الأربعاء  03 أيلول 2025

تجربة حسن القطراوي في تدوين الإبادة: تأملات شعورية في الموت وما يسبقه ويليه

الروائي حسن القطراوي: "كل ما أكتبه هو نوع من الحضور في وجه الطمس والفناء"

2025-09-02 04:43:53 AM
تجربة حسن القطراوي في تدوين الإبادة: تأملات شعورية في الموت وما يسبقه ويليه
الروائي حسن القطراوي

تدوين-سوار عبد ربه

أدرك الكتّاب في غزة، منذ اليوم الأول للعدوان الصهيوني على القطاع، أهمية الكتابة والتوثيق، فشرعوا في تدوين قصص الشهداء والمكلومين، وتفاصيل الحياة اليومية تحت وطأة القصف والدمار وانعدام مقومات البقاء، عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فالكلمة هناك تكتسب معنى مختلفا، لا لأنها تنبثق من رحم المعاناة فحسب، بل لأنها تقدم رواية موازية للرواية الإخبارية، فيكتمل بها المشهد.

فبينما تنقل لنا الأخبار، والصور، ومقاطع الفيديو عن واقع الإبادة والموت المستمرين، تبقى هذه الوسائل عاجزة عن كشف الكواليس: ما الذي حدث قبل الكارثة؟ وماذا تبقى بعدها؟ وهنا تأتي أهمية النصوص، إذ تضع العاطفة فوق أي اعتبار، بعيدا عن القوالب والضوابط، وتعيد للناس وجوههم، وللأماكن أصواتها، فيغدو الإنسان والمكان قيمتين عليتين، لا مجرد أرقام لا تخدم سوى الإحصاءات والبيانات.

حسن القطراوي، الروائي والأكاديمي الحاصل على الدكتوراه في الإرشاد النفسي، والمحاضر في جامعة الأقصى برتبة أستاذ مساعد، واحد من أولئك الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التدوين المستمر والانتباه المفرط للتفاصيل، ونقلها دون فلترة. وعلى مدار نحو عامين، تحولت صفحته على "فيسبوك" إلى صوت حاضر لمن غيّبت آلة الحرب أصواتهم، ومرآة تنقل مأساة القلب الفلسطيني الذي لم يعد يتسع للحياة والألم معا.

ولعل أبرز ما يميز تدوينات القطراوي أنها تراوح بين الشهادة والتأمل، فبينما يروي قصة أب يحمل جثمان طفله الشهيد، أو ينقل مأساة أب فقد أبناءه الستة دفعة واحدة، لا يغفل عن طرح الأسئلة الشعورية المرافقة للحدث. كما يكتب عن هواجس الأب الذي جرّدته المقتلة من دوره الطبيعي في تأمين أبسط مقومات العيش لعائلته. وفي نصوصه نقترب أكثر من المدينة التي تحولت إلى مقبرة، ومن زمن لم يعد يُقاس بالساعات بل بعدد الجنائز.

في هذه التدوينات، تُختزل عوالم كاملة لا يدركها إلا من عايشها، وتُنقل إلينا بلغة بسيطة، لأن غايتها ليست الإبهار أو الإثارة، بل قول الحقيقة كما هي، بالمعنى المجرد والنبيل للكتابة: أن تشهد وتكتب.

وهنا يغدو التدوين فعلا مقاوما للمحو، في وجه مقتلة سعت إلى طمس المكان والناس في غياهب النسيان، فتبقيهم التدوينات أحياء في الذاكرة. ومن هذا الدور الذي يتقاطع فيه التوثيق بالتأمل، والشهادة بالمقاومة بالكلمة، تنبع أهمية ما يكتبه. حول هذه التجربة الكتابية، وما تنطوي عليه من تأملات شعورية، وتجليات أبوية ومكانية، يأتي هذا الحوار مع الروائي حسن القطراوي.

تدوين: قلت إن "منصات التواصل الاجتماعي في غزة صارت وسيلة لإثبات البقاء"، ومنذ اليوم الأول للمقتلة وأنت تكتب بلا انقطاع، متنوعا بين القصائد، والقصص القصيرة، والأسئلة التأملية. لمن توجه هذه الكتابات، وهل ما زالت بعد كل هذا الوقت فعلا محاولة لتأكيد أنك ما زلت حيا، أم تحولت إلى امتداد طبيعي لممارستك كروائي؟

القطراوي: في اللحظات الأولى من الحرب، لم تكن الكتابة خيارا أدبيا، بل انحيازا إنسانيا، ولم تكن قطعا نثرية فارغة، بل صرخة في الضمير، ولم تكن مجرّد حكاية، بل نداء استغاثة يحمل صوت العالقين تحت الركام، كل ما أكتبه هو نوع من الحضور في وجه الطمس والفناء، الكتابة هي الوسيلة الوحيدة المسموح لها بالطيران من وسط هذا المكان المُعتم في العالم، وهي الرسالة الحقيقيّة القادرة على وخز وجدان الأحرار.

