الأربعاء  03 أيلول 2025

العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين

2025-09-02 05:17:47 AM
العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين
محمود درويش

تدوين-فراس حج محمد

يحضر محمود درويش في سياقات هذه الحرب الممتدة منذ السابع من أكتوبر 2023، ويستعيده الكتّاب والفنانون على الرغم من رحيله الذي يزداد كل عام، إلا أنه يظلّ أقرب ما يكون، ويحيلون قراءهم على أشعاره التي تنطق بالواقع المكرر منذ أيام بيروت (1982) وحتى اليوم، وكأنه لا شيء جديد، بل إن المأساة تفرّخ نفسها بأفظع مما كانت عليه تلك الأيام، وأفردت له مساحة لهذا الغرض في كتابي الجديد: "الصوت الندي: تأملات في الأداء والأغاني" الصادر حديثا عن دار الرعاة وجسور رام الله وعمّان.

في عام 2024 يصدر للناقد السوري صبحي حديدي كتاب يجمع فيه شتات مقالاته ودراساته عن درويش سمّاه "مستقر محمود درويش: الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ" مع أن دالّ "مستقر" ذو مدلول يوحي بالثبات وعدم الحيوية، تعادل "المثوى الأخير"، وفيه من معنى "الإقبار" أكثر مما فيه من معنى "الإكبار"، فكأن هذا الكتاب آخر سهم يطلقه حديدي مع تنهيدة راحة إلى غير رجعة، متخلصاً من عبء صداقة دامت طويلاً، فما بين السطور يقول إن حديدي قد ضاق ذرعا بهذا الإرث، وحان الوقت لإزاحته عن كاهليه، وتناولت هذا الكتاب بمقالتين موسعتين، ناقشت فيهما الكتاب ومنهج حديدي النقدي والتأليفي، كتابة لم تعجب حديدي بالتأكيد وتجاهلها تماماً، ولم يشر إليها لا من قريب ولا من بعيد على حسابه في منصة (X) شأنه في ذلك شأن كثير من الكتاب يتجاهلون أية كتابة تنتقدهم، وقد تحدثت عن هذه الظاهرة في كتابة سابقة.

كتبت في كتاب حديدي مقالين ونشرا في أوقات متباعدة، أشار إلى المقال الأول "متلازمة محمود درويش: صبحي حديدي نموذجاً" الإعلامي سليمان المعمري عندما ناقش الكتاب في حلقة خاصة ضمن برنامجه "كتاب أعجبني" (حلقة 1008، 7/3/2025) ومنشورة صوتيا على موقع البرنامج في منصة (Sound Cloud).

يستضف المعمري في هذه الحلقة الكاتب التونسي نصر سامي، ويقول الأستاذ الضيف كلاما شبيها لما قلته في المقال. بعد أن يورد أمثلة من كتاب حديدي، تتفق مع ما جاء في المقالة: "هذه صفات غير نقدية، ماذا سنستفيد نحن أنّ شيئا عالٍ أو متوسط أو واطئ، ليس هذا ما نريده، نحن نريد عملية تفكيك، عملية بحث في الخطاب نفسه، للوصول إلى نتائج من طبيعة الحديث دون أن نطلق ذلك التفخيم الذي لا أعرف ماذا يفيدنا".

وفي منتصف هذا العام (2025) يصدر العدد العاشر من مجلة "هوية" العراقية، وهي مجلة فصلية ثقافية، تخصص هذا العدد لفلسطين تحت عنوان "فلسطين وطنا للتفكير"، ويحضر درويش فلسفيا ضمن مناقشة البعد الوجودي في ديوانه/ قصيدته الجدارية في مقال كتبته خاص للمجلة بعنوان "محمود درويش في دائرة الفعل الوجودي"، حيث ربطت أفكار الجدارية ببعض أفكار الفلسفة الوجودية وخاصة عند سارتر، ومناقشة أفكار: الخلود، والموت، والحياة، والعودة من الموت.

وعدا هذا وذلك فإن درويش يعاد ويستعاد مع كل ذكرى للرحيل، فتخصص صحيفة القدس الفلسطينية صفحة كاملة في عددها الصادر يوم الثلاثاء (13/8/2025)؛ للاحتفاء بذكراه يشارك فيه كتاب وصحفيون.

إن الحديث عن درويش في ذكراه، يتعدى مفهوم الاستعادة إلى ما هو أشد وضوحاً من ذلك، إنه تأكيد الحضور بالاستمرار المشعّ في الذاكرة الجمعية والفردية والسياق السياسي والثقافي وربما الاجتماعي، مع أن هناك في أوساطنا الثقافية من يلمز درويش، ويفضل عليه- على سبيل المثال- أدونيس، كما حدث في واحد من اللقاءات التي جمعتني مع أحد شعرائنا الفلسطينيين الذي أحلّ أدونيس محلاً أرفع مما ينبغي أن يكون فيه معتبرا إياه عظيماً، ودرويش مجرد شاعر، مع أن درويش تجاوز حدود كونه "كاتب شعر" إلى أحد صنّاع "السياسة الشعرية العربية المعاصرة" إلا أن هذه الشخصية القيادية الفلسطينية، وهو شاعر بالمناسبة، ترى مثلا في تعاون أدونيس مع المخابرات المركزية الإمريكية في تمويل مجلتي "شعر" و"مواقف" أمرا هيناً، ولم يقف كثيرا عند ذلك، فكان الدفاع عن أدونيس أنه لم يكن يعلم، أكان أدونيس مغفلا إلى هذا الحد الساذج؟

أنا لا أظن ذلك، بل لديّ قناعة أن أدونيس أحد أؤلئك الذين عملوا تحت إشراف المخابرات الأمريكية ليستفيد منها، محققا رؤيته الشعرية والنقدية التي ما فتئ فيها مهاجما تاريخ الإسلام قبل تاريخ المسلمين، متطلعا لنوبل للآداب، وكل مهتم بهذا يعرف عن أدونيس هذه السقطة الثقافية، مع أنه أخذ يتبرأ في السنوات الأخيرة من هذا الحلم الذي داعب خياله كثيرا، وأسال لعابه في سنوات متعددة، مدعيا أنه مقروء في الصين أكثر مما هو مقروء عند العرب أو في اللغات الأخرى.

يأتي هذا الحديث عن أدونيس ودرويش وتلك الشخصية القيادية تعلي من شأن الكتاب الذي أنجزته الباحثة البريطانية الشابة فرانسيس ستونر سوندرز (ف. س. سوندرز) ، وتشيد به إشادة كبيرة جدا "الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب"، وقد ترجمه طلعت الشايب، وصدرت منه طبعة رابعة عربية تحت عنوان "من دفع للزمار: الحرب الباردة الثقافية".

على أية حال، ليس مهمّاً كثيراً هذا الآن، ولكن يكفي أن نرى هذه الظاهرة أمرا طبيعيا في سياق التنافس الثقافي الإبداعي على الحضور والمكانة الثقافية. وما يؤكد ذلك أننا في هذه الجلسة التي امتدت طويلاً، ذُكر فيها درويش عرضاً أيضا، فقد حل في المرتبة الخامسة مثلا في انتخابات اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في بيروت لم أعد أذكر أي سنة كان هذا، إنما كان قبل العودة الأوسلوية الناجزة عام 1994. لا أحد عاقلاً يعوّل على الانتخابات، فبإمكانها أن تنصب من هو أقل شأناً من درويش ومن غيره، وليس هذا محل استرسال وتوضيح لكن نتائج الانتخابات لم تكن ولن تكون دليل إبداع أو قوة أو ضعف، خاصة في حالتنا الفلسطينية المتعثرة، مع أن ذلك لا يعني أن كل من يفوز بانتخابات نقابية هو بالضرورة الأقل شأناً، إنما لكل حادثة قوانينها وحيثياتها وليست أمرا عاما، ينسحب على أية انتخابات.

في هذه الكتابة أود أن أعيد التذكير بعلاقتي المستمرة بأشعار الشاعر درويش، وهذه العلاقة لا تعني أنني لم أقل رأيي فيه أحياناً منتقدا، ففي أحد المقالات التي تناولت فيها الجدارية، رأيت فيها درويش "صانع شعر وليس شاعراً"، وسألت الدكتور عادل الأسطة: "هل ترى أن التناص في الجدارية ضد الفن؟". فأجابني: "لا. محمود درويش ممتلئ بنصوص وجدت نفسها إلى مطولته". وأضاف موضحاً: "لا أتفق معك. عاش درويش تجربة الموت وحين صحا من العملية كتب تجربته، ولا أظن أنه تكلف الكتابة، واستحضر النصوص استحضارا مفتعلا متكلفا َ. امتلأ الإناء ففاض بغنائية قل وجودها في الشعر العربي".

أما الشاعر صلاح أبو لاوي، فعلق على موضوع الجدارية في مقال "جدارية محمود درويش بين قراءتين" ورأيي فيها بقوله: "كلام جريء قلما يفعله ناقد عربي مع نصوص درويش، فما بالك وأنت ناقد فلسطيني. أحييك على هذا المقال، ليس لأنه تناول درويش، فلا مشكلة لديّ معه، بل لأننا نحتاج إلى ناقد حقيقي لا يجامل النص ولا يتحامل عليه أيضاً. ويضيف أبو لاوي: "دهشت حين قرأت ما كتبه المستشرق بلاشير عن المتنبي، وكان يصف بعض قصائده في المديح بالتافهة، حرفياً هكذا، وتمنيت لو كل نقادنا يتناولون الأعمال بتجرد كامل غير آبهين لنجومية الكاتب أو تبعات ذلك. طبعاً لا بد من القول إن بلاشير أيضا مدح الكثير من قصائد المتنبي حين كانت تستحق ذلك".

وخلال قراءتي روايتي عزمي بشارة "الحاجز" (2004) و"حب في منطقة الظل" (2005)، بدا لي أن بشارة ليس على علاقة طيبة بأشعار درويش، فيومئ لها من طرف خفي لامزا بها، وقد شرحت ذلك بشيء من التفصيل في كتابة غير هذه؛ أتناول فيها عالم بشارة الأدبي، ستصدر قريباً بعون الله في مجلة عربية فصلية، ففي رواية الحاجز ذات التسعة وخمسين فصلا، يستهل بشارة كثيراً من فصولها باقتباسات استهلالية متعددة، لم يكن لدرويش حضور فيها إطلاقاً، على الرغم من أن د. عزمي بشارة أفسح المجال لكثيرين ليكونوا في هذا الموقع المهم في روايته، ومنهم يهود صهاينة، وشعراء أقلّ من درويش حضورا وأهمية وتنوعاً فنيا وموضوعياً، فكما أن للحضور دلالة، فللغياب دلالة مساوية أيضاً، وربما قال الغياب أكثر مما يقول الحضور.

وليس هذا وحسب بل يتناص بشارة مع بعض أشعار درويش تناصاً سلبياً في رواية "حب في منطقة الظل"، ولعلّ عمل بشارة هذا يؤسس لدراسة بحثية جادة تتبّع حضور درويش "السلبي" عند المبدعين العرب والفلسطينيين، فقد لاحظت شيئاً من ذلك عند بعض المبدعين الروائيين، وأظن أنها مسألة تستحق البحث، لأنها خارجة عن سياق "المبدع الكبير الذي لا يُنتقد وله صورة مثلى عند الكتاب جميعاً". ولأنها أيضاً تعيد درويش إلى الواقع الحقيقي لتنقذه من عالم الأسطورة المبالغ فيه الذي يحاول المأخوذون بسحره أن يضعوه فيه كما فعل المشاركون في "تقرير صحيفة القدس الفلسطينية"، وليس هذا وحسب، بل إن الصحيفة نفسها عندما أعدت تقريرا مماثلا استذكارا للشاعر سميح القاسم في عددها الصادر بتاريخ (14/8/2025)، لم يتخلص البعض من "متلازمة درويش" ليقرأ أحدهم سميح القاسم ويحتفى به في ظل الوهج الدرويشي في حين لم يذكر مع درويش أحد سواه في التقرير إلا إذا كان تعدادا للشعراء الآخرين المجايلين له.

هذا الوهج الدرويشي مسألة أخرى، وهي مانعة لتدفق الإبداع الشعري الفلسطيني، وتحرم الكثير من الأصوات بهجتها وبصمتها، وهذه جريمة أخرى غير معلنة، لا يجدها القارئ مع الرواية أو القصة القصيرة أو أي فن من فنون الثقافة الفلسطينية، لأنه لا يوجد صوت سردي مهيمن كما هو درويش المهيمن شعرياً، فتعددت الأصوات الروائية واقستمت المساحة والحضور على نحو أكثر عدالة من الحضور والتنوع الشعريين. وللأسف لقد أسهم الشعراء والنقاد والروائيون والصحفيون والإعلاميون والتربويون والجامعات والمدارس بصنع هذه الهالة التي لا يشك بجدارة صاحبها الشعرية، لكنها متهمة لأنها لا تمنح الآخرين حق التوهج، وكأننا شعب عاقر شعرياً، كما نحن مصابون بالعقم السياسي سواء بسواء، فليس من الحق والعدالة الثقافية والنقدية أن يقارن كل شاعر بدرويش، وكل نص بأحد نصوص درويش وكأنه "مدونة الشعر الفلسطيني الأساسية التي ينبثق منها كل شعر". هذا ما يفعله بعض النقاد الكلاسيكيين للأسف مرة أخرى. فأين ما أكله درويش من نصوص الآخرين ليصنع عالمه، أم أن للشاعر الرمز حق أكل الآخرين دون أن يُحاسب، وأما الآخرون فمن حقهم فقط أن يقاسوا بالمسطرة الدرويشية؟

هل سيُغضب هذا السؤال المرضى المصابين بمتلازمة درويش، فليغضبوا، ولكن قبل أن يغضبوا عليهم أن يدركوا أن ثمة مسألة أخلاقية تنتظرهم، بل وتاريخية، فليس من مصلحة الشعب الفلسطيني الثقافية أن يتحوصل الشعر في "قوقعة درويش"، فثمة جيل جديد من الشعراء والشاعرات يستحق الاهتمام لما في منجزهم الشعري من تنوع فني ومدرسي وحساسيات لافتة، فهل ينتظر نقادُنا الأكارم الدارسين الأجانب ليحتفوا بأحدهم لينتبهوا له ويمجدوه؟