعض الآلاف، لكن وجب التأكيد على كونهم مواطنين مغاربة مثل الآخرين. نعم، عالم برمَّته قد اختفى.

هامش:
 مصدر المقالة:
 Edmond Eddé: Revue D'études palestiniennes, 1998.