تدوين-ذاكرات
وصل اليوم الإثنين، 22 أيلول 2025، رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، إلى نيويورك، للمشاركة في أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، ليكون بذلك أول رئيس سوري يخاطب المنظمة الدولية منذ عام 1967.
وتُعد هذه المشاركة خرقا لعرف دبلوماسي سوري استمر لأكثر من خمسة عقود، إذ امتنعت دمشق، منذ حرب حزيران وما أعقبها من احتلال إسرائيلي للجولان، عن الانخراط على مستوى رئاسة الدولة في فعاليات الجمعية العامة، احتجاجا على ما اعتبرته انحيازا ممنهجا من قبل المؤسسات الدولية لصالح الاحتلال.
وتأتي زيارة الشرع إلى الولايات المتحدة في ظل سلسلة من الاجتماعات بين وفدين سوري وإسرائيلي، تُعقد برعاية أمريكية، ضمن مساع للتوصل إلى اتفاق أمني بين الجانبين، في خطوة تعكس التحولات العميقة التي تشهدها السياسة السورية في عهده، سواء على صعيد التحالفات أو الأولويات الإقليمية.
في هذا السياق، تكتسب إعادة نشر الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس السوري الأسبق نور الدين الأتاسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عقب نكسة حزيران 1967، أهمية استثنائية، بوصفه آخر خطاب رئاسي سوري يُلقى في هذا المحفل الدولي قبل القطيعة الطويلة. ويُذكر أيضا أن الأتاسي كان أول رئيس سوري يتوجه بكلمة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
يمثل ذلك الخطاب وثيقة سياسية تعبر عن الموقف السوري آنذاك من العدوان الإسرائيلي وداعميه الدوليين، وتدافع بشدة عن حق الشعوب العربية في السيادة، والاستقلال، ورفض منطق الاحتلال والقوة وشرعنة الغزو.
فيما يلي النص الكامل لكلمة الرئيس الأتاسي، كما ألقاها في الجلسة الطارئة المنعقدة بتاريخ 20 حزيران 1967:
سيدي الرئيس،
اسمح لي أن أعبر عن خالص شكري لكم، ولكل من ساهم في الانعقاد السريع لهذه الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة، بهدف معالجة الوضع الخطير الناجم عن الاحتلال الإسرائيلي-الاستعماري لأراض جديدة من وطننا العربي، ولإدانة هذا العدوان وتصفيته دون قيد أو شرط بجميع نتائجه.
نحن هنا لنعبر عن ثقتنا في الضمير الدولي المتمثل في هذه الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إن شعبنا العربي، وكذا جميع الدول الصغيرة المحبة للسلام في العالم، ينظرون إلى هذه الدورة باعتبارها الأمل الأخير لانتصار القانون والعقل والعدل على قانون الغاب والغزو ومنطق القوة.
لم يتمكن مجلس الأمن من أداء مسؤولياته في إدانة العدوان الإسرائيلي، ولا في إصدار أمر بانسحاب القوات الإسرائيلية، ولا في تصفية نتائج هذا العدوان، بسبب العرقلة التي قامت بها المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.
لا أرغب في استعراض القائمة الطويلة للعدوان الإسرائيلي الذي لم يتوقف تقريبا منذ عام 1948؛ ولا أرغب في التوقف عند معاناة الفلسطينيين العرب الذين تم طردهم من ديارهم. لقد دُمّرت البلدان العربية المجاورة، واستُنزفت طاقاتها في الدفاع عن النفس ضد أذرع العدوان الإسرائيلي المتحركة. هذا الوضع يعيق تقدم وطننا؛ ويؤخر تعزيز اقتصادنا ورفع مستوى معيشة شعبنا.
كل ما أرجوه هو أن تطلعوا على سجلات هذه المنظمة وهيئاتها المختلفة، لتدركوا العدد الهائل من الاعتداءات التي تعرض لها شعبنا العربي من قبل إسرائيل، والإدانات المتكررة والقرارات العديدة التي تبناها مجلس الأمن والجمعية العامة وهيئات الأمم المتحدة في المنطقة. لم تلتزم إسرائيل بأي من تلك القرارات؛ ولم تُعر اهتماما لتلك القرارات الصادرة عن أعلى الهيئات الدولية، والتي تعكس الضمير الدولي.
ومن المهم في هذا السياق، أن جميع الاعتداءات الإسرائيلية الكبرى وقعت في أوقاتٍ كان فيها الصراع محتدما بين الشعوب العربية والمصالح الاستعمارية.
وهذا يوضح العلاقة الوثيقة بين الاستعمار والصهيونية، وتنسيق تخطيطهما وأهدافهما. وأفضل دليل على ذلك هو العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والذي استهدف شعبنا العربي في مصر فقط لأنهم في ذلك الوقت اختاروا طريقا تقدميا، في ظل نظام وطني ملتزم بتحقيق أهداف الجماهير واحتياجاتها.
لقد أدانت هذه المنظمة في حينها ذلك العدوان، وكرّست بذلك ثقة العالم بها، ورفضت منطق القوة والغزو، وأكدت حق الشعوب الصغيرة في التطور بحرية وسلام. وكان هذا الموقف آنذاك انتصارا تاريخيا للضمير الدولي وقوى الخير والحرية والسلام.
لكن وتيرة العدوان الإسرائيلي اتخذت منحى تصاعديا منذ ذلك الحين. فقد استهدفت هذه المرة المنطقة السورية العربية تحديدا. فقد تعرضت مشاريع التنمية والأعمال المدنية العام الماضي لقنابل النابالم الإسرائيلية. وتهدمت أسقف المنازل فوق رؤوس الأطفال وكبار السن بسبب القصف الإسرائيلي. وقد وقع ذلك في 14 يوليو 1966.
وعلى الرغم من الأدلة الدامغة على هذا العدوان المتعمد، وتقارير رئيس هيئة مراقبة الهدنة التابعة للأمم المتحدة (UNTSO)، فقد منعت بعض القوى الكبرى التي تحمي إسرائيل وتشجع سياساتها العدوانية، مجلس الأمن في ذلك الوقت من إدانة هذا العدوان. ولم تمضِ فترة طويلة حتى تعرضت قرية السموع العربية لغارة تدميرية متعمدة، اعتبرها المعتدون مجرد عرض لإظهار قوتهم وقسوتهم، على حساب معاناة النساء والأطفال وكبار السن.
ثم جاء العدوان في 7 أبريل من هذا العام على سوريا، حيث وصلت الطائرات الإسرائيلية إلى سماء دمشق، ودمرت القرى الآمنة في المنطقة الحدودية عبر قصفٍ كثيف، دون خوف من أي إدانة دولية. وقد شجع ذلك المعتدين على التخطيط لتنفيذ العدوان الشامل الأخير، الذي تواجه هذه المنظمة اليوم عواقبه.
على الرغم من الدعاية الصهيونية المكثفة التي تهدف إلى خداع الرأي العام العالمي، فإن السلطات الإسرائيلية المسؤولة لم تُخفِ نواياها العدوانية، حيث أعلنت مرارا أنها تنوي احتلال دمشق وإسقاط نظامها التقدمي
وعلى الرغم من الدعاية الصهيونية المكثفة التي تهدف إلى خداع الرأي العام العالمي، فإن السلطات الإسرائيلية المسؤولة لم تُخفِ نواياها العدوانية، حيث أعلنت مرارا أنها تنوي احتلال دمشق وإسقاط نظامها التقدمي. بل وادعت أنها محمية من قبل الأسطول السادس الأمريكي.
وعقب كل تلك التهديدات، وخاصة بعد أن تبين أن هناك تعزيزات إسرائيلية ضخمة على خطوط التماس معنا، بادرنا إلى تنبيه جميع الدول التي تربطنا بها علاقات دبلوماسية. وطلبنا من الدول المحبة للسلام أن تحذر الرأي العام العالمي من العدوان الذي كان يُحاك ضدنا. وأكدنا، بصدق وأمانة، حرصنا على الحفاظ على السلام وإنقاذ العالم من ويلات الحرب ومعاناتها. وقدمنا تعهدات بعدم بدء أي عدوان بأي شكل من الأشكال، وأننا سنلتزم بموقف الدفاع عن النفس. وكان هذا الموقف نابعا من إيماننا العميق بالسلام، ووعينا الكامل بمسؤوليتنا التاريخية تجاه شعبنا وشعوب العالم. وقد عكس هذا الموقف حرصنا اللامحدود على سلامة حضارة عظيمة بُنيت على مر الأجيال، وعلى مكتسبات التقدم التي لا يجوز تدميرها.
كنا ندرك تماما أن الحروب في ظل الظروف الدولية الراهنة من الصعب جدا حصرها في منطقة واحدة، أو التنبؤ بمدى اتساعها وتأثيرها على بقية العالم. وربما يتذكر العديد من المندوبين الجالسين معنا هنا اليوم، من الشرق والغرب ومن دول العالم الثالث، كيف عبرنا لهم عن قلقنا إزاء اقتراب العدوان الإسرائيلي، الذي كنا نراه قادما بفضل خبرتنا الطويلة بطبيعة إسرائيل العدوانية التوسعية. حذرناهم في حينه من الدعاية الإسرائيلية، وأكدنا لهم أننا لن نبدأ بأي عملية عسكرية. ومن المؤسف أنه، رغم كل نوايانا الطيبة ونوايا الدول المحبة للسلام، لم نتمكن من إيقاف أولئك الذين قام وجودهم أصلا على العدوان.
إننا نحذر الجمعية العامة من أن تنخدع بالنداءات الزائفة للسلام، والتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الروتين الإسرائيلي.
لقد أثبت تاريخ إسرائيل خلال العشرين سنة الماضية، بما لا يدع مجالا للشك، أن إسرائيل تلجأ لمثل هذه النداءات فقط تمهيدا لعدوان جديد. هذا ما حدث قبل عدوان عام 1956، وهذا ما حدث أيضا قبل العدوان الأخير. ففي كلتا الحالتين، خدعت إسرائيل الرأي العام العالمي، مدعية أنها لا تنوي العدوان، ولا تحضّر للحرب. ولكن العالم كله شهد هجومها المباغت في 5 يونيو 1967.
لقد دفع الشعب العربي ثمن احترامه للرأي العام العالمي وإرادة منظمة الأمم المتحدة بدماء أبنائه، وممتلكاته المدمرة، وجزء من الوطن الذي استولى عليه المعتدي
نتيجة لذلك، دفع الشعب العربي ثمن احترامه للرأي العام العالمي وإرادة منظمة الأمم المتحدة. لقد دفع هذا الثمن بدماء أبنائه، ودفعه أيضا في الممتلكات المدمرة، والبلدات والقرى المحتلة، وجزء من الوطن الذي استولى عليه المعتدي. لقد كان الثمن فادحا نتيجة قبولنا لقرار وقف إطلاق النار، الذي انتهكته إسرائيل؛ ومع ذلك، لم يتم الحفاظ على السلام.
ومن الجدير بالذكر أنه عندما وافقت سوريا وإسرائيل على وقف إطلاق النار الذي أمر به مجلس الأمن، لم تكن القوات الإسرائيلية المعتدية قد احتلت بعد ذرة واحدة من الأرض السورية. بدأ الغزو الإسرائيلي لأراضينا بعد أن أبلغنا الأمين العام يو ثانت أننا أوقفنا إطلاق النار اعتبارا من الساعة 16:30 بتوقيت غرينتش، في 10 يونيو.
وقد حدث هذا الغزو بينما كان مجلس الأمن في حالة انعقاد، وبعد أن أصدر قرارا إضافيا بوقف إطلاق النار.
وقد تزامن هذا الغزو مع تكتيكات التأخير المتعمدة من قبل ممثلي الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في مجلس الأمن.
وبينما كان الغزو مستمرا، كان المندوب الإسرائيلي يقدم إلى مجلس الأمن معلومات كاذبة، ينكر فيها بشكل قاطع احتلال الأراضي السورية، وكذلك قصف دمشق.
وقد ناقضت هذه الادعاءات الإسرائيلية بشكل واضح تقارير رئيس لجنة الهدنة المشتركة وتقارير الأمين العام، التي أشارت إلى استمرار الغزو بعد صدور أمر وقف إطلاق النار.
بمعنى آخر، تم احتلال الأراضي السورية بعد أن وافق الطرفان على وقف إطلاق النار، وأثناء انعقاد مجلس الأمن.
تُثبت هذه الوقائع بما لا يدع مجالا للشك أن هدف كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كان منع مجلس الأمن من أداء واجباته، وذلك لإتاحة الفرصة لإسرائيل للاستمرار في غزو سوريا واحتلال أراضيها.
لقد تعرضت العديد من الدول في الماضي، ولا تزال العديد منها تتعرض الآن، لتدخل استعماري بأشكاله القديمة والجديدة. العديد منكم هنا يمثلون دولا ناضلت من أجل استقلالها. لم يكن لدى شعوب العالم الثالث التي خاضت هذا النضال ما يدعوها للشعور بالذنب؛ فقد رفضت ببساطة الهيمنة الاستعمارية، وكانت مصممة على أن تُسيّر حياتها بنفسها، وتحدد مصيرها في ظروف من الحرية التامة.
وقد اضطر العديد من شعوب العالم الثالث للنضال داخل بلدانهم ضد قوى استعمارية خارجية معتدية. كذلك، فإن نضالنا ضد القوى الإمبريالية قد فُرض علينا. وقد واجهناه بكل إصرار وإيمان، لأننا نؤمن إيمانا راسخا بالحرية وتقرير المصير.
فإذا كانت العديد من الدول الصغيرة قد عانت في الماضي، ولا تزال تعاني اليوم، من عدوان استعماري، كما هو الحال في فيتنام، حيث يقاتل شعب بطولي، قليل العدد، ضد قوى لا تعرف الرحمة، فإن الشعب العربي بلا شك يعيش تجربة خضوع لتحالف فريد من نوعه، غير مسبوق في طبيعته وحجمه. إنه التحالف الكامل بين الاستعمار التقليدي والصهيونية الدولية، كما تجسدت في إسرائيل.
هذا الاستعمار الجديد الإسرائيلي يقوم في جوهره على الإبادة الكاملة للشعب العربي، وإحلال عناصر غازية مكانه، كما حدث في فلسطين المحتلة، وكما يحدث الآن في الأراضي العربية المحتلة حديثا
والواقع أن هذا "الاستعمار الجديد" الإسرائيلي يقوم في جوهره على الإبادة الكاملة للشعب العربي، وإحلال عناصر غازية مكانه، كما حدث في فلسطين المحتلة، وكما يحدث الآن في الأراضي العربية المحتلة حديثا.
فالشباب يُجمعون في الأماكن العامة، وتُعصب أعينهم، ثم يُطلق عليهم الرصاص.
ويُجبر السكان العرب الآخرون على الخروج من الأراضي المحتلة ليتشردوا لاجئين بلا مأوى أو مأمن. وفي سوريا، بعد الأحداث الأخيرة، بلغ عدد اللاجئين ضمن هذه الفئة 40,000 لاجئ.
لقد حارب العرب في الحربين العالميتين، وساهموا في تحرير أوروبا من النازية، وفي تحقيق انتصار الحلفاء.
وكانت مكافأتهم تقسيما غير طبيعي لوطنهم، وتوزيع أجزائه إلى مناطق نفوذ مختلفة، وإنشاء إسرائيل على حساب الشعب العربي الفلسطيني.
لقد تكبد الشعب العربي خسائر هائلة خلال الحربين العالميتين. وبدلا من أن يُكافأ بالمساعدة على تحرير وطنه وتوحيده، طُلب منه أن يدفع ثمن جرائم النازية في أوروبا.
إن الوطن العربي هو مهد الديانات الثلاث. وهو مصدر التسامح، والمحبة، والإنسانية.
وعلى مر التاريخ، احتضن العديد من الأقليات، الوطنية والدينية، التي كانت مضطهدة في بلدان أخرى. وقد تعاونت هذه الأقليات مع شعبنا في إثراء وترسيخ التراث الإنساني.
وإن معاملتنا الطيبة لتلك العناصر التي تعيش بيننا، لا تبرر بأي حال من الأحوال اقتلاع شعبنا من أرضه ليحل محله آخرون.
أتساءل - ولا شك أنكم جميعا تتساءلون -: ما سيكون عليه موقف أي منكم لو فوجئ بإخراج عدد كبير من مواطنيه من وطنهم لإفساح المجال لشعب آخر؟
هل يقبل الأمريكيون، مثلا، بطردهم من إحدى ولاياتهم إلى الصحراء، لكي يعيش فيها أجانب؟ إذا لم يقبلوا بذلك، فلماذا يُطلب منا أن نرضى بما يرفضه الآخرون قطعا؟
هل قَدَرُ شعبنا أن يُضحى به من أجل خطيئة لم يرتكبها؟
إن ما ورد في الكتاب السنوي الإسرائيلي من أن "دولة إسرائيل يجب أن تمتد من النيل إلى الفرات"، يُثبت دون أدنى شك لماذا يجلس الغزاة الصهاينة اليوم على بعد خمسين كيلومترا من دمشق، ومئة كيلومتر من القاهرة، ولماذا طُرد السكان الأصليون من الأراضي المحتلة ليصبحوا لاجئين، ولماذا يُقتل الشباب بدم بارد.
إن الشعب العربي يتعرض اليوم بالفعل لعملية إبادة تتجاوز في حجمها ما فعله النازيون. إنه يعيش فعلا عملية استعمار مزدوجة تهدف إلى القضاء على وجوده كليا، وإخضاع ما تبقى منه للهيمنة الاستعمارية المباشرة.
إن الشعب العربي يتعرض اليوم بالفعل لعملية إبادة تتجاوز في حجمها ما فعله النازيون. إنه يعيش فعلا عملية استعمار مزدوجة تهدف إلى القضاء على وجوده كليا، وإخضاع ما تبقى منه للهيمنة الاستعمارية المباشرة.
إن المكاسب التي حققتها الجماهير العربية من خلال النضال، والإنجازات البناءة التي تحققت بثمن سنوات لا تُعد من الكدح والمعاناة والتضحيات المُرة، كلها أصبحت اليوم هدفا للإلغاء القاسي.
فالوطن العربي، بموقعه الاستراتيجي الهام، وبموارده النفطية، وثرواته الكامنة الهائلة، يُعتبر من قبل القوى الاستعمارية – وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا – منطقة نفوذ ومجالا لمصالح ضخمة قائمة.
ولحماية هذه المصالح، تستخدم الدول الاستعمارية كل الوسائل، دون تمييز.
إنهم يتآمرون ضد الشعب العربي، ويمارسون الضغط السياسي والاقتصادي، وحين لا تُجدي هذه الوسائل، يلجأون إلى الغزو المباشر، كما حدث في عام 1956، وكما يحدث الآن بطريقة خادعة، عبر وسيط هو إسرائيل.
يريد الاستعمار أن يستولي على المواد الخام في وطننا، وفي معظم بلدان العالم الثالث، بأرخص ثمن، ثم يصنعها ويعيد تصديرها إلى أسواق العالم الثالث بأعلى الأسعار.
هذه معادلة رهيبة. وللحفاظ على هذه المعادلة لصالحه دائما، يستخدم الاستعمار كل الوسائل.
إن النضال الجاري حاليا في الوطن العربي هو جزء لا يتجزأ من هذا النضال النبيل والمتصاعد، الذي تخوضه شعوب العالم الثالث ضد الإمبريالية وضد الاستعمار بجميع أشكاله ومراحله.
إنه نضال بين إرادة الحياة، والرغبة في التمتع بالحرية والكرامة، وحق شعبنا العربي في بناء دولته الحديثة الموحدة، من جهة، وبين مصالح الإمبريالية والصهيونية، التي تسعى إلى الإبقاء على التخلف والانقسامات الداخلية لأطول فترة ممكنة، من جهة أخرى.
نحن نقف في الخط الأول من معركة شعوب العالم الثالث. لقد عانينا من أعنف هجوم إمبريالي-صهيوني. كنا نرغب في بناء وطن حر، سيد، سعيد، وأن نرفع مستوى معيشة جماهيرنا، وأن نتعاون مع سائر الشعوب لبناء عالم يسوده الحب، والسلام، والرخاء.
إننا نخوض معركة فُرضت علينا داخل وطننا نفسه. لكنها في الحقيقة جزء من معركة كل الشعوب المحبة للسلام، التي تطمح إلى مستقبل خالٍ من التهديدات.
نحن نناضل من أجل أن يتحول وطننا العربي إلى سدٍّ منيع في وجه الغزاة الإمبرياليين، بين الدول الآسيوية والأفريقية.
لن نسمح بأن يُستخدم وطننا قاعدة لانطلاقة جديدة للإمبريالية ضد هاتين القارتين العظيمتين، أو أن يُستغل ضد الدول الاشتراكية وسائر الأمم المحبة للسلام.
وعلى هذا الأساس نرغب أن يُفهَم نضال شعبنا. ومن هذا المنطلق نعلّق أملا راسخا على أن أعضاء هذه الهيئة، بإرادتهم الموحدة، سيتمكنون من إدانة المعتدي وتصفيه آثار العدوان.
لقد جعلت الإمبريالية الأمريكية والبريطانية والألمانية الغربية من إسرائيل قلعة مسلحة بأشد الأسلحة تدميرا، لتكون حارسة لاحتكاراتهم النفطية في منطقتنا، وأداة لاستغلال شعبنا العربي وعرقلة تقدمه.
ولو أن شعبنا قبِل الخضوع للإمبرياليين وخططهم، لما كنا اليوم نشهد هذه المعركة بيننا وبين الاستعمار والإمبريالية.
لكن شعبنا لا يقبل بالذل ولا بالحياة الخالية من معنى الكرامة والاستقلال.
ونود أن نؤكد لأولئك الذين يفهمون حقائق التاريخ، أن نضال الشعوب لا ينتهي بقطع بعض الرؤوس أو استهداف بعض القيادات، بل هو نضال دائم ومرتبط ارتباطا وثيقا بوجود الأمة نفسها. فالشعوب الحية لا تعجز عن إنجاب القيادات والمواهب.
لقد سمعنا في الأيام القليلة الماضية، ونسمع اليوم، تصريحات رسمية من الحكومة الأمريكية. تسعى تلك التصريحات إلى فرض حلول تُشرعن العدوان وتبرّر منطق القوة. وهذا بحد ذاته دليل قاطع على أن الولايات المتحدة تبارك العدوان.
وإذا رضينا بهذه "الوصفة"، فإننا نكون قد حفرنا قبر هذه المنظمة، ودفنّا آمال كل الشعوب، وتجاهلنا معاناة وكوارث الحرب العالمية الثانية.
كما نكون قد تخلّينا عن النوايا النبيلة التي ألهمتنا حين أنشأنا هذه المنظمة، من أجل إنقاذ البشرية من شريعة الغاب، وتمكين الأسرة الدولية من العيش في ظل القيم الإنسانية العليا والمبادئ السامية.
فإذا قبلنا هذا المنطق، فإن ذلك يعني أننا نعترف بحق الأقوى في غزو أراضي الأضعف والاحتفاظ بها بالقوة. وهذا استنتاج مدمر لا يمكن لأي أحد أن يقبله.
وفي هذا السياق، نود أن نلفت الانتباه إلى أن هذه السوابق الخطيرة، إذا قُبلت، تعني تقويض ميثاق الأمم المتحدة وكل المبادئ السامية التي يتضمنها.
بل وأكثر من ذلك، فإنها تعني في نهاية المطاف تهديد استقلال كل دولة في العالم، لأن أمنها سيكون عرضة للغزو في أي لحظة.
لقد احتل هتلر، قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، معظم الدول الأوروبية. وقبله فعل نفس الشيء غزاة آخرون لا يعرفون الرحمة. لكن شعوب العالم لم تخضع يوما لإرادة الغزاة والمعتدين. لقد انتصرت إرادتهم في القتال والتضحية من أجل الحرية.
واليوم نواجه غزوا مشابها، من قبل مستعمرين صهاينة، لجزء من وطننا، عبر حرب مباغتة وعدوانية فُرضت علينا. وقد استخدمت خلال هذا العدوان وسائل محرّمة وغير قانونية.
ولا يسعني إلا أن أذكر، على سبيل المثال، القنابل الحارقة "النابالم" التي استُخدمت على نطاق واسع ضد المدنيين. وقد أُطلع الممثلون الدبلوماسيون لأكثر من أربعين دولة في دمشق على هذا القصف الإجرامي والمعاناة الإنسانية الفادحة التي خلّفها.
سيطّلع المندوبون بأنفسهم على صور ضحايا قنابل النابالم الإسرائيلية.
إننا نرفض رفضا قاطعا أي شروط أو نقاشات تُبنى على أساس الغزو. ونطالبكم بإدانة العدوان بشكل حازم، وتصفيه آثاره فورا.
ومن هذا المنطلق، نرحّب بمشروع القرار [A/L.519] الذي تقدّم به رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، السيد كوسيغين، والذي يدل على فهم عميق للأزمة وتقييم موضوعي نابع من إحساس بالمسؤولية ورغبة في السلام.
أما أي مقاربة أخرى أو "حلّ" يقوم على احتلال أرضنا، فسوف نرفضه رفضا قاطعا، لأننا نعتبر مثل هذا "الحل" خضوعا لمنطق القوة والغزو، وهو ما نرفضه تماما.
بل إن مجرد اقتراح مثل هذه الحلول يُعد إهانة للضمير الإنساني واستسلاما لمنطق العدوان.
تواجه الأمم المتحدة وضعا تاريخيا ومصيريا. فالمسألة لا تخص العرب وحدهم، بل تخص كل فرد في المجتمع الدولي، إذ قد تتعرض بلاده يوما ما لغزو مماثل.
ولذلك، فإن إدانة العدوان، وتصفية نتائجه، ومعاقبة المعتدين، لا يشكل فقط انتصارا للشعب العربي، بوصفه الضحية المباشرة، بل هو أيضا انتصار للمنظمة الدولية، ولمبادئ الأمم المتحدة، ولكل القيم الإنسانية العظيمة والسامية.
وقد يكون المندوبون قد قرأوا التحدّي الذي أطلقه وزير خارجية إسرائيل، حين صرّح أن حكومته لن تعير أي وزن لأي قرار تتخذه هذه المنظمة، حتى "لو صوّتت الجمعية العامة 121 صوتا مقابل صوت واحد لصالح عودة إسرائيل إلى خطوط الهدنة... فإن إسرائيل سترفض الامتثال لهذا القرار." وقد ورد هذا التصريح في صحيفة نيويورك تايمز، يوم الاثنين، 19 يونيو.
إن إدانة العدوان، وتصفية نتائجه، ومعاقبة المعتدين، لا يشكل فقط انتصارا للشعب العربي بوصفه الضحية المباشرة، بل هو أيضا انتصار للمنظمة الدولية، ولمبادئ الأمم المتحدة، ولكل القيم الإنسانية العظيمة والسامية
إن الموافقة على مشروع القرار الذي قدّمه الاتحاد السوفيتي ستؤدي إلى الحفاظ على السلام، وستحول دون انفجار جديد، لأن الشعب العربي لن يقبل أبدا بالاحتلال الأجنبي، ولأنه قادر، بإمكاناته الهائلة الظاهرة منها والخفية، السياسية والاقتصادية وغيرها، على وضع حد للعدوان. وحتى الآن، لم يستخدم الشعب العربي سوى جزء من هذه الإمكانات.
اسمحوا لي في الختام، السيد الرئيس، أن أتقدّم بالشكر بهذه المناسبة لجميع الدول الحرة في قارات العالم كافة، التي تفهّمت قضيتنا العادلة، ووقفت إلى جانبنا في محنتنا، وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي، والدول الاشتراكية، ودول عدم الانحياز. جميعها بذلت جهودا مخلصة مع باقي الدول المحبة للسلام، من أجل إدانة العدوان، وتصفية آثاره، والدفاع عن القيم والمثل الإنسانية والدولية الرفيعة.
يُذكر أن النص الكامل للخطاب منقول كما ورد في السجل الحرفي لاجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، الجلسة الطارئة رقم 1527، بتاريخ 20 حزيران 1967، والصادر تحت الرمز A/PV.1527، والمحفوظ في أرشيف الأمم المتحدة الرقمي