الأحد  22 كانون الأول 2024

عندما تلبس"جريدة" أثوابها الداخليّة بقلم: مهنّد ذويب

2018-10-11 07:44:30 PM
عندما تلبس
مهنّد ذويب

اشتهر محمّد عبده بلعنه المَشهور للسّياسة، رغم أنّ اللّعن صفة سيئة، فهي وبحسب ما قال لي جاري الطّفيلي: "بتلف بتلف وبترجَع لصاحِبها"، ولا أعلم لماذا نحمِل كلّ هذا السّخط على الكَلمة، رغم أنّنا لا نمارسها، إنّنا نصدّر عواطفنا كآراء سياسيّة، ونصنعُ من الكلمة قالبًا –كقالب الجاتوه- ونسكب داخِله الدين، والمصلحة، واسم العائِلة، والطّبخة المفضّلة، ونخرج برأي سياسي محمّر، وعلى سيرة قالب الجاتو فإنّني أستذكر الضّفة الغربيّة التي تستمرّ إسرائيل بابتلاعها، بينما تلبس أمام العالم وجهًا يشبه وجه النّباتيين، إسرائيل نباتيّة ولا تأكل الأرض، والفلسطينيون لا يريدون التّفاوض معها حول القطعة المتبقية من القالب؛ لهذا فإنّ عاموس يادلين رئيس معهد أبحاث الأمن القومي يرى أنّ الحلّ الوحيد هو ابتلاع نصف القطعة المتبقيّة، وإعلان الحدود من طَرف واحد، وهكذا تكون الشّوكة في ملعب الفلسطينيين، يوصف هذا بالإحسان (أن تعامل الفلسطينيّ كأنّك تراه، وأن تحبّ له 13% مما تحبّ لنفسك).

صَحيفة النّهار اللّبنانيّة، وفي عددها الصادر اليوم ملأت صفحاتها بالأبيض، هذه خطوة متوقّعة، وعلى الصّحف العربيّة أن تحذوا حذوها، كأنّها تقول: "لا شيء، الأخبار هُنا منتهية الصلاحيّة، الشّوكة متعفّنة، السياسيون "يطبخون على نار جهنّم"، الأخبار مكرّرة كرائِحة القمامة في شوارع بيروت، محرر الجريدة لا يغيّر ملابسه الداخليّة خوفًا من تغيّر الأخبار، موزّع الصّحيفة رجل آلي، والذي يكتب الأبراج رجل مختل عقليًا، وحتّى أنّها كانت تقصدني فقالت في الصّفحة قبل الأخيرة أنّني لا أستعمل لفظ صحيفة وجريدة في نفس الفقرة كمحاولة للخروج من النّمطيّة. ذكّرني هذا بابنتي التي طلبت منّي أول أمس أن أكتب لها أحبّكِ على يدها، وعندما أخبرتها أنّ القلم لا يكتب، أصرت أن أقوم بهذا، ثمّ وبحركة طفوليّة أضاءَت لمبةً زرقاء في مؤخرة القلم، فظهرت الكِتابة، ماذا لو أضاء الناس اليوم أضواءً زرقاء على صفحات الجريدة/الصّحيفة؟؛ لأنّ "صوت اللّيل أزرق"، كما قال درويش في بيروت على الأغلب.

جدة تميم –إم عطا- سبقت جريدة النّهار بنحو ربع قرن، والكّهل الثمانيني الذي يحدّثني عن أيام الانتداب البريطاني كلّما زارني يؤكد أنّنا كفلسطينيين لم نخرج بعد من عنق الزّجاجة، أو من أسفل ظهرها –بأفضل تعبير-، كأنّنا ما زلنا ندخل خمّ دجاج الحُسيني، نحثو البيض الأزرق أيضًا على رأسِنا، وننتعل قضايانا إلّا الحقيقيّة منها، ونخطط لاجتياز سور الماوراء في النّوم، ونكرّر ذلك بلا قصدٍ واضح سِوا الملل، وإغلاق مكتب منظّمة التّحرير في واشنطن، واستقالة "نيكي"، ولاسمها وقع فظيع بالمناسَبة.

