الأحد  22 كانون الأول 2024

وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ بقلم: عبد الرَّحمن بسيسو

مقتطف من نص نثري شعري ممسرح بعنوان: "ما تقوله درة الأرض أو هكذا تتكلَّم فلسطين {الرسالة الثانية}:

2018-10-23 02:13:11 PM
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ
بقلم: عبد الرَّحمن بسيسو
عبد الرَّحمن بسيسو

الحدث الثقافي- آراء- خاص

"غالباً ما كانتْ غَيبَتُكَ، وغَيبَةُ مَنْ كُنْتَهُ مِنْ أبْنَائِكَ الْبَحَّارةِ والْمَلاَّحِينَ الْمُغَامِرينَ الشُّجْعَانْ، تَطُولُ، وما من مرَّة عُدْتَ فيها بعدَ غيبةٍ طَالتْ، إلاَّ وشَرَعْتَ، فَورَ مُلامَسَةِ أقْدَامِكَ شَواطِئَ بلادِكَ، في الإعْدَادِ للرَّحِيلِ نَحْوَ أُفُقٍ آخرَ لخَوضِ مُغَامَرةِ كَشْفٍ جَدِيدْ، فقد كانَ لِخَطْوكَ الواثقِ فوقَ صَدْريَّ الرَّحْبِ أنْ يَفْتَحَ أمَامَكَ آفاقَ الرُّؤى الحُرَّةِ، وفضاءَاتِ الْخَيَالْ الطَّليق.

وذاتَ مُغَامَرةٍ وغيبةٍ طالتا حتَّى أزاحتا عن عُيُونِ أُمِّكَ قُدْرة الإغْمَاض، ظَلَلْتُ أُبْصِرُهَا طيلةَ الوقتِ وَاقِفَةً على الشَّاطئِ ضَارِعَةً إلى السَّمَاءِ بابتهالِ مَوصُولٍّ يَصْعَدُ مِنَ الْقَلْبِ، يَرْجُو عَودَتِكْ، وظَلَلْتُ أُبْصِرُ حُرَّاسَها الأَشِدَّاءَ، وفِدائِييها الْبَواسِلَ مِنْ أبْنَائكَ، يَنْتَشِرُونَ، ضَارِعِينَ، وبِكَامِلِ الْيَقَظَةِ والأهْبَةِ، حَوْلَها، وفي كُلِّ تُخْمٍّ وثَغْرٍ وهَضَبةٍ ورابيةٍ ووَادٍ وسَهْلٍ وجَبَلْ، فيما كانَ أبناؤكَ الآخرونَ مِنْ زُرَّاعٍ وحُصَّادٍ ومَلاَّحين وصيَّادينَ وتُجَّارٍ وأصْحَابِ مِهَنٍ وحِرَفٍ وصَنائعَ وعُلَمَاءَ طبٍّ وفلكٍ وجَبْرٍ وهَنْدَسَةٍ وحِسابٍ وصِباغةٍ ولغةٍ ومؤرِّخينَ وفنَّانيَن وفلاسفةٍ وشُعَراءَ ومُدَرِّسينَ وطُلاَّبِ عِلمٍ وَحًكَماءَ وأُمراءَ مُدنٍ وعرَّافينَ وكُهَّانَ مَعابدَ، يَحْفَظُونَ، مِثْلَ غَيرِهِمْ منَ النَّاسِ، وصَايا السَّماءِ، مُنْهَمكينَ كُلٌّ في طلبِ رِزْقِهِ، وأداءِ عَمَلهِ، مَسْكُونينَ بأمِّهم، وبانتمائهم إليكَ، ومبتهلين إلى العليِّ القدير، بقلوبٍ صامتةٍ يُلهبُ غيابُك شِغَافَهَا بالأسى، أنْ يُعِيدَكَ إليهم سَالماً غَانِمَاً مