الأحد  22 كانون الأول 2024

ليل وكوفيّة وعناق

2014-02-18 00:00:00
ليل وكوفيّة وعناق
صورة ارشيفية

هنا نلتقي

بقلم: أنور الخطيب

قال لي بصوت هادئ: إقفل النافذة يا أخي. 

أقفلتُها، وبقيت محملقاً بشقوقها أنتظر سماع صوته يطلب الدخول والاختفاء عمن يطارده في الليل. لم يطرق النافذة من جديد، وانبلج الصبح.

كان كل شيء مظلماً حولي، لم تكن الكهرباء قد وصلت بيوت المخيم بعد، لكن هالة المتحدث أضاءته، وأضاءت جزءاً كبيراً من قلبي. 

في الصباح الباكر، ذهبت إلى المدرسة الإعدادية كبقية التلاميذ، كان مدرس الرياضيات يشرح درساً جديدا، وكان عقلي يستعيد المشهد الليلي، وقلبي ينبض خوفا على ذلك الرجل الملثّم الذي اختفى في الليل، فجارنا العجوز الذي ينهض عادة عند الفجر للصلاة، ويستمر في التنزّه في (حاكورته) لم ينهر أحدا بصوت عالٍ، ولم يردد الشتائم التي يعرفها الجيران جميعا، بل إنه ربما لم ينهض عند الفجر ولم يتنزّه أيضا، فالحركة في بيته كانت هادئة جدا، استنتجت ذلك حين مررت عامدا متعمّدا من أمام داره، ووجدت كل الأبواب مقفلة. 

عدد الطلاب كان يفوق الثلاثين، لم يجد مدرس الرياضيات سواي كي يطلب منه إعادة ما قام بشرحه، نهضت من شرودي، ادعى أنه يوجه السؤال لتلميذ آخر، وصفعني على وجهي الصغير بكفه الكبيرة، حدّقت بغضب شديد في وجهه، أدرك حنقي فطلب مني الجلوس واستدار ذاهبا إلى آخر الفصل، انتهزت الفرصة ووقفت بسرعة واستدرت نحوه قبل أن أنطلق كالسهم خارج الفصل: ملعون أبو الرياضيات..!

الصفعة كانت قوية إلى درجة أن الطنين الذي تركته في أذني رافقني طوال ركضي عائدا إلى المخيم، كانت المسافة قرابة الثلاث كيلومترات، لم أتوقف أبداً إلا عندما وصلت مدخل المخيم، وجدت حاجزا يقف عنده جنود على أهبة الاستعداد، كان من الطبيعي أن يوقفني أحدهم ويسألني: كم مقاتلا في المخيم؟

قلت وقلبي ينتفض وصدري يعلو ويهبط: جميع سكان المخيم..

نهرني فهربت وواصلت الركض حتى وصلت البيت.

رأيت الناس في الشوارع والأزقة الضيقة يتجمعون فرحين قلقين، يتهامسون بفخر وهم يتحدثون ويتناقلون قصصا أضافوا عليها من أحلامهم الكثير.

لم يسألني أبي عن سبب عودتي مبكرا من المدرسة، استنتج أن الإدارة صرفتنا نظرا للمستجدات الطارئة، تقدمت منه وقلت له: رأيته بعد منتصف الليل بقليل، هل رأيته أنت أيضا يا أبي؟ 

لم يكد يجبني حتى مر شاب ملثّم يرتدي ثيابا مموّهة يحمل (كلاشينكوف)، ويحيط وسطه بجعبة فيها مخازن للرشاش، وتتدلى من وسطه قنابل يدوية، ويحمل على ظهره قاذف آر بي جيه، قال له والدي: خذ يمينك عندما تصل آخر الدرب.

- هل تعرفه يا أبي؟

لم يجب

- من هذا الجندي يا أبي؟

- هذا فدائي يا بني..

لأول مرة يخاطبني أبي بكلمة (بني)، كأن مرور الشاب الفدائي أنعش فيه عاطفة الأبوة من جديد، لمحت بريقها في التماعة ماء عينيه بعد أن احتضنني أيضا، وحين وجدني أتعلق بنظراته الحنونة الدافئة المفعمة بالفرحة، سألني مدّعيا الغضب: هل أنت خائف؟

أجبته: كنت أنتظر يده لتطرق نافذتي، هل كنت تعلم بقدومه يا أبي؟

مر في تلك اللحظة فدائي آخر يهرول في الاتجاه المعاكس، ثم مر ثالث ورابع وعاشر ومائة، وحين أذن لصلاة العصر بدأت أرى فدائيين أعرفهم، من أهل مخيمنا. 

غاب أبي فجأة ودون أن يعلم أحد، ثم عاد، كانت أمي قد جهزت طعاما كثيرا، اعتقدت أن أبي دعا الفدائيين للعشاء في بيتنا ففرحت، وقلت في داخلي: (سأشم رائحة الكلاشنكوف هذه الليلة، وسأرى وجه الفدائي الذي زارني بعد منتصف الليل بقليل، وأضاءت هالته كوفيته وسلاحه). 

لم أصب بخيبة أمل حين طلب مني أبي مساعدته في حمل الطناجر وأكياس الخبز واللحاق به، وفي الطريق ضحك أبي حين قلت له: ألا تسرع قليلا..!

لأول مرة أسمع أبي يضحك بصوت عال ومن عمق قلبه، لأول مرة يسير أبي بخطوات واثقة متغلباً على آلام ظهره (الديسك)، لأول مرة أشعره طفلا، لأول مرة يحيي جارنا الذي كان على خصام معه، لأول مرة يدندن بالغناء وهو يمشي حتى ظننته سيرقص أو سيدبك. 

وصلنا عند طرف المخيم، وقفت أحملق بوجوه الفدائيين، بأسلحتهم، بحركاتهم، بأصواتهم، بكيفية تدخينهم، بالرائحة التي تنبعث من الثياب المموهة.

لاحظ أحدهم دهشتي فاقترب مني وهو يحمل (الكلاشينكوف) وطلب مني أن أحمله، فحملته وقلت: خفيف.

قال لي: أعدك أنني سأحضر لك واحداً حين أعود في المرة القادمة.

قلت: وهل ستغادرون المخيم؟ 

قال: كنا نقوم بعملية فدائية في فلسطين، وعدنا سالمين، لكننا اكتُشفنا في طريق عودتنا، فلجأنا إلى المخيم. 

قلت: رأيت واحدا منكم خلف نافذتي ليلة أمس، هل تعرفه؟

قال: نعم أعرفه، أنا..

عانقته كما لم أعانق أبي طيلة حياتي. 

بعد أربعين عاما، جلست ملتصقا بقبر أبي، قصصت عليه القصة، سمعت صوته يقول: ليت تلك اللحظة تعود يا بني..

* ملاحظة: قبل كتابة هذه القصة الحقيقية، شاهدت مقطع يوتيوب من اقتتال (حماس) و(فتح) في غزة قبل سبع سنوات، على قناة تلفزيونية صهيونية!