الثلاثاء  04 تشرين الثاني 2025

مؤرخ فرنسي يفكك لغز افتتان ترامب واليمين المتطرف بأسطورة الحملات الصليبية

2025-11-04 08:38:24 AM
مؤرخ فرنسي يفكك لغز افتتان ترامب واليمين المتطرف بأسطورة الحملات الصليبية

ترجمة تدوين- أحمد أبو ليلى 

في تحليل معمق لـ "لونوفيل أوبسرفاتور"، يكشف فلوريان بيسون كيف تحولت "الحملة الصليبية" من مفهوم تاريخي إلى أداة أيديولوجية لترويج العنف وتطهير "الأمة" من الأعداء الداخليين، مؤكداً أن هذا الخطاب يقوم على "خيال محض" يتجاهل التاريخ الفعلي للقرون الوسطى. فقد أعاد الخطاب السياسي الأميركي، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، إحياء مصطلح تاريخي قديم: "الحملة الصليبية". هذا التكرار، الذي أصبح سمة مميزة لبعض تجمعات ومواقف اليمين المتطرف، دفع بالمجلة الفرنسية "لونوفيل أوبسرفاتور" إلى محاورة المؤرخ المتخصص في العصور الوسطى فلوريان بيسون، صاحب مدونة "العصر الوسيط المعاصر" والمطلع على علاقة السياسة الحديثة برموز القرون الوسطى.

في حديثه، يشرح بيسون أن استحضار كلمة "حملة صليبية"، كما فعل ترامب مراراً في كلمة تكريمه لتشارلي كيرك، وربطها بصفة "سياسية"، يؤكد أنها ليست مجرد زلة لسان أو استعارة بلاغية عابرة، بل هي مرجع مقصود يهدف إلى شحن قاعدته الشعبية بروح قتالية وأيديولوجية محددة. ويرى بيسون أن هذا المرجع جزء من "خيال قديم" يعود ليطل برأسه بانتظام في الفضاء العام.

الجذور الأيديولوجية: شارلوتسفيل وصدام الحضارات

يُشير بيسون إلى اللحظة الحاسمة التي تجدد فيها هذا الخيال بقوة في الولايات المتحدة، وتحديداً خلال تجمع اليمين المتطرف في شارلوتسفيل عام 2017. حينها، استدعى المتظاهرون علناً رموزاً من الحملات الصليبية، إلى جانب أساطير إسكندنافية قديمة، في محاولة لربط هويتهم البيضاء المتفوقة بتاريخ "غربي مسيحي" نقي ومتخيل.

هذه الظاهرة، يؤكد بيسون، ليست محصورة جغرافياً في الولايات المتحدة فحسب، بل هي ظاهرة عالمية ضمن أوساط اليمين المتطرف، تستغل التاريخ لتبرير أيديولوجيا هوياتية وعنيفة. ويستشهد المؤرخ بمثال صادم: الإرهابي برينتون تارانت، منفذ هجوم نيوزيلندا عام 2019، الذي أعلن أن مجزرته كانت "حملة صليبية لإنقاذ الغرب"، متأثراً بأفكار الإرهابي النرويجي أندرس بريفيك.

من وجهة نظر بيسون، فإن استدعاء خيال الحملات الصليبية يعمل كـ"إحياء نخبوي لأسطورة صدام الحضارات" التي صاغها المفكر الأميركي الراحل صامويل هنتنغتون. هذه الأسطورة، في أذهانهم، تتخيل صراعاً وجودياً وأبدياً بين "حضارة غربية مسيحية" نقية و"حضارة شرقية إسلامية" كعدو أبدي.

يقول بيسون: "هذا التفسير للصراع يسمح للجماعات المتطرفة بمعارضة كل الخطابات 'اليقظوية' (Woke) أو الليبرالية التي تدعو للتنوع والاندماج. وبدلاً من الحلول السياسية، يقترحون حلاً بديلاً جذرياً يقوم على الحرب والعنف، سواء كان حرباً باردة أيديولوجية أو عنفاً فعلياً".

إنفصال عن الواقع التاريخي: "جهل تام" وتأثير كولونيالي

يصر بيسون، بصفته مؤرخاً مختصاً، على أن هذه الإشارات المعاصرة تنبع من "جهل تام بالتاريخ". فالعقيدة التي يروجون لها لا تستند أبداً إلى أي مؤرخ معاصر للحملات الصليبية، بل هي "في عالم الخيال المحض"، عالم يتم فيه تشويه الماضي لخدمة أهداف سياسية حالية.

ويوضح المؤرخ أن المراجع التاريخية التي يستند إليها اليمين المتطرف هي في الواقع مراجع زائفة تنتمي إلى فكر استعماري متجاوز. وعلى وجه التحديد، يشير إلى ما كان يروجه المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه في ثلاثينيات القرن العشرين، وهي تفسيرات كانت تهدف إلى تبرير الاستعمار الفرنسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باعتباره استمراراً للروح الصليبية.