مع الوقت صارت الكتابة بالنسبة لي محاولة لترميم الداخل، لتأريخ اللحظة لا كمجرد وقائع، بل أحاسيس وأصوات وظلال، ومن هنا بدأت أكتب لأتذكّر كل اللحظات القاسية كي لا تُمحى ذكرى من ماتوا، وأكتب لمن نجوا كي لا يشعروا بالخذلان أكثر، أكتب لنفسي ولمن سيأتي بعدي ويبحث في الركام عن شهادة، ولكل المخنوقين والراحلين من غياب الحضور والمعنى.

تدوين: كتبت عن يوم طويل قضيته في المستشفى تُصلي فيه على عشر جنازات، وقلت إن المدارس في غزة لم تعد تخرّج المتعلمين، بل الشهداء. كيف تنظر إلى هذا التحول في وظيفة الأمكنة، وماذا يعني لك أن تتلاشى معاني الحياة من أماكن وُجدت أصلا لصناعتها؟

القطراوي: حين يُصلي المرء على عشر جنازات في مستشفى، المكان الذي يُفترض أن يعيد الناس إلى الحياة، يدرك أن الوظائف الرمزية للأمكنة صارت فارغة من رسالتها، المستشفى لم يعد مكان شفاء، بل صار مسرحًا للوداع، والمدرسة التي كانت تُخرّج المتعلمين، صارت تخرّج الشهداء، هذه ليست مجرد تحولات مادية في استخدام المكان، بل تحولات في المعنى، في اللغة، في علاقة الإنسان بالأمكنة.

حين يموت طفل وهو في طريقة للمدرسة فإن حقيبته تُصبح قبرًا، وحين يموت الطبيب وهو في طريقه للمستشفى فإن لباسة الأبيض يُصبح كفنا، هذه التحولات تُربك اللغة، وتُربك العقل، لأننا اعتدنا أن نعطي الأماكن وظائف آمنة مستقرة، لكن في غزة حتى المسميات تُقتل.

هذا التلاشي في المعاني هو أخطر من تلاشي الأبنية ذاتها، لأن وظيفة المكان ليست فقط في جدرانه، بل فيما يُراكمه من ذاكرة، عندما تُمحى تلك الغايات، نشهد نوعا من "قتل المعنى"، وهو شكل آخر من الإبادة. ليس فقط قتل الأجساد، بل في قتل رمزية المكان.

"في غزة، حتى المسميات تُقتل... هذا التلاشي في المعاني أخطر من تلاشي الأبنية ذاتها، لأنه شكل آخر من الإبادة: ليس فقط قتل الأجساد، بل قتل رمزية المكان".

تدوين: كتبت ذات مرة: "ضعيفةٌ هذه المدينة لولا قوة النساء"، وفي تدوينات أخرى وصفتها بالمقبرة، وبأنها المدينة الأكثر حزنا، اليتيمة والمنكوبة. كيف تتغلب قوة النساء على كل هذا الضعف؟ وماذا تمثل المرأة في غزة بالنسبة لك؟

القطراوي: الحقيقة أنني أردت للعالم فهم غزة من منظار مختلف، ليس كمكان جغرافي فقط، بل كمشهد إنساني يتأرجح بين الهشاشة والمقاومة، عندما أقول: "ضعيفةٌ هذه المدينة لولا قوة النساء"، فأنا لا أشير إلى النساء كأنثويات، بل كرمزية للأمل، وعنوان للتماسك والحياة المستمرة رغم كل الهزات، النساء هنّ من يحافظن على الروح الحقيقية للمدينة، هنّ من يطبخن ويعلمن ويحتضنّ الأطفال، من يواصلن طريقا في صناعة الحب والصمود حين تتبدد كل الهياكل الرسمية أو تنهار.

