الأحد  22 كانون الأول 2024

كاتبُ التاريخ السري للحرب: الشاعر العراقي عدنان الصائغ يقول للمحتل: الشعب باقٍ والطغاة دائما زائلون

2014-04-29 00:00:00
كاتبُ التاريخ السري للحرب: الشاعر العراقي عدنان الصائغ  يقول للمحتل: الشعب باقٍ والطغاة دائما زائلون
صورة ارشيفية

الحدث- حاوره- أحمدزكارنة

 
في قاعة الجليل بمتحف محمود درويش، وبينما كنت على بُعد وهلة من موعد لقائنا المسجل مع الشاعر العربي العراقي عدنان الصائغ، الزائر لفلسطين للمرة الأولى في حياته، وفيما كان الحضور في قمة تفاعله مع الشاعر حوارا وشعرا، وهو العراقي الأول لربما الذي يزور البلاد منذ فترة ليست بالقصيرة، راودتني مقولة كنت قد كتبتها ذات نص قبل فترة وتقول: «إن منْ لا ينتصرُ لقوتهِ، لا يهزمُهُ إلا ترددُهُ»، فبالرغم من كون بعض العراقيين القوميين يخشون زيارة فلسطين، خوفاً من تهمة التطبيع، يأتي هذا العراقي المتهم بكتابته للتاريخ السري للحرب، ليقول مقولته انطلاقا من فلسطين وإلى فلسطين والعراق معاً.  
بعد اللقاء الجماهيري كان موعدنا الذي بدأته بالترحيب به في فلسطين فرد قائلا:
اهلا بك أنت هنا، برغم أني لا أصدق هذا الفرح الذي غمرني وأنا أعبر لأول مرة في حياتي إلى هذه الأرض التي سمعنا عنها كثيرا، وقرأنا عنها كثيرا، وتألمنا مع ألمها كثيرا، وعشنا بها ومعها كثيرا، ولقد وصل عمري إلى 58 عاما لأصل لأول مرة إلى فلسطين بدعوة كريمة من متحف محمود درويش وبرنامجه «مبدع في حضرة درويش»، فشكرا للمركز وللقائمين عليه، ولكل شعب فلسطين والجمهور الحبيب الجميل الذي أمتعني وأنا أراه مشدوداً إلى الهم العرقي كما الفلسطيني، وكأنما تلاقى الهمان، الفلسطيني، العراقي، وهذا ليس بجديد لا على شعب العراق ولا على شعب فلسطين. فبالعراق كنا نتغنى بقصائد ونصوص المبدعين الفلسطينيين، وكذا أنتم، كانت تصلكم قصائد ونصوص شعرائنا ومبدعينا من السياب إلى الجواهري وكنتم تتغنون بها كهم واحد وقلب واحد ومصير مجهول.
 
س: في زياتك الأولى لفلسطين التي هي أيضا تشتاق لكل عربي حر على هذه البسيطة، ما هي أهم المشاهد التي استوقفتك؟

 
مشاهد كثيرة ومتداخلة، فالمشهد المحزن، يتجلى في رؤية هذه الأرض التي مازالت تحت حراب المحتل وجنوده على كل معبر وبين المدن ما يؤلم القلب حقا، وفي الوقت ذاته وتحت هذه القضبان تجد أرضا من أجمل ما تكون، فأنا طفت العالم كله تقريبا، ولكن هذه الرحلة كانت رحلة ممتعة جدا بكل ما فيها، حتى أن زوجتي قالت: كم سافرنا ولكني لم أجد سفرة ممتعة، ومذهلة بمفاجأتها، مثل رحلتنا إلى فلسطين.
وكانت الرحلة قد بدأت في اليوم التالي لوصولنا حين قمنا بزيارة بيت لحم، حيث كانت المصادفة الأجمل في احتفال بيت لحم بأعراس الميلاد، إلى أن ذهبنا إلى القدس في اليوم الثالث حيث كان التحليق الأكبر في حياتي، أن أكون ملتصقاً بهذه القبة التي كنا نراها فقط عبر شاشات التلفاز.. أن أكون ضيفها والمسجد الأقصى، أو أكون في محرابها، فهذا كان حلما يتحقق أمام عيني، ولقد تجولت في أزقة القدس وحاراتها. وكذلك ذهبت إلى الخليل، وحقا أقول إن كل مكان وكل شبر وبقعة في فلسطين تجد فيها جمالا مختلفا، تجد ثراءً حضاريا، وتجد تاريخا مشبعا بالرموز، مشبع بالدلالات الدينية والثقافية والإنسانية والجمالية، وأيضا كانت فرصة جميلة أن التقي بالشعراء الأصدقاء القدامى والجدد، ولذا فإنني أجد هذه الرحلة، رحلة رائعة جدا فشكرا لمحمود درويش الذي جمعني حاضرا لمرتين واحدة به في أكثر من مكان ومناسبة، وأخرى بفلسطين كونه الجسر الذي أوصلني إليها.
 