هذا الانفصال عن التاريخ الحقيقي للقرون الوسطى يتجلى في تحويل الرموز الوسيطة إلى "ميمات" سياسية وثقافية يتم تبنيها بشكل واسع بين المؤيدين. ويقدم بيسون أمثلة لافتة:

أولا: وزير الحرب الأميركي السابق بيت هيغسيث: يحمل على صدره وشماً لصليب القدس، وهو شعار مملكة بيت المقدس الصليبية. والأكثر دلالة هو وشمه للعبارة اللاتينية "Deus Vult" (الرب يريد ذلك!) على ذراعه، وهو الشعار الصارخ الذي تبناه الصليبيون الأوائل لبدء حملاتهم.

ثانيا: لويس ساركوزي (ابن الرئيس الفرنسي الأسبق): يحمل وشماً لعبارة مأخوذة من نشيد صليبي يعود للقرن الثاني عشر: "من يسير الآن مع لويس؟".

هذه العلامات، كما يفسر بيسون، ليست مجرد زينة، بل "شهادة انتماء" إلى جماعة "الصليبي الحديث"، تستخدم التاريخ كرمز للهوية وتطهير المجتمع.

لويس ساركوزي

المراحل الثلاث للأسطورة: من الخارج إلى "التطهير الداخلي"

لتحليل استخدام هذا المفهوم، يشرح بيسون أن أسطورة الحملات الصليبية مرت بثلاث مراحل تطورية في العصر الحديث، تغير فيها هدف الحملة وطبيعة "العدو":

الأولى هي: المرحلة الكولونيالية (القرن التاسع عشر): كانت الحملة ترمز إلى حروب خارجية لتبرير الاستعمار، مثل تقديم استعمار الجزائر عام 1830 كـ"حملة صليبية جديدة" لنشر الحضارة والدين.

الثانية هي: المرحلة الدفاعية (القرن العشرون): تحولت الأسطورة لتقديم تبرير دفاعي عن الغرب خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية ضد "البربرية" الألمانية أو الشيوعية.

الثالثة هي: المرحلة الأيديولوجية (العصر الحالي): أصبحت "حملة صليبية داخلية". فـ"العدو" لم يعد خارجياً، بل أصبح هم "الأعداء من الداخل": الليبراليون، "اليقظويون" (Woke)، النسويون، والصحفيون والمثقفون، الذين يُنظر إليهم كـ"تهديد لنقاء الأمة" وسلامة الهوية "الغربية".

وهذا التحول الجذري، بحسب بيسون، قلب المعنى الأصلي للحروب الصليبية رأساً على عقب؛ فهي لم تعد "حملة مسلحة لتحرير قبر المسيح"، بل تحولت إلى معركة أيديولوجية هدفها "تطهير الوطن" وتثبيت هوية سياسية معينة.

المفارقة اللاهوتية والصورة الذكورية المتخيلة

يطرح بيسون مفارقة لاهوتية حادة في قلب هذا الخطاب الجديد. فالحملات الصليبية كانت تاريخياً أداة للسلطة البابوية الكاثوليكية المطلقة. أما اليوم، فيروج لها إنجيليون وكاثوليك محافظون يتمردون على الكنيسة الكاثوليكية وقيادتها الحديثة في روما.

يؤكد بيسون: "أن تعرّف نفسك ككاثوليكي وفي الوقت ذاته تستمر في الحلم بحملة صليبية جديدة يعني أنك تعارض إرادة البابا. هؤلاء الصليبيون الجدد، بالمعنى الدقيق للكلمة، هم هراطقة من منظور المؤسسة الكاثوليكية الرسمية".

بالإضافة إلى البعد الديني، يلفت المؤرخ الانتباه إلى البعد الذكوري العميق في هذا الخيال. حيث يتم تقديم صورة الفارس القوي، الحامي للعرض والشرف والهوية، كنموذج للرجولة المثالية لدى أنصار "حركة ماغا" (MAGA). هذا التمجيد لـ"رجل الحرب" يشبه إلى حد كبير تمجيد ثقافة إيلون ماسك لصورة المصارع الروماني أو الجندي القديم.

لكن بيسون يختتم بالتذكير بأن هذا التمجيد للفروسية القوية هو أيضاً زائف تاريخياً. فالنصوص الوسيطة الأصلية، مثل "سيرة القديس لويس" لجونفيل، كانت أكثر واقعية، حيث وصفت الفرسان على أنهم ضعفاء وخائفون من الموت، يمرضون ويشتاقون لعائلاتهم، وهي صورة بعيدة كل البعد عن "الصليبي الخارق" الذي يروج له اليمين المتطرف اليوم.

ويختم بيسون بالقول إن الافتتان الأميركي بالتراث الوسيط له جذور قديمة، حيث سعت النخب الأميركية البيضاء البروتستانتية الأنجلوساكسونية (WASP) دائماً إلى إعادة بناء أوروبا مثالية، من استيراد القلاع الحجرية إلى جمالية أفلام ديزني، كطريقة لتأكيد هوية "غربية" متخيلة في مواجهة أوروبا "المنحطة" أو المتغيرة.