وحين أصف غزة بـ "المقبرة" أو "المدينة الأكثر حزناً"، فأنا أقصد أنها المكان الذي يُختبر فيه الألم والخسارة كل يوم، لكنه في الوقت نفسه يُختبر فيه الإبداع والصبر والصمود النسوي، قوة النساء تتغلب على الضعف ليس بطريقة خارقة، بل بقدرتهن على الاستمرار، على تحويل الألم إلى حياة، على أن يكون الحزن دافعًا للبقاء والعمل، لا سببًا للاستسلام.

المرأة في غزة تمثل الصلابة في أضعف اللحظات، الحرية في أضيق المساحات، والأمل في قلب الخراب، هي الشاهد والحاضن للراوية، هي من تحفظ المدينة في ذاكرتها الموجوعة، وبدونهنّ، ربما كان الحزن سيبتلع كل شيء، لكن بوجودهنّ، تظل المدينة في أمان، مهما علت أصوات الانفجارات.

تدوين: قلت إن الموت في غزة لا يأتي دفعة واحدة، بل يتسلل على مراحل: خوفا، وضعفا، قهرا، خذلانا، ثم جوعا، حتى يحلّ الموت الكبير. كيف يتعايش الفلسطيني مع هذه الفلسفة الجديدة للموت، وقد فقدت معناها التقليدي كفصل نهائي، وصارت متقطعة ومتكررة؟

القطراوي: الموت في غزة ليس حدثا واحدًا يحسم كل شيء، بل عملية متراكمة، مستمرة، ومرهقة نفسيا وجسديا، الموت هنا أصبح فلسفة حياة، أو بالأحرى حالة وجود يومية، أكثر منها حدثا نهائيا، الفلسطينيون يعيشون في مواجهة الموت على مراحل: الخوف يسبق كل شيء، الضعف يختبر الجسم والروح، القهر يفرض الواقع بلا رحمة، الخذلان يعلن عن غياب الأمان، والجوع يذكّر بأن الحياة أصبحت متسلسلة بين لحظات البقاء والتهديد.

التعايش مع هذه الفلسفة يتطلب وعيًا مزدوجا، الوعي بالهشاشة المستمرة، والوعي بالحاجة إلى الصمود ولو بشكل يومي، الفلسطيني يتعلم أن يعيش كل يوم كما لو كان النهاية والبداية معا، أن يجد في التفاصيل الصغيرة، في الضحكة العابرة، في الطعام الذي يُحصل عليه، وفي الأمان المؤقت، سببا للاستمرار، هذا لا يعني تأقلما مريحا، بل حياة مضطربة، مقسمة بين الرعب والأمل، بين الموت والحياة، بين الفرح والحزن، الفكرة هنا أن الموت لم يعد فصلا نهائيا، بل خيطا دائما في نسيج الحياة، الفلسطيني في هذه المدينة يتعلم فن العيش بسلام مع رعب اللحظة الأخيرة.

تدوين: احتججت في إحدى تدويناتك على مفاضلة الموت وفق الجنس والعمر، حيث يُصاغ الخبر على نحو "شهداء بينهم نساء وأطفال"، دون الإشارة إلى الشباب. كيف صار رحيل الشباب حدثا عاديا لا يثير الأسى؟

القطراوي: كل موت، مهما كان عمره، هو حدث هائل يُخلّد في الذاكرة، لكن مع تضخّم الموت، أصبح رحيل الشباب أمرا عاديا، ولم تعد الصحافة أو المجتمع يعلقون عليه بذات الكلمات المفجعة التي تُستخدم لوصف النساء والأطفال، ربما لأن المجتمع أصبح يواجه استنزافا مستمرا لكل فئة عمرية، فصار الشباب جزءا من الخسارة اليومية المألوفة، وكأنهم "خلفية ثابتة" في المشهد المأساوي.

هذا لا يعني أن المجتمع فقد شعوره بالأسى تجاه الشباب، بل أن الصدمة والإجهاد النفسي المتواصل قللا من قوّة الحزن على فقدان الشباب، وهذا ما أثار لديّ الأسى، أنه في سياق الحرب اليومية صار رحيل الشباب حادثة متكررة مألوفة محكومة بالقدرية، بينما يرسّخ الإعلام في الوعي الاجتماعي موت كالنساء والأطفال حدثًا ضخمًا، لاستجلاب الشفقة والتعاطف، كأن الشباب يتحمّلون الموت أكثر.

تدوين: كتبت أن الفلسطيني يحتاج لأكثر من قلب، واحد للعيش والبقية لتحمل الوجع، ما الذي يدفع المرء لتمني المستحيل كي يظل حيا؟ أهي غريزة البقاء، أم كانت مجرد صورة بلاغية لوصف حجم الألم؟

القطراوي: قلت إن الفلسطيني يحتاج أكثر من قلب واحد ليعيش والآخر لتحمّل الوجع، نتيجة لكثرة الصدمات النفسية والصور الذهنية المفجعة التي يعيشها الفلسطيني في هذه المدينة، والتي لا يستطيع قلب واحد تحملها، هذه العبارة كانت صورة بلاغيّة لوصف حجم الوجع والمأساة التي نعيشها، أي قلب قادر على تخزين كل هذه البلايا، وكل هذه الأحزان.

تدوين: يظهر في كتاباتك تركيز واضح على الأسرة، ووحدتها، وتكامل الأدوار بين أفرادها، رغم الخراب العام وتبدل كل المفاهيم. كيف تعاملت مع هذه الفكرة كأب ورب أسرة؟ وكيف يمكن للأسرة أن تصمد في وجه المقتلة؟ وما القيمة التي أردت ترسيخها من خلال إبراز هذه المؤسسة؟

القطراوي: كأب ورب أسرة، وجدت نفسي أمام معادلة صعبة، كيف أحمي أبنائي من الموت وأنا لا أملك وسيلة؟ وكيف أُبقي جذوة الأمل فيهم مشتعلة وأنا أتآكل من الداخل؟ لم يكن لدي سوى خيار واحد، أن أجعل من وحدة الأسرة حصنًا داخليًا، أن أقنعهم ونفسي بأننا معًا نستطيع أن نحتمل ما لا يُحتمل، صار التكامل بين الأدوار ضرورة وجودية، الأم تُسكّن الوجع، الأب يُشعِر بالأمان، الأبناء يصنعون الضحكة والمفاجآت الصغيرة، حتى في أحلك اللحظات.

في وجه المقتلة، الأسرة تصمد لأنها تتحول إلى معنى للحياة، نأكل معًا ولو فتاتا، نضحك معا ولو وسط الدموع، نخطط لمستقبل ولو بدا مستحيلا، الأسرة ليست فقط ملاذا عاطفيا، بل وسيلة مقاومة، لأن بقاءها متماسكة يعني أن آلة الحرب لم تنجح في سحق المعنى الأخير للحياة.

"بقاء الأسرة متماسكة يعني أن آلة الحرب لم تنجح في سحق المعنى الأخير للحياة."

تدوين: في إحدى القصص التي وثقتها، تحدّثت عن قرارك بأكل "الأندومي" بعدما كنت ترفضه وتمنعه عن أبنائك، مستشهدا بقول ماركيز: "لا خبز سيئ وقت الجوع"، ومشيرا إلى شعورك بانكسار سلطتك الأبوية في تلك اللحظة. وفي غالبية تدويناتك المرتبطة بالمجاعة، كنت تركز على ضرورة الحفاظ على التماسك أمام أبنائك، وألّا يرى الأطفال جوع أبيهم. ما الذي يعنيه لك هذا التوازن بين احتياجك الإنساني كفرد ودورك الأبوي؟

القطراوي: في الظروف العادية، يمتلك الأب "سلطة رمزية" يرسم الحدود، يحدد ما يُؤكل وما يُرفض، يحمي أبناءه من النقص. لكن في المجاعة، تنكسر هذه السلطة، تكتشف أنّك لا تملك سوى أن تشاركهم لحظات الضعف. لحظة الأندومي كانت بالضبط هكذا، لم يعد في يدي خيار أن أختار أو أقرر، بل أن أتنازل عن قناع القوة لأبقى قادرًا على الاستمرار معهم، التوازن ليس سهلاً. كفرد، أنا جائع، محطم، أريد أن أصرخ أو أبكي أو أستسلم، لكن كأب عليّ أن أُخفي هذه الرغبة، أن أبتلعها، حتى لا يرى أطفالي صورة اليأس في وجهي، وفي الوقت نفسه، لا أستطيع أن أتظاهر أمامهم دائمًا بالقوة الكاملة، لأنهم سيرون هشاشتي مهما حاولت. فكان الحل أن أجعل تماسكي فعل مشاركة، أن أُظهر لهم أنني جائع مثلهم، لكنني ما زلت أضحك معهم، أنني مُنهك لكنني أحتضنهم، أنني أتنازل عن "قوانين الأب" القديمة لأبقى جزءًا من جماعتهم الصغيرة في هذا الحصار.