في المقهى الذي أجلس فيه، تتكوّم الكراسي فوق الجَميع كحالة طبيعيّة، الكؤوس تشرب الشّفاه، صاحِب المقهى يدفع للزبائِن، الرّجال يغزون شعرهم بالأنامل كفعلٍ نسائيّ محض، وحتّى أنّ شابًا في الزاوية اليسرى خلع منديله لأنّه شعر بالبرد رغم خوفه المطلق من أمّه، وجواسيسها، وفئران جدّته حُصّة، السّجائِر تهرّب بشكلٍ طبيعيّ كأولاد الحرام، والجميع يقامر على امرأة سوداء بكلّ ما يملك، وهي –المرأة السّوداء وليس السّمراء- ليس لها وجه، لا أعرف على ماذا يقامرون، إنّهم يشبهون اجتماعات جامعة الدّول العربيّة في أفضل أحوالها، وربّما أقل من القمم العربيّة، فهم لم يعرفوا شيئًا عن الصّواريخ "البلاستيكيّة" بعد.

الحديث عَن صفقة القرن أصبح برستيجًا ضروريًا لمرتادي المقاهي الشّعبية –بعكس هذا المَكان-، الأمر مقرف لدرجة أنّك تترك مقهى شعبيًا لتجلس في قمّة عربيّة، تهرّب السّجائِر، تتكلّم بهاتِفك تحت الطاولة، وتقول: "اقعدي يا هِند" بدل أن تنادي النادِل. صفقة القرن والتي أعادت إسرائيل رسمها فوق خطوط الرّصاص الموضوعة بقلمٍ بنفسجيّ أصبحت واضِحة، ولا فائِدة لاستمرار اجترارها يا سادة، وأنا هنا أجترها بكل الأحوال، لكن أبصقها وهذا فرق كبير.

وقريبًا من هذا، فإنّ قضيّة عهد التّميمي تُسحب إلى المثلّث ذاته، وليسَ من الحكمة أن أكرر فعلتي السابقة مع صفقة القرن، لكن أتمنى أن لا أكون مضطرًا لكتابة مقالي القادم في الجريدة بخطٍ سريّ يراه الجميع بلونٍ أبيض، مقالٌ فارغٌ في عين الناس ستراه ابنتي بقلمها الأزرق سيئًا جدًا، وخادشًا للحياء العام، (+18) في أحسن الأحوال، وتنهاني عن تكرار هذا خوفًا من مُصادرة لساني من معرض الكتاب القادِم.

أفكّر الآن بنزار عِندما قال: "وجرائِد تخلع أثوابها الداخليّة"، فهل لبست جريدة النّهار اليوم ثوبًا سيزعج الزّعيم، الذي يوطّد العلاقات اللّيليّة في الجرائِد، وهل سيزعج شيخ السّعوديّة الذي يرى أنّ ممارسة الزّعيم للفاحشة على الفضائيات أمر طبيعي، وهل سيزعجُ هذا "الجرائِد المَلط"؟.

 "اللّيخة" هذه، و"الهيطليّة"، والخميس الذي يُشبه الأحد عدا أنّ رب الحرب لا يرتاح فيه، وأنا الذي لستُ وحدي، ولا جريدة معي، ولا أعاني من أيّ صداع، ولا أفهم في السّياسة، ولا في الدين، ولا في شاويرما رام الله، والأرصفة التي تعجّ بالسيارات، وقدرتي على الكتابة وملاحظة كلّ تفاصيل الحياة في اللّحظة ذاتها، كل هذا يدلّ على شيء واحِد هو أنّني الوحيد المُصاب بداء تمدّد الضوء، وهو مرضٌ نادرٌ يصيبُ كريات الدّم الزّهرية، يجعل الكتابة فعلًا أشبه بالصّرع، والحياة رحلة أشبه بالنّوم.

عليّ أن أشير في النّهاية إلى الطاولة المقابلة، والتي يجلس (فيها) شابان وثلاثة فتيات يلعبون الجرأة والصّراحة، وعلى ما يبدو فإنّ تجهّمي المنتقد أثار شهيّتهم للسّخرية، فاقترح أحدهم أن تقوم صديقته بطلب قداحة منّي، ربّما افترض أنّني سأقتلها على الأغلب، لكنّني لم أتردد في إعطائها القداحة، هذه فرصة جيّدة لإشعال سيجارة من أخرى، وفرصة جيّدة لتفنيد ظنونه، والتّشبه بالبشر اللّطيفين.