الأحد  02 تشرين الثاني 2025

المشهد الأدبي الفلسطيني بعد الإبادة: الصدمة كشرط للتحول (1/2)

2025-11-02 03:22:07 AM
المشهد الأدبي الفلسطيني بعد الإبادة: الصدمة كشرط للتحول (1/2)

كتاب فلسطينيون يسائلون جدوى الكتابة أمام الإبادة:

ماذا يمكن أن تحرك القصيدة أو اللوحة الفنية أو الأغنية في جمود العالم؟

هل سيصدق الناس ما نكتب؟

ما جدوى الكتابة أمام حجم المأساة؟

هل يستطيع الشعر وحده أن يعبر عن الكارثة؟

الجزء الأول من تقرير يرصد تحولات المشهد الأدبي الفلسطيني في زمن الإبادة وما بعدها.

تدوين-سوار عبد ربه

في حوار أجرته مجلة الهدف عام 2019 مع المفكر والناقد الفلسطيني د. فيصل دراج قال: "المشهد الثقافي الفلسطيني في انحسار منذ نهاية الثمانينيات، وما أن وصلنا إلى اتفاق أوسلو، حتى أصبح الحديث عن مشهد ثقافي فلسطيني ليس له معنى".

في حديثه، وضع دراج شرطا لعودة الإبداع الأدبي ضمن هذا المشهد الذي يرى فيه أنه بالأساس كلمة تميل إلى الصحافة العامة أكثر منها كمفهوم نظري سياسي، شرطا لازم الفلسطيني في محطات تاريخية حاسمة: من النكبة، إلى تل الزعتر، فالمخيمات. ذاك الشرط هو الصدمة، والتي بدروها دفعته لإنتاج ما أنتج ثقافيا.

نفى دراج آنذاك وجود صدمة، لكنه ترك الباب مفتوحا لاحتمال عودة الإبداع الأدبي إن وجدت. واليوم، بعد عامين من الإبادة الجماعية في غزة، وما رافقها من مشاهد ارتبطت في الذاكرة الجماعية للفلسطينيين بالنكبة، والتي شكل الأدب فيها جسرا بين الجيل الأول للنكبة، والجيل الرابع الذي تحول خلال العامين الماضيين، من متلق لتلك المشاهد إلى شاهد عليها، يمكن القول إن الفلسطيني اليوم، يعيش صدمة توازي صدمته الأولى، وربما تفوقها فظاعة.

من هنا، يصبح التساؤل عن شكل المشهد الأدبي الفلسطيني القادم سؤالا ممكنا، إذا ما أخذنا بشرط دراج مدخلا للقراءة ليس كإقرار بغياب المشهد الأدبي الفلسطيني، فهذا يبقى موضع نقاش لا يتناول عبر قراءة أحادية، إنما بوصف رؤيته نقيضا كاملا على الحضور. فاستدعاؤه في هذا السياق، يفتح الباب أمام سؤال جوهري: هل أعادت الإبادة الصدمة؟ وهل نحن أمام بداية مشهد جديد؟

يحاول هذا التقرير الإجابة عن السؤالين السابقين، من خلال رصد التحولات التي أحدثتها الإبادة في اللغة والوعي والكتابة لدى مجموعة من الكتاب الفلسطينيين. ولا يركز التقرير على مضمون النصوص الأدبية المنتجة خلال الإبادة، بل ينظر في التحولات التي طرأت على الكتاب أنفسهم: تأمل أدوارهم وفاعليتها وتحديد حدودها، بما أعاد إنتاج وعيهم الإبداعي، وعلاقتهم بالكتابة، وإدراكهم للمعنى والحياة، وتبدلات لغتهم بوصفها عوامل قد تسهم في رسم ملامح مشهد ما بعد الإبادة.

اختبار الصدمة.. هل تحققت؟

رغم أن التقرير لم يتوجه إلى الكتّاب التسعة الذين تحدث إليهم بسؤال مباشر عن الصدمة، لجعل الشهادات مفتوحة على التأمل أكثر منها إجابة محددة، إلا أن التوصيفات الواردة كشفت عن حضور عميق لما يدل بشكل قاطع على أننا أمام صدمة بدأت تتشكل، ليس فقط لمن كان على مسافة صفر من الإبادة وكتب أو حاول تحت النار، بل أيضًا للفلسطيني عامة، من غزة إلى الشتات، ومن جيل النكبة الثاني إلى الرابع.

في هذا السياق، تعبر الروائية والشاعرة د. وداد البرغوثي عن الصدمة بشكل صريح، قائلة: "أحدثت الإبادة صدمة عنيفة في الوعي السياسي والثقافي، وتبادرت إلى ذهني كثير من الأسئلة التي هزت ثقتي وإيماني تجاه الثقافة التي تلقيتها طول العمر وتجاه المثقفين والمؤسسات الثقافية التي كان المثقف الفلسطيني يحتفي بها ويشكل رؤى على ضوئها".

وتساءلت: "كيف يباد شعب بأقسى أنواع القتل ولا يتحرك المثقفون أو المستثقفون؟ كيف يهجر شعب وتهدم آلاف البيوت وآلاف الخيام فوق رؤوس أصحابها وتصمت المؤسسات الدولية؟ وكيف يسحق الأطفال بالمئات تحت قصف المدافع وتحت جنازير الدبابات ويصم العالم آذانه عن سماع الصرخات؟ ما نفع القصيدة واللوحة الفنية والأغنية وماذا يتحرك في جمود العالم؟ الإحساس بالعجز الذاتي والعربي والعالمي أمام نازية المستعمر يكبل اليدين".

ومن زاوية أخرى، يرى القاص والروائي عبد الله التايه أن هذه الأحداث شكلت حالة عجز يصعب التعبير عنها، قائلا: "الأحداث التي مضى عليها وقت طويل والتي لم نقرأ لها شبيها في كتب التاريخ ولا في التجارب الإنسانية كانت ولا تزال تجربة عميقة ومفاجئة وغريبة لا تستطيع لغة أي كاتب ولا قوة إبداع سرده أن تصف أو تعبر عما جرى ويجري. إنها كارثة يعجز القلم عن وصف أحداثها وفضح علو جبروت ما صارت إليه؛ كثيرون تحدثوا عن بعض مظاهرها من صحفيين وكتاب ومبدعين ومثقفين، لكن الحدث الكارثة أكبر كثيرًا من كل ما قالوه، وكل ما قيل ويقال لا يرتقي لحقيقة ما يحدث".

أما الكاتب والشاعر ناصر رباح فيسلط الضوء على التحدي الإبداعي في ظل الحرب، موضحا الفرق بين الكتابة في أوقات السلم والحرب: "الكتابة الأدبية بالأساس عمل من أعمال الثراء الفكري والرفاهية الذهنية، وتحتاج إلى زاد كبير ومستدام من التجربة والإدراك، وإلى فيض من التعرف على عوالم الآخرين كتبا وتجارب، وذلك للوصول بها إلى مقولات خاصة بأصحابها، وربما مختلفة ومتعارضة مع السياق الاجتماعي. أما في الحرب، ترتبك كل تلك المنظومة: فلا استقرار للتأمل، ولا وقت للكتابة، ولا جمهور للاستماع. من الذي يملك القدرة على التماسك أمام الدم والأشلاء والحطام لممارسة عمل الصياد النزق في تقييد فرائسه، إذا كان هو نفسه الفريسة الممزقة لحما وروحا؟".

وتعمق شهادة القاص والروائي عمر حمش هذه التجربة الفردية للعجز والدهشة، إذ يقول: "دخلت غزة هذه الحرب وأنا في طور كتابة رواية جديدة تتناول مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي وتسترجع النكبة. فاستنكفت فورا عن إكمالها، إذ بدا أمر الكتابة يماثل الرقص فوق القبور. مكثت أياما مذهولا قبل أن أستعيد جدوى الكتابة من داخل هذا الآتون. ولأن ما جرى لم يشابه لغة، كانت المفردات تقف خجلى في حلق القلم. جاء السؤال: ماذا أكتب؟".

أما الروائي والفنان التشكيلي الفلسطيني المقيم في لبنان مروان عبد العال فيصف لحظة التحول الإبداعي العميقة بقوله: "كانت الإبادة في غزة نقطة تحول عميقة في وعيي الإبداعي، بل لحظة انكشاف كامل لما يعنيه أن تكتب وأنت ترى توحش ما بعد الحداثة بصورة مباشرة".

وتؤكد الكاتبة والصحفية رشا فرحات محدودية الفعل الإبداعي أمام سرعة الإجرام، فتقول: "كل شيء تغير بعد الإبادة: نحن تغيرنا، وواقع الكتابة أيضا تغير. أصبح الأمر بالنسبة لي أكثر صعوبة، لأنني لم أعد أستطيع ملاحقة هذا الإجرام الذي أراه وأكتبه، فالحرب فاقت كل التخيلات وكل التصورات، لدرجة أن كتابة قصة واحدة أحيانا كانت تجعلني أتساءل: هل سيصدق الناس ما نكتب؟ وأحيانا كنت أسأل نفسي: ما الجدوى مما نقوم به؟ وما جدوى الكتابة أصلا؟".

وبينما عبّرت رشا فرحات عن العجز أمام سرعة الإجرام، ذهب الكاتب والمحامي حسن عبادي إلى أبعد من ذلك، إذ رأى أن الصدمة لم تترك مجالا حتى للفعل الإبداعي ذاته، بل أدخلت الكاتب في صمت تام أمام فداحة المقتلة.

يقول عبادي: "اعتدت نشر مقالة أسبوعية، قراءة في كتاب، أو قصة قصيرة، أو مباركة لصديق بمناسبة إصدار جديد، وفجأة صمت القلم. القراءة نفسها في زمن المقتلة أصبحت عجزا".