بالنسبة لي، هذا التوازن يعني أن الأبوة لم تعد سلطة، بل شراكة في الوجع، أن الأب الحقيقي ليس من يملك دائمًا أن يوفر، بل من يعرف كيف يظل واقفًا بجانب أبنائه حين يفقد القدرة على توفير كل شيء، في هذه اللحظة، تتحول الأبوة من صورة قوة إلى صورة تضامن، ومن مكانة فوقية إلى مساواة في الخوف والجوع والصمود.

تدوين: في إحدى تدويناتك، عرضت للبيع الكرامة، الأحلام، قلادة أمك، صور الأصدقاء، الحارة والذكريات.. مقابل كسرة خبز، دواء، وخيمة تقي من البرد. ما الذي يدفع الإنسان للتخلي عن حاجاته الروحية والمعنوية بهذا الشكل؟ وهل يمكن اعتبار ذلك شكلا من أشكال استسلام الروح في سبيل بقاء الجسد؟

القطراوي: التخلي هنا ليس اختيارا واعيا بقدر ما هو صرخة، أن أتنازل عن الرموز التي كانت تمنحني معنى، مقابل فتات يضمن لي يومًا إضافيًا من الحياة، الأمر أقرب إلى مقايضة غير عادلة يفرضها الواقع، أن أُسلّم كل ما هو عميق في داخلي، كي أشتري الحد الأدنى من البقاء.

هذا التخلّي الرمزي ليس استسلامًا للرّوح، بل بعثا لها، الإنسان حين يكتب عن التخلّي، ويصرّ على تسميته وفضحه، فإنه يُثبت أن الروح ما زالت تقاوم، هذا الوعي نفسه هو شكل من أشكال المقاومة.

ما يدفع الإنسان إلى هذا التخلي هو غريزة البقاء، لكن تسمية الخسارة والاعتراف بمرارتها هما ما يمنعان الروح من أن تستسلم كليًا، الجسد يبقى بالخبز والدواء، لكن الروح تبقى بالذاكرة والقدرة على على البعث بعد كل موت مؤقت.

"أن أُسلّم كل ما هو عميق في داخلي، كي أشتري الحد الأدنى من البقاء... هذا التخلّي الرمزي ليس استسلامًا للرّوح، بل بَعثٌ لها."

تدوين: في بعض تدويناتك وقصائدك، كشفت عن أشياء صغيرة تودّ فعلها بعد انتهاء الحرب، وكأنك نادم على تفويت لحظات بسيطة: كأن تبتسم لفتاة، أو تشتري قرطاس بوظة، أو بنطالا ممزقا. كيف تعيد الحرب تشكيل الذاكرة، فتجعل من تفاصيل يومية عابرة أمنيات مؤجلة؟ وهل هذه واحدة من دروس الحرب؟

القطراوي: الحرب تجعل الذاكرة تعمل بطريقة انتقائية، فهي لا تحتفظ بالبطولات الكبرى بقدر ما تتشبث باللحظات الصغيرة التي أفلتت، كأن العقل يقول؛ "هناك حياة كاملة كنتَ تملكها ولم تُقدّرها"، فيحوّل ما هو يومي وعادي إلى كنز مفقود، ولهذا حين نكتب عن الأمنيات بعد الحرب، لا نحلم بامتلاك العالم، بل بقطعة بوظة أو نزهة صغيرة، لأن قيمتها الآن أصبحت بحجم النجاة.

وهذا بالفعل واحد من أقسى دروس الحرب، أنها تُرينا هشاشتنا، وتعلّمنا أن الحياة ليست في الأحداث الكبيرة، بل في التفاصيل الصغيرة التي نستهين بها، الدرس ليس رومانسية مبالغًا فيها، بل إدراك عميق أن للمعنى، وأن التفريط في هذه اللحظات كان شكلاً من الغفلة.

دروس الحرب أكبر من ذلك بكثير، دروس الحرب تكمُن في لحظة عناق أجلناها، وكل قبلة لم نضعها على جبين حبيب، وصار علينا أن نضع بدلا منها وردة على قبره، وكل لحظة حُزن كان يُمكن تفاديها، وكل لحظة غضب غير مستحقة، إن أكبر درس يًمكن تعلّمه من الحرب أن العُمر أقصر من إضاعته في الكراهيّة، فإن كان علينا أن نصنع من خلاله شيئًا، فليس أعظم من الحُب.