س: شاعرنا العراقي الجميل بعد هذه الوقفة في رحاب المكان لننتقل إلى رحاب الشعر، وبعد هذه التجربة الطويلة لك في هذه المساحة الشاسعة من النحت في قاموس اللغة الشعرية، كيف ترى أو تقييم الحالة الشعرية العربية في العقدين الأخيرين؟.
 
 
الشعر في الوطن العربي، أعتقد أنه مازال يتصدر المشهد في كل الفنون تقريبا، لكونه وكما تعرف، يدعى «ديوان العرب»، وماتزال ايضا الأجيال الجديدة تحفر في القصيدة، وتعطى تجارب جديدة مبهرة بعد تجربة السياب، والبياتي، ونازك الملائكة، حيث ظهرت تجارب جديدة الآن تجدها في المغرب وفلسطين ومصر وايضا العراق، وهذه التجارب الجديدة تجدها تواكب الحركة الشعرية العالمية، بثراء مواضيعها وايضا بتغييرات اشكالها، ولكن كما تعلم هناك ايضا معوقات كثيرة منها، محدودية القاموس اللغوي أو الفكري لدى بعض الشعراء، وايضا الرقابة الصارمة على موضوعات الشعر، وجميعنا يعرف أن الشعر يتجلى في التحليق والحرية أولا، والحرية هي العمود الفقري لأي عمل إبداعي، فكيف بالشعر وهو الكائن من الحرية التي تعد جناحيه المحلقان في كل الفضاءات.. للأسف الشاعر العربي يعاني من مقصات الرقيب، ولا أقصد الرقيب الحكومي وفقط، بل حتى الاجتماعية والدينية إلى آخره.
 
س: ونحن نتحدث عن الشعر في حضرة محمود درويش.. في حديث صحفي لدرويش، كان قد سُؤال عن أهمية الشعر، فاستشهد بحكمة أو مقولة إغريقية تقول: إن الأمة التي لا شاعر لديها هي أمةٌ مهزومة.. السؤال ونحن نعيش كل هذه المأسي التي نشهدها في كافة أركان الشرق الأوسط، كيف نكون أمة مهزومة ونحن لدينا كل هذا الكم من الشعراء، بل ولدينا إرث شعري تاريخي وبقيمة عالمية إن أخذنا بالاعتبار عمره التاريخي، والعرب قد خلدوا تاريخهم وقصصهم وأساطيرهم شعرياً، حتى أن القرآن يقال إنه يحملُ روحاً شعرية؟
 
 
نعم هذا صحيح، ولكن هناك شقان في كلمة صديقنا الراحل محمود درويش، فمن جانب صحيح أن الأمة التي لا شاعر لديها هي أمةٌ مهزومة كسيحة المعنى، وهناك ايضا لشكسبير وهو يقول: «إِحذَروا هذا الرجل، فهولا يحب الشعر» بمعنى أن الشعر هو التحليق الروحي، كما أنه الداعم الحقيقي لقوة البقاء، وهذا يذكرنا بمقولة درويش»على هذه الأرض ما يستحق الحياة» وهذا هو الجانب المشرق لهذه النظرية، ولكن الجانب المظلم، فيكمن في إغراق الشعر في الشعارات البراقة، والفجاجة اللغوية، وايضا في الادعاءات الكثيرة، ما أغرق الأمة في هزائم اضافية، ولنا في حادثة قصيدة ابن كلثوم وبني تغلب، خير مثل على ذلك.. الآن الشارع العربي - ليس فقط في الشعر وإنما ايضا في السياسة - غرق بشعارات براقة هائلة، وهي شعارات فراغة للأسف.. فأنت حين تمشي في الشارع الغربي في العالم المتقدم وأنا عشت في الكثير من دول الغرب، لا تجد هذه الشعارات البراقة أو الفخفخة اللغوية الفاجة، ولذا انتشرت قصيدة الهايكو أو قصيدة الومضة على امتداد العالم، فنحن ما عدنا نتحمل هذه البلاغة والمطولات، نحن الآن نحتاج إلى ومضة تقول لك باختصار ما يعتمل في الروح من ثورات ومن انكسارات ومن احلام مؤجلة.
 
س: أنت ولك ديوان شعر بعنوان «تأبط منفى» هل يمكن أن يتأبط الشاعر فعلاً لا شعراً المنفى كبديل عن الوطن وإن اجبر عليه؟ وأنت القائل: خسرنا البلاد خسرنا الأغاني ورحنا نجوب المنافي البعيدة نستجدي العابرين؟.
 
