تدوين: راما الحموري
في زمن تحوّلت فيه السيطرة والهيمنة إلى منتج مُسوَّق بوصفه "خلاصاً فردياً" و"حرية مطلقة"، يقدّم الدكتور عبد اللطيف عمر المحيمد كتابه الجديد "العبودية الناعمة ووهم الحرية في عصر العلمنة الحديث"، الصادر حديثاً عن دار الإمام المازري للنشر والتوزيع، كصرخة نقدية مدوية في وجه "التناقض المربك الذي يطبع روح الحداثة المتأخرة".
يتأسس الكتاب على فرضية أن العلمنة، التي بشرت بتحرير الإنسان من السلطات الرمزية والتقاليد، لم تنجح في تحقيق وعد التنوير، بل "أعادت إنتاج العبودية في هيئة جديدة أكثر نعومة، وأكثر قدرة على الإيهام". إنها عبودية لا تُفرض بالإكراه، بل تُمارس من خلال "الإقناع والإغواء"، حيث يستمد "الرق الجديد" فاعليته من قدرته على "جعل الإنسان يرضى بقيوده ويعدها جزءًا من ذاته".
وهم التحرر الزائف: حرية الاستهلاك بدل حرية الوعي
يُشكّل كتاب المحيمد قراءة نقدية معمقة في المنظومة الفكرية للعلمانية الحديثة، مسائلاً المسلمات الكبرى حول الحرية والكرامة والتقدم. ففي نظر المؤلف، تمارس الحضارة الغربية الحديثة ما يسميه "التحرر الزائف"؛ تحرر يروج لـ "حرية الاستهلاك بدل حرية الوعي، وحرية الرغبة بدل حرية المعنى".
ويغوص الكتاب في تعرية أنماط الاستعباد الأكثر خفاءً ورسوخاً في البنية المعاصرة، حيث يرتدي "الرق الجديد الذي يلبس لبوس الحرية، ويستعير لسان الحداثة، ويتخفى في تفاصيل الحياة اليومية حتى يغدو الإنسان عبدًا طائعًا وهو يظن أنه سيد نفسه".
يفتتح المؤلف رحلته النقدية بمساءلة المشهد المعاصر للإنسان الحديث الذي يبدو في ذروة الرفاهية والتمدن. فوسائل الراحة والاتصال، من الهواتف الذكية إلى الفضاءات الرقمية، توهم الإنسان بأنه بلغ أقصى درجات الحرية والتحكم في مصيره. لكن المحيمد يطرح "سؤالًا مزلزلًا: هل نحن أحرار حقًا أم أننا نحيا داخل منظومات موجَهة تتحكم في وعينا وتُسير اختياراتنا دون أن نشعر؟"
الدكتور عبد اللطيف عمر المحيمد يفكك في عمله الفكري الأخير وهم الحرية في عصر العلمنة، ويؤكد أن الاستعباد لم يعد بالسوط والأغلال، بل بالإقناع والإغواء عبر شاشات الأجهزة الذكية والرغبة الاستهلاكية
ويُنبّه المؤلف إلى التحول الدقيق في طبيعة العلاقة بين الإنسان وعبوديته. فبينما كانت العبودية القديمة تُفرض "بالقوة"، أصبحت العبودية الحديثة تُزرع في "القلب والعقل والذوق". لقد تم إعادة تعريف مفهوم الحرية نفسه لجعله أكثر طاعة للنظام: فالحرية اليوم "تحولت إلى سلعة استهلاكية، يُروَج لها في الأسواق والإعلانات والفضاءات الرقمية، وتُقاس بقدرة الفرد على الشراء والتملك لا بقدرته على الفهم والاختيار".
