السبت  21 كانون الأول 2024

البئر بقلم محمّد جبعيتي

2018-09-12 12:18:17 AM
البئر بقلم محمّد جبعيتي
محمّد جبعيتي

ها أنا هنا حيثُ لست أدري، عتمة وبرد ووجعٌ في المفاصل، خُيّل إليّ أنه بئر، فثمة فوهة في الأعلى، يبدو منها القمر أكثر وضوحًا، إلا أنّه مكان واسعٌ وعميقٌ كغابة، فالأشجار تحاصرني، والرياح تعوي مثل قطيع ذئاب، شعرت أنّي أنبثق من رحم اللاشيء، وهذه لحظةُ ولادتي، دون أم أو قابلة أو صوت إنسان. لم أشعر بالخوف وكان الأمر عاديًّا، بل أكثر من ذلك، شعرت بملل ولامبالاةٍ فظيعين. زحفت أصابعي كعشر رصاصات؛ لتتفقّد أعضائي، ثمّة حراشف فضيّة تلمع تحت ضوء القمر، كأنّي سحليّة، واصلت رحلتي الاستكشافية في الجسد، اصطدمتُ ببقايا مَعركة.. جروحٍ وطعنات: عشرون جرحًا وخمس طعنات. سائلٌ لزجٌ ودافئ، رائحته ثقيلة، غمستُ رأس سبّابتي في السائل وتذوقته، طعمه مالح أشبه بطعم الصَّدأ، هذا دم ينزُّ من الحراشف بدل العرق، قلت لنفسي، وحين أطلقت رصاصاتي -أصابعي صوب القلب، مرّت الرصاصات عبر الثّقب اللانهائيّ، فتخيّلت أنّ قلبي صار نفقًا، وما الدم غير قذارة هذا النفق، ولأطمئنّ قلت هذه صورتي في الخيال ولعبة المجاز، وهمٌ حائرٌ في رأس العالم -البئر، إلا أنّني شكوكيٌّ بالفطرة، فاقترحت: هذا أنا، وهذه حقيقتي.

في الحلم، تركت ذراعي في السرير؛ لكي لا تشعر حبيبتي بالوحدة، وتركت عينيّ للأعمى؛ لأني لم أعد أرى ما أريد، أضعت طريقي إلى المعنى، وبنيتُ بيتًا من الخواء، وسكنته، أوقدتُّ فيه نار الالتباس، وعزفت على آلة الهُراء؛ نكايةً بالعالم، وفوق كومة قش ضاجعت كل الوصايا. "المجدُ لمن قال لا، العدالة، الحريّة، كرامة الإنسان" هتافاتٌ تحتشدُ في عمق البئر، ولا تبلغ فوهته. أرى أنامل فتاة تبحث عن دميتها بين الرُّكام، أهذه فتاة أم قربان يحاول الخلاص من البئر بالموت؟ أضواءٌ تتقاطع، تتشابك، تتواشج في فضاء البئر، تبدو جذّابةً بألوانها الفاقعة، بأشكالها وهي تتساقط زخات ضوء، أهذه ألعابٌ ناريّة احتفاءً بالحياة أم قذائف صاروخيّة وفاءً للعدم؟ ضيّعتني لعبة العوالم، فلا أنا في الحقيقة ولا أنا في الخيال، وما دمت بين بين، فلست ...

وهذه المرأة التي تئنُّ تحتي، أسمع لهاثها في أذنيّ، وأشعر بعرقها البارد على جلدي، كأنّي أنا جسد الجنديّ، وبعد انتهاء الفعل، تسرح في الأرض لتثير به غيرة النساء، فالاغتصاب من جنديّ شرف في زمن الخذلان، والجنس مع العدوّ موقف، تقول: هذه النياشين على كتفيه سلّم صعود. أمُّ تعدُّ أصابعها في يأسٍ للنّجاة من النّسيان، أو إليه!، تنظر إلى الزاوية الأخرى في البئر، منتظرةً ابنها الذي ذهب إلى الحرب أو الحب، وحين ترجع لتعدَّ أصابعها من جديد، تجدها ناقصة، فينسحب وجه ابنها إلى الزّاوية أكثر.

كراسي منتشرة، هل هي لعبة أطفال في مدرسةٍ ابتدائية أم قمّة أمم وحضارات في حظيرة؟ على كلّ حال، الكرسي يقف على أربعة أقدام، مثلما يقف الإنسان على قدمين، أما مؤخرات الجالسين فهي متغيرة، بين مؤخرة طفل وبين مؤخرة رئيس دولة و ... إنسانٌ يذبح أمام الكاميرا، الدم يطرطشُ، الصّوت فحيح أفعى. البئر مشنقةٌ، يندسُّ الموت في حضن المكان، حاولت الكلام، صار يابسًا، وطار النوم مثل الحمام، وأرجعني السؤال إلى البدايات: من أنا؟ من أين وقعتُ؟ وأين الأنبياء؟ أنبياء الضّوء والفوّهات، هو البئرُ لا يضيء سوى داخلي، والعتمة كلّ شيء، أحبُّ مترَ السماء الذي أراه، ورائحة الملح في دمي. البئر سكة حديد، بلا محطاتٍ في الطريق، بلا غرباتٍ جديدة، رحيلٌ دون بلادٍ نصل إليها، ودون أهلٍ نسكن إليهم، أو عناوين. أتصبّبُ مطرًا، وأدخل عبر أصابع حبيبتي إليّ، لأستردّ ريحي الضائعة، وأعيد للجسد الجنون والرؤى، أتبع خيط النور في شهوتي، فتأكلني وحوش الرغبات في الجسدين.

أنام أم أحلم، لا أدري، هل متُّ؟ ... ها أنا هنا حيث لست أدري، عتمة وبرد ووجعٌ في المفاصل، خُيّل إلي أنه بئر، فثمة فوهة في الأعلى، يبدو منها القمر أكثر وضوحًا، إلا أنه بئر واسع وعميق كغابة، فالأشجار تحاصرني والرياح تعوي كقطيع ذئاب، شعرت أنّي أنبثقُ من رحم اللاشيء، وهذه لحظة ولادتي