الإثنين  23 كانون الأول 2024

عن رواية "اسمي أحمر" محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ

2014-11-25 01:27:37 AM
عن رواية
صورة ارشيفية

 ضوء في الدَّغْل

تؤثث رواية"اسمي أحمر" للروائيِّ التركيِّ أورهان باموق عالمها السَّرديّ بالأبعاد الجمالية والفلسفية التي تكتنزُ بها النقوش الإسلامية القديمة والمنمنمات. فتجعلُ من هذه الخلفية رؤية لمناقشة فكرة الخصوصية الحضارية، خاصة وأنَّ النقوش الإسلامية في الفترة التي يعودُ إليها الكاتب لم تكنْ في معزلٍ عن التأثير الغربيّ ورؤيته للرسم؛ تلك الرؤية التي تختلفُ اختلافا جذريًّا عن الرؤية الفنية الإسلامية من حيث أنَّ هذه الأخيرة تأسستْ على قناعة دينية تحرّم التصوير وتلعن المصوّرين!!، وفي الآن نفسه، ورغم انفلات بعض المفسرين من هذه الرؤية وتفسيرها بما يسمح بالنقش، تضع الحدود التي يجبُ أنْ يقف عندها الفنَّان حتى لا يقع في المحظور، أيْ حتى لا يقلِّد الخلقَ الإلهي. مما سيؤدِّي إلى تغييب المنظور من اللوحة وتغييب الملامح الإنسانية، لأنَّ فهم النقَّاشين القدماء لمهمَّة الفن يجعل النقَّاش معنيًا لا بنقلِ ما تراهُ عينُه هو، بل بمحاولة التعبير عمَّا تراه عين الله.

من هذه الخلفية الفنية التاريخية تنطلق الرواية، وتفتتحُ حكايتها بمقتل النَّقَّاش ظريف أفندي، المذهِّبُ الذي يشتغلُ على كتابٍ يشرف عليه زوج الخالة. بل يكون ظريف أوَّل شخصية تفتتح الحكاية، في فصل بعنوان:"أنا ميت"، بالإخبار عن موتِه حين كانتْ روحُه في الجبِّ الذي رماه فيه قاتله تنتظر أنْ يتفسَّخ هذا الجسد حتى ينتبه الناسُ إليه فيخرجونه ويقيمون جنازته. ومنذ البداية يفهم القارئ بأنَّ الجريمة وقعتْ لسبب غريب، فالقاتل لم يقتل ليسرق الضحية ولم يأخذ منه أي شيء، وإنَّما قام بالجريمة لغرض الفنّ!!! لأنَّ المقتولَ كان يردد أفكار رجل دين يدعى الأرضرومي متأثِّرا بها، وهي على درجة من التَّطرّف بحيثُ ترى في الرسم مروقا عن الدين، وفي رسم الإفرنجة كفرا لأنَّه يوضِّح الملامح ولا يخفيها، ويصوِّر الأشياء كما هي في الواقع، وبهذا يصبح متعدِّيا على ما يختصُّ به الله. وهي فكرة رأى القاتل أنَّ انتشارها سيجلب الويل للنقاشين وقد يقضي تماما على النقش خانة.

يحدثُ هذا الجدلُ كلُّه بسبب كتابِ نقشٍ يعدُّه زوج الخالة، زوج خالة قرَّة عاشق شكورة، بطلبٍ من السُّلطان. ويتأتَّى الجدلُ بسبب تأثُّر زوج الخالة بالرسم الإفرنجي، ومحاولته أنْ يقدِّم الكتاب وفق تلك الرؤية التي تؤمن بالمنظور وتوضيح الملامح، وهي نفسها الرؤية التي تعتبرها الثقافة الدينية آنذاك كفرا، ويعتبرها بعض كبار النقاشين كالأستاذ عثمان تمرُّدا على أصول النَّقش الإسلاميِّ، وطمسا لجهودٍ متراكمة ضاربة في العمق القديم. ومن جهة أخرى حدث الجدلُ بسبب السِّريَّة التي أحاط بها زوج الخالة كتابه لدرجة جعلتْه يطلبُ من النقاش أنْ يرسم شكلا في صفحة غير كاملة دون أنْ يعرف ما سيُرسم فيها بعد ذلك.

ستمتدّ يد القاتل، الذي سيعرف القارئ في النهاية أنه النّقاش زيتون، إلى زوج الخالة فتنهي حياته، مما يضع قرّة في قلب الأحداث بل يجعله المعنيّ الأوّل بإيجاد القاتل. فهو كان عاشق شكورة التي ما رآها منذ اثنتي عشر سنة فكانت قد تزوجت من فارس ذهب إلى حرب ولم يعد، وسيصبح قرة زوْجها بعد مقتل أبيها، الذي أخرّت إعلان خبر موته لتنال طلاقها من زوجها الغائب منذ أربع سنوات، وتتزوَّج من قرّة. هذا الواقع سيجعله من جهة يسعى للدفاع عن زوجته وحمايتها بالبحث عن قاتل والدها، ومن جهة أخرى سيجد نفسه يحميها ويحمي نفسه من غيرة حسن أخي زوجها الغائب، الذي يعشقها ويسعى لإثبات بطلان الزواج وإرجاعها إلى بيتهم باعتماد كل الحيل.

تتأتَّى قيمة هذه الرواية من الموروث الفني الذي تتكئ عليه، والعرض الذي تقدِّمه للقارئ لكثير من قصص النقوش الإسلامية والحكايات التي رافقتْها. لهذا يجد الواحد نفسه-حين يقرأ مُشاهدا-يطل من نافذة الرواية على الجماليات الفنية التي تميَّزت بها المنمنمات، ومن زاوية أخرى يجد نفسه مستمعا لما ترويه الشخصيات من قصص وآراء حول الفنّ والحب والحياة، وهي جميعا شخصيات ذات ثقافة وفنّ بما في ذلك القاتل. ولذا نجح الروائيُّ في الإمساك بالقارئ على مستويين؛ إذْ وأنت تقرأ تجد نفسك تكدُّ للكشف عن القاتل المختفي بين النقاشين، ولكنّك في الوقت نفسه تظلُّ تتابع قصة النقوش الإسلامية وتاريخها واختلافها من حيث الرؤية والخلفية الدينية عن الرسم الإفرنجيّ. ولذا فهذه رواية يجب أنْ تُقرأ أيُّها القارئ الجميل.