العلمنة الشاملة: تفريغ الوجود من معناه السامي
يضع الكتاب هذا النمط من العبودية في إطاره الفكري الأوسع، وهو العلمنة بوصفها المشروع المركزي للحضارة الغربية الحديثة. العلمنة، في نظر المحيمد، ليست مجرد فصل بين الدين والدولة، بل هي عملية شاملة لـ "إعادة صياغة العالم والإنسان وفق مقاييس مادية نفعية، تُفرغ الوجود من معناه السامي، وتحول الإنسان إلى كائن اقتصادي قابل للقياس والاستهلاك".
في الباب الثاني، يستلهم المؤلف تحليل المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري حول "العلمانية الجزئية والشاملة"، ليُبرز كيف تسللت العلمنة إلى كل مستويات الوعي الإنساني؛ من الفكر إلى اللغة، ومن التعليم إلى الجسد. فالعلمانية الشاملة، في تصورهما، هي بنية ثقافية كاملة تعيد تشكيل القيم والمعايير، وتنتج إنساناً مُعلمناً لا يرى في نفسه إلا "جسدًا يُستهلك وسوقًا تُستثمر".
يتسع نطاق التحليل في الباب الثالث ليشمل رصد أشكال العبودية الناعمة التي تسللت إلى تفاصيل الحياة، من علمنة الفلسفة والدين واللغة إلى الجسد والجمال والمشاعر. إنها عملية تجعل الإنسان "جزءًا من آلة كبرى تُعيد إنتاج القيم الغربية دون وعي منه".
تشييء الجسد: استعباد باسم التحرير
يقدم الدكتور عبد اللطيف تحليلاً دقيقاً لما يسميه "علمنة الجسد". حيث لم يعد الجسد كياناً إنسانياً ذا معنى روحي أو أخلاقي، بل تحول إلى موضوع "للتشييء" والاستهلاك، تُحدد قيمته بما يُعرض منه في الفضاء الإعلامي، وبما يخضع له من معايير الجمال المصنعة.
يكمن هنا جوهر المفارقة الكبرى التي يكشفها الكتاب: فبينما يرفع الخطاب المعاصر "شعار تحرير الجسد"، تمارس الثقافة ذاتها "استعبادًا خفيًا له من خلال تسليعه وتحويله إلى وسيلة لربح السوق وإدامة المنظومة الرأسمالية".
عبيد العصر: الاستعمار الرمزي في زمن التقنية
يتعمق الباب الرابع في تشخيص "عبيد العصر"، وهم أولئك الذين يعيشون في أقصى درجات الخضوع للنظام الاستهلاكي وهم يظنون أنهم أحرار. يصفهم المؤلف بـ"عبيد أذكياء"، يبررون خضوعهم بحجة التطور والانفتاح، ويجدون في الاستهلاك المفرط دليلاً على نجاحهم الاجتماعي.
هؤلاء العبيد، في رأي المؤلف، هم نتاج طبيعي لمنظومة إعلامية واقتصادية صنعت لهم "نموذجًا موحدًا للعيش والتفكير". وبسبب هذا التوجيه، غدت الحرية لا تتجاوز "هامش الاختيار بين منتجين أو فكرتين أو أسلوبين للحياة، كلاهما داخل القالب ذاته".
وهكذا، يغدو الإنسان المعاصر "مستعمَرًا في بيته، منقادًا من بعيد"، لا يحتاج المستعبِد إلى إرسال جيوش ولا إلى رفع رايات، "لأن أدوات السيطرة باتت رمزية ناعمة: شاشة، وإعلان، ورغبة، وتطبيق ذكي".
الملاذ الأخير: العبودية لله عين التحرر
بعد هذا التشخيص القاتم، لا يغلق المحيمد أبواب الأمل. في الباب الخامس، يرى أن الدين يظل "الملاذ الأخير للحرية"، لأنه وحده القادر على إعادة وعي الإنسان بذاته وتكريمه، وتحريره من عبودية السوق والمادة.