ويوضح أن هذا الصمت لم يقتصر عليه وحده، بل شمل الكتّاب الأسرى الذين التقاهم بعد الطوفان، إذ قالوا له بصراحة: "لا صوت يعلو على صوت المقاومة وغزة، لن نكتب عن معاناتنا وما نمر به، فكل ذلك يهون أمام المقتلة، ونشعر بالخجل من الكتابة؛ فالصمت أجدر بنا".

ويرى عبادي أن حرب الإبادة أضافت بعدا جديدا لتجربتهم، إذ جعلتهم يعيدون النظر فيما آمنوا به، ويتأملون في عالم بدا وكأنه يختبر حدود إنسانيته. هكذا يتحوّل الصمت نفسه إلى شكل من أشكال الشهادة، وإلى تعبير آخر عن حضور الصدمة في الوعي الفلسطيني.

وفي مقابل حالات الصمت والعجز التي عبر عنها عدد من الكتّاب، يقدم الشاعر جواد العقاد وجها آخر للفعل الإبداعي تحت القصف؛ وجها لا يصف الصدمة بل يعيشها كتابة.

يقول العقّاد إنه خلال عامي الإبادة كتب تحت القصف والقذائف وفي خضم الصخب، متخليا عن طقوس الكتابة السابقة، لأن اللغة نفسها تغيرت تحت الضغط وصارت أداة بقاء. فـ"الكتابة في زمن الحرب"، كما يصفها، "صارت درعا نفسيا وعاطفيا يحمي ما تبقى من إنسانيتي، وفعلا من أفعال المقاومة أمام الموت".

الصدمة الممتدة: شهادة عبر الأجيال

وإذا كانت الشهادات السابقة قد عكست صدمة لحظية عاشها الكتاب الفلسطينيون تحت وقع الإبادة، فإن شهادة الروائي والباحث د. حسن حميد تكشف عن بعد آخر للصدمة، يتجاوز اللحظة إلى تاريخ ممتد في الذاكرة الفلسطينية. في شهادته، لا يتحدث حميد عن الحرب بوصفها حدثا جديدا، بل بوصفها ذروة قرن كامل من الألم والمقاومة، عاشه الفلسطيني جيلا بعد جيل.

يتحدث حميد عن حياته كأنها ثلاث حيوات متداخلة: حياة الجد الذي عاش تحت ثلاث سلطات احتلال متعاقبة؛ العثماني والإنكليزي والإسرائيلي، وعرف السجن والهجرة والمقاومة دفاعا عن البيت والهوية، وحياة الأب الذي حرم من المدرسة ليعمل فلاحا ثم لاجئا في المخيم، قبل أن يعيش هو نفسه جيله الثالث في مواجهة جديدة مع آلة القتل والاقتلاع.

بهذا المعنى، يرى حميد أن الفلسطيني ولد في قلب الصدمة، وأن الإبادة الأخيرة في غزة ليست استثناء بل ذروة لمسار تاريخي طويل من القهر والمقاومة.

ويقول في شهادته: "لقد عانيت أنني عشت أحزان جدي وأبي وأحزاني الجديدة التي أبصرتني بها الكتب، وأني جمعت وعي جدي وأبي إلى وعيي كيما أصير لائقا بمواجهة الإسرائيلي الذي نادى بكيّ الوعي الفلسطيني بنار اسمها ثقافة الإخافة.
عشت كل الحروب التي خاضها الفلسطينيون منذ مئة سنة، قراءة وواقعا، وعرفت نتائجها من شهداء وجرحى ودمار وتهجير، لكنني لم أعرف مثل الذي عشته في حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة طوال عامين مرة المذاق. كانت مطاحن دم وحرائق طالت كل شيء، وغيرتني ككاتب، فأعدتُ تعلم الكتابة من الصف الأول الابتدائي، لأنني أمام حال غير مسبوقة في التاريخ".

ويواصل: "صرت أرى أن شعبي الفلسطيني منذور لمذبحة لم يعرف العالم لها مثيلا، وأن الأمهات يلدن أطفالهن ليقتلهم الإسرائيليون بالقنابل، ومع ذلك يخلق الفلسطينيون ليقاوموا، كي تبقى للقيم والأخلاق هيبتها. الحرب على غزة غيرت اللغة والأسلوب والتقنيات، وأمدتنا بروح كتابية جديدة، ووضعتنا أمام مرآة العدالة لنرى قاماتنا الحقيقية".

تكشف هذه الشهادات، المتأرجحة بين العجز والانكسار والصمت والانكفاء، عن تحقق شرط الصدمة في أبعاده النفسية والثقافية والإبداعية والفكرية. كما أن تنوعها من حيث الأجيال والموقع الجغرافي يجعل من الصدمة حدثا جمعيا يعيد تشكيل الوعي الفلسطيني، ويفرض على الكاتب إعادة تأمل موقعه ودوره، وجدوى الكتابة وحدودها أمام الكارثة، تمهيدا لإعادة تعريف شاملة للمفاهيم المرتبطة بالفعل الإبداعي.

يتبع في الجزء الثاني..