 ولي في الرصافة نخل وأهل
ولكنهم ضيعوا في الهتافات
 صوت المغني.
نعم عندما يُحاصر الشاعر أو المبدع في وطنه، بالتأكيد لا يجد أمامه إلا المنفى، والمنفى للشاعر ليس حالة طارئ، فأبرز شعر كتب في المنفى عبر التاريخ كان «مسخ الكائنات» للشاعر الروماني أوفيد، فقبل الميلاد هناك شعراء كثر نفيوا، والأمر في العراق كما في فلسطين التي شهدت شعراء خرجوا منفين وعاشوا منفيين وماتوا في المنافي، فالشاعر أو المبدع حينما يكون ضد سياسات القبح أو الظلم، أو الاحتلال، عندما يكون ضد هذه المنظومة التي تريد أن تطمس هويته أو تطمس روحه، بالتأكيد لا مفر له إلا الهجرة، وهو هنا لا يهرب للمنفى طمعا في راحة أو مال، وبالأصل لا راحة ولا مال في المنافي، ولنا أن نذكر قول ناظم حكمت الذي كان هو الآخر منفيا حين قال: وضعوا الشاعر في الجنة فصاح أريد وطني. فالمنفى عذاب، لا يمكن أن يكون وطنا، وأنا في قصيدة يوليسيس أقول:
«أيهذا الغريبُ الذي لمْ يجدْ لحظةً مبهجهْ
كيف تغدو المنافي سجوناً بلا أسيجةْ”.
فعلا المنافي سجوناً بلا اسجية، فأنت تجد كل شيء قد يوفره لك المنفى، ولكنه لا يمنحك حرارة الوطن، ودفئ العلاقة الإنسانية والروحية به. والشاعر كائن روحي.. في المنفى قد يكسب حياته والحرية التي لطالما حلم بها، ولكنه بالمقابل قد خسر اشياء كثيرة أخرى. على الشاعر أن يوازي ويُقدر.. الكثير من الشعراء عاشوا المنافي، محمود درويش عاش المنفى، والبياتي عاش المنفى الجواهري عاش المنفى وهذا قدر الشاعر الذي لا يملك خيارا امامه، عندما يكون بين سلطة الرقيب أو الموت.
 
س: يلحظ القارئ لعدنان الصائغ أنه يكتب عن المنفى كثيرا، في الاتجاه الآخر ماذا عن الذاكرة، ماذا تعنيأو تمثل الذاكرة لـعدنانالصائغ؟.
 
الذاكرة هي المنجم الكامل للشاعر، أنا استمد الكثير من موضوعاتي الشعرية من الذاكرة وامزجها بالخيال وأحيانا بالواقع، فعلا هو سؤال ذكي.. فقصائدي ماجة بالذاكرة، حيث تجد الذاكرة مسفوحة على الورق، هناك اسماء مدن، اسماء شوارع، اسماء اصدقاء.. أنا اترك للذاكرة أن تنسال على الورق دون أن أوقفها، وأحيانا يُضيف لها الواقع تجربة جديدة أو نصا جديدا، وبالتالي تمتزج الذاكرة بالواقع، وبالخيال، وكل هذا المزيح ما يصنعه الشاعر كي يؤسس لقصيدته الخاصة.
 
س: يلحظ القارئ لعدنان الصائغ أنه يكتب عن المنفى كثيرا، في الاتجاه الآخر ماذا عن الذاكرة، ماذا تعنى أو تمثل الذاكرة لـ عدنان الصائغ؟.
  
نعم بعد صراع طويل لاسقاط الطغاة في مجتمعنا العربي، للأسف وفجأة نجد صعود ديكتاتوريات أخرى ولكن هذه المرة باسم الدين، وباسم الاله، وباسم هذه الطائفة أو تلك، وكأننا لم نصنع شيئا جديدا، فهناك كان يقمعك باسم الوطن أو باسم الحزب، وهذا يقمعك باسم الله، وهذا أوسع وأكثر خطورة، ليقول لك أنا أمتلك المفاتيح، وامنحك صكوك الغفران كما حدث قبلا في أوروبا التي عانت ما عانت طويلا، إلى أن كانت ثورات الشعوب المتنورة التي استطاعت أن تسقط عرش الكنيسة، لتترك للمجتمع أن يؤسس حداثته وتطوره، وبالتالي شهدت اوروبا كما نرى كيف صعدت بسلم الحضارة إلى أعلى مراتبها، وهذا لم يدفعهم للتخلي عن دينهم، فدينهم موجود كم يجب أن يكون في الكنيسة، دون أن تفرض تعاليمها على الشارع.. المشكلة لدينا أن جميع رجال الدين بلا استثناء يريدون أن ينقلوا التعاليم الدينية إلى الشارع، وكأنهم ينقلون ما بالمسجد إلى الشارع، حان الآوان لأن نعيد النظر إلى تاريخنا، آن الأوان أن نفتح عقولنا ولا ننخدع بهذه الشعارات الفارغة.
اعطيك مثال آخر لهذه الشعارات الفارغة: دائما كنا نسمع عن الصراع بين الفلسطيني والاسرائيلي مع غياب الكثير من التفاصيل، حينما جئت إلى هنا وكما قلت لك تجولت كثيرا هنا وهناك، وقابلت الكثير من السائحين الأجانب ولكني لم أر ولم أجد سائحا عربيا واحدا، تحت شعار التطبيع الكاذب الخادع، فها أنا هنا لم ألتق وإسرائيليا واحدا، ولم اصافحهم، ولم اجلس معهم، بل اتيت لاجدكم واصافحكم واجالسكم، وتعاطفت مع شعبي وهو المسجون، هذا الغباء ضيع علينا فرص كثيرة، كان من الممكن أن يأتي الملايين من المسلمين وحتى المسيحيين لكون هذه البلاد ممتلئة بالكثير من دور العبادة التي لها مكانة تاريخية لدى العالم كله، هذه الوفود كانت يمكن أن تدعم الفلسطيني المحاصر وعلى كافة الصعد بما فيها الاقتصادية والثقافية على الأقل كي لا يشعر العدو أن الفلسطيني وحده، ولذلك الأمر به الكثير من الخلط واعتقده أمرا مقصودا كي نبقى في تخلفنا ونبقى معزولين ومهزومين على الدوام.
 
س: تحدثت عن الحرية في التحليق الشعري، مع تصاعد التيارات الأصولية سواء المسلمة أو المسيحية في العالم كله، كيف تنظر للعلاقة المتوترة أصلا بين الحداثة ومثقفيها وهذه التيارات الأصولية التي باتت تأخذ مكانة ما هنا وهناك؟.
 
إلى حد ما نعم، لأنني كنت أكتب في الخط الثالث من الكتابة، والذي وجدت ومجموعة من الشعراء، حيث إن المشهد الثقافي كان منقسماً إلى خطين بارزين، أحدهما سلك طريق الذهاب بالقصيدة إلى الغموض الفج أو اللا معنى وبالتالي لا تعبر عن أي شيء، مجرد رص للكلام، كما نجد اليوم على الفيسبوك، وهذا لا يلغي النصوص الإبداعية الجميلة التي تضيف جديدا، وهناك الطريق الآخر الذي سلك طريق القصائد الحماسية الفاجة، والذي يعلي من الخطاب الرسمي للحرب والتمجيد إلى أخره، أما خطنا الثالث الذي وجدناه راح يقدم قصيدة الخطاب المستتر الذي يجعلك قريبا من نبض الناس وصوت الشارع، وفي الوقت ذاته تقول كلمتك عن الحرب بعيدا قدر الإمكان عن مقص الرقيب وإن اكتشفها بعد حين.
وهنا كانت مساهماتي التي خرج بعضها في أثناء الحرب، ومنها «العصافير لا تحب الرصاص» الذي صدر إلى أن نبه كُتاب التقارير - كما هو دورهم دائما في كل مكان - السلطة إلى هذا الديوان فمنع، ومن ثم كان لي ديوان « سماء في خوذة» الذي نشر بداية بصعوبة بالغة إلى أن منع هو الآخر بسبب ذات المقص الذي منع العصافير. ولذا أعد بعض النقاد أن بعض قصائدي كانت بمثابة التاريخ السري للحرب الغير معلنة.
 
س: في ختام لقائنا هذا، ماذا يقول الشاعر للمحتل؟
لا يمكن اجلاء الشعب عن أرضه، فكل التاريخ من هيرودس إلى اليوم يقول: إن الشعب باق والطغاة دائما زائلون.
 
س: وماذا تقول للشعب الفلسطيني؟
الشعب الفلسطيني هو من يقول لنا، هو الذي يعلمنا، علمنا الكثير بصموده وبصبره والآمه، وعليه هو من يقول لي، فأنا إن قلت شيئاً، فإني فقط أبعث برسالة محبة ووردة حب من بغداد، ومن العراق وأهل العراق سواء كانوا في المنفى أو من داخل الوطن، رسالة حب وتضامن ومحبة تقول لكم إن الجرح واحد، وأن لابد لليل أن ينجلي وللقيد أن ينكسر، قصيدة الشابي العظيم، إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، وهي ايضا ترتبط بمقولة محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.