الدين، في جوهره، لا يطلب من الإنسان أن يكون تابعاً لأحد، بل أن يكون "عبدًا لله وحده، وهذه العبودية هي عين التحرر من كل أشكال العبوديات الأخرى". الحرية الحقيقية التي ينشدها الكتاب هي "حرية الوعي الذي يميز بين ما يُراد لك أن تكونه وما تختار أن تكونه". ومن هنا يصبح الإيمان بمعناه العميق "فعلًا مقاومًا، يحرر الإنسان من سلطة الصورة والإعلان والرغبة المصنعة".
وفي فصول أخرى، يتطرق الكتاب إلى مظاهر انتكاس الفطرة الإنسانية تحت وطأة العلمنة الشاملة، مستعرضاً ما يسميه بـ "الفوضى الجندرية" و"الانحرافات الأخلاقية" التي تُقدَّم اليوم كحقوق وتجليات للحرية الشخصية. ويرى المحيمد أن هذه الظواهر ليست نتاج تطور طبيعي، بل هي "نتيجة مباشرة لعملية تفكيك منظمة تستهدف طمس معالم الفطرة"، وإعادة تعريف الإنسان على نحو يُلغى فيه الفرق بين الطبيعة والاصطناع.
حرب المصطلحات: السيطرة على الوعي عبر اللغة
يتناول الباب السابع جانباً حيوياً في العبودية الناعمة: حرب المصطلحات. حيث يؤكد المؤلف أن مفاهيم مثل "الحرية، والإرهاب، والديمقراطية، والمواطنة، والإسلاموفوبيا" ليست مفاهيم بريئة، بل "أدوات سياسية وأيديولوجية توظَف لفرض نموذج واحد للحقيقة".
ويبين المحيمد أن السيطرة على اللغة والمفاهيم تمثل "أخطر أشكال العبودية الناعمة"، لأن "من يملك تعريف الأشياء يملك القدرة على توجيه الأذهان وصناعة الرأي العام". وبذلك تُدار معارك الأفكار لا في ساحات الجيوش، بل في ساحات الخطاب والإعلام والتعليم، حيث يُعاد تشكيل الوعي الجمعي وفق ما يخدم مصالح القوى المهيمنة.
خاتمة: دعوة لاستعادة الوعي الأخلاقي
يقدم كتاب "العبودية الناعمة" صورة مروعة للإنسان المعاصر الذي يعيش داخل شبكة كثيفة من الإيحاءات الثقافية والإعلامية، تُحركه من حيث لا يدري. لكنه في الوقت ذاته يدعو القارئ إلى استعادة "وعيه النقدي"، والتمسك بمرجعيته الحضارية والدينية بوصفها صمام أمان يحول دون الذوبان في النموذج الغربي.
فالعبودية الجديدة، كما يصورها المؤلف، ليست صداماً بين شرق وغرب، بقدر ما هي "صراع على الإنسان ذاته: من يملك وعيه، ومن يحدد معاييره، ومن يزرع فيه صورة ذاته؟". إنها عبودية بلا مستعمِر ظاهر، "لأن المستعمِر يسكن في الأجهزة التي بين أيدينا، وفي الخطاب الذي نردده، وفي الرغبات التي نُغذيها يومًا بعد يوم".
وختاماً، فإن الكتاب دعوة إلى إعادة التفكير في مفهوم الحرية انطلاقاً من رؤية توحيدية تُحرر الإنسان من أوهامه، فـ "التحرر الحقيقي لا يتحقق بالانفلات من كل قيد، بل بالانتماء إلى نظام للمعنى يعلو على الهوى والمنفعة". مقاومة العبودية الناعمة لا تكون بالرفض الشعاراتي، بل بـ "إحياء 'الوعي الأخلاقي' الذي يجعل الإنسان مدركًا لمصدر قيمه ومعايير حريته".
ويؤكد المحيمد أن أخطر ما يهدد الإنسان ليس أن يُستعبد بالقوة، بل "أن يُستعبد وهو يظن نفسه حرًا".