الأحد  22 كانون الأول 2024

غسان كنفاني

2014-04-22 00:00:00
غسان كنفاني
صورة ارشيفية

 عفاف خلف

وكان دائم الانشغال، كما لو ان الموت يتربص به عند زاوية الشارع. وكان غسان رساماً ومصمماً للرسوم، وكانت احدى لوحاته اثناء تلك الفترة تمثل رجلاً مصلوباً بالزمن "آنى كنفاني"
 
كم سأنحت فيك حتى أجتلي ملامحك، كم سأجرد كلماتٍ من أثوابها حتى ألتقيك من خلف قناع الكلمات، لكنك لم تكن "رجلاً"كنتَ"قضية". وكان هاجسها يسكنك، هاجس الشمس والصحراء والزمن، الشمس التي تصهر عقول الرجال "بذهبها"، والصحراء التي تبتلع دونما أملٍ بعودة، والزمن بمديته التي تقطع في لحم الأشياء.  ثالوثٌ كأقانيم قدسٍ ظل يحملها معه، جدلية اللجوء والتيه الفلسطيني نحو فراغه الأبدي، "إلى أبد الآباد"  وزمنٌ مضغوط.
 
"سوف يُضحي هيكلاً مقدداً بالشمس والرمل إلى الأبد، كأنه علامة طريقٍ لا ترشد إلا لضياعٍ بلا قرار" [1]
كان يحاور خوفاً يسلخه، ينتزع الخوف من جلده ويحدثه رأساً لرأس بكل الحوارات التي اصطخبت في بحر أعماقنا قمقماً لا نريد له حّكاً حتى لا يفجؤنا الاحتكاك بمارد الرغبات ومرايا العجز، وكان يغرس المرايا في وعينا كيما نرى، تحدثنا نبؤاته فتنفجر الأرض اسئلة
 
"لقد جعل من أمه البعيده ملجأً يؤمه ذات يومٍ صعب، وانصرف إلى تكبيره وإعداده إلى درجة نسي فيها أن يبني في نفسه رجلاً لا يحتاج في اليوم الصعب إلى ملجأ"
 
"فقد كنت أريد أرضاً ثابتة أقف فوقها ، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء. والآن: كنت أمشي على رقع الجليد تلك، وليس كل ما كتبته وكل ما قلته في حياتي كلها إلا صوت تهشمها تحت الخطوات الطريدة".[2]
 
إلى هذه الدرجة تداخل الشخصي والعام، إلى درجة أن ملامحنا تُمحى، ونتحسس كأعمى ما يكون، فما أضفاه العام على الخاص جعل من المستحيل أو شبه المستحيل الفصل ما بين غسان الوعي المتنامي، المصهور عبر محنة اللجوء والتشرد والخيام والفقر، والغربة وتفتق لحمه عن لحم البلاد، وبين غسان الإنسان، فحيثما وليتَ وجهك ثمة نزفٍ لا يتوقف، معين من الحكايا، والحقائق وكان القلب أسفنجه،وكان يسد ثغرات الزمن بالكلمات، يؤرخ، يكتب، يعّلم، يبني، يُنبي، يقرأ واقعه ليكتب مستقبله، لنكتب مستقبله.
 
"قبل حرب حزيران 1967 بأسبوع واحد، توفيت أم غسان فجأة في دمشق بعد اصابتها بذبحة قلبية. لكنه لم يذرف دمعة واحدة طوال مأتمها، على صدق حبه العميق لها، بل انه حاول ان يبث العزيمة في أبيه وفي افراد العائلة الآخرين. غير اننا اثناء رجوعنا الى بيروت، انهار غسان، ولأول مرة في حياتي، شاهدت دموعاً في عينيه" آنى كنفاني
 
لقد فقد وطناً آخر يؤازر حجارة تكوينه.
 
" شيئاً واحداً لا أستطيع اعطاؤه: الوقت، كان يتسرب من بين خطواته، ليس ذلك فقط كان ضده، لم يكن في سباقٍ معه، بل كان في سباقٍ مع خساراته ".[3]
هل كنتَ تكتبُ دون وعيٍّ أقدارك!
 
كان يخرج لاصطياد الحكايا أو كانت تخرج لاصطياده، أصغر تفصيلٍ يعلق في ذاكرة القص شباكاً تنسج حريرها فيما تنتفض الذاكرة لتؤسس لخلقٍ جديد. في الوقت الذي كانت فيه القيادة الفلسطينية تتخبط وتعلن على الملأ " عنتّها " كان غسان يرى، يؤثث فينا صرخته: " اقرعوا الخزان"، ثوروا، لن نخرج من قمقنا العربي وواقعنا السياسي أمواتاً في الصحارى يُبعثون، أريدُ لنا نصاً آخر نتصالح فيه ومصائرنا تقريراً لا تسليماً لواقع، وكان يقرع، لم يتوقف عن الطرق يوماً.
 
في البدايات، تلك البدايات الفوضى حين يرف على الغمر وجه نبي يستجلي غامض ما تقذفه الأرحام من كينونة، اعتصم بالمرأة سلاحاً فكانت مريم " حُبلى الخطئية " وكان الفعل، " هي الحاضنة الأولى للفعل " حين تهتز الطاولة تحت ثقل جسد زكريا الشاخب فيما تبقى معركة حامد مع الإسرائيلي مؤّجلة، وتتضح الصورة أكثر في أم السعد
 
.... لو قام فضل عن العتبة وطخ عبد المولى، اما كانت هذه المشكلة قد انتهت!
التزمتُ الصمت، فقد كدتُ أقول انه لو حدث ذلك، لما حدثت أشياء كثيرة، ولما امضت هي نفسها عشرين سنةً في المخيم.[4]
 
هو النخر ما يفضح تهاوينا دائماً، حين يرتكز الوطن على منسأةٍ تقتات دابة الأرض على صلابتها فتنقض عليها نخراً، وهشاشة، ليتهاوى الوطن بكل قراه ومدنه وتراثه وذكرياته وتاريخه لقمةً سائغةً لاحتلالٍ تارة، وطوراً آخر لشبهةِ من يحملون " الوطن " رايةً"، بيضاء من غير سوء. أو ربما بكل السوء المتضمن.
 
هل يعمل الآن مع الفدائيين؟
أعتقد ذلك، ولكنه يقول إن ما تعلمه في السجن يجعله يعتقد بأن جماعة " الطق طق" بحاجة إلى تعلم الكثير، وأنه هو نفسه كان من جماعة الطق طق قبل 12 سنة، أما الآن.....
وخيّم صمتٌ قصير، وفجأة غيّر حمدان الموضوع..[5]
 
مزدحماً بالوطن كان، يشحذ ذبابة قلمه ويغرسها في العمق، ينكأ الجرح ويدير المقبض بلطفٍ ليسلخ عن واقعنا ما تراكم من طفيلياتٍ تقتات على الجسد المصاب، يعيد صياغتنا وفقاً لمفاهيم جديدة ليعيد بناء مفاهيمنا وفق أبجديةٍ مقاومة.
 
" كل أنصال الفولاذ في العالم إذا مرت فوق صدرك الأصفر العاري، صدرك الأجرد الممتد إلى أبدي وآبادهم، والسابح بجلال في بحرٍ من العتمة، كل أنصال الفولاذ في العالم ليس بمقدورها أن تحصد من فوقك عرقاً واحداً، ولكنها تتكسر واحدةً وراء الأخرى أمام حصادك الصلب النامي أكثر فأكثر، كلما خطى الرجل إلى أعماقك خطوةً وراء الأخرى، حتى ليتحول هو ذاته إلى عرقٍ مجهول مشّرش يستقي منك انتصابه وخطواته" [6]
 
مرةً أخرى لحم الأرض المضفور بلحم الأم بلحم ما تطرحه من إنسان،  تُرى لو قدّر له أن " يعيش ليروي " كغارسيا يوماً، أي ذاكرةٍ ستندلق بالتفاصيل، أي حكاياتٍ ورؤى سنُثرى بها!!
 
-... إنني أصابُ بالارتجاف حين أرى ذلك الناطور يتعقبني من قرنة إلى أخرى، يريدون ضربنا ببعضنا، نحن المشحرين، كي يربحوا ليرتين...[7]
 
أهو الأنف من اشتم روائح الحرب الأهلية وتجار الدم! أم عينا نبيٍّ كان الوطن له رؤية!
 
عبثاً أحاول تلمّس الرجل من خلال الكلمات، غسان بعيداً عن صهوة الكلمات المرتجلة، الدافقة، الموتورة، سريعة الخطى، كعمره اللاهث وراء وطن، وراء حيفا قبضت عليها أصابعه يوماً، واستهلكته كما يُستهلك الرجال وراء أحلامهم. هو الرجل البسيط / الغريب/ الكاتب/ العارف/ لسان الفلسطيني/ اللاجئ / الطريد / الشريد / البسيط في حقل حصاده العادي
 
" لقد كان صوتها دائماً بالنسبة لي هو صوت تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غالياً ثمن الهزيمة، والتي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة وتدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع " [8]
كيف ينقطع دفق السيل العرم، هو الجارف لكل ما علق في تراب الأرض من أدران !
 
كيف أجهش جسد ام السعد جيلاً يهتز بالبكاء ، كيف خاطبته الأيدي التي تحكي، والذراع التي تُبدي وتعيد، كان يروي ذاكرةً تشخبُ بالحكايات، وتحت كل حجرٍ حكاية، وكل شجرةٍ ميلاد.
 
وكان لابد من أخراسه، لابد من كاتم صوتٍ بحجم انفجار ليكف صوته، منذه وحبل الاغتيالات الممنهج لم ينقطع، السبحة انفرطت " إن عقدة المسبحة أصغر من حباتها ولكنها إذا انفكت كرت ثلاثة وثلاثون حبة واحدة إثر الأخرى " [9]
 
وتتزاحم اسماؤهم كمال ناصر، كمال عدوان، أبو يوسف النجار، ناجي العلي، سعد صايل، .....وحتى انفراط "النهج".
" إننا نتعلم من الجماهير، ونعلمّها، ومع ذلك فإنه يبدو لي يقيناً اننا لم نتخرج بعد من مدارس الجماهير، المعلم الحقيقي الدائم، والذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءاً لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب ". غسان مرةً أخرى ، البوصلة. 
 
[1] ما تبقى لكم
[2] رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان
[3] ما تبقى لكم
[4] ام سعد
[5] الأعمى والأطرش
[6] ما تبقى لكم
[7] أم سعد
[8] ام سعد
[9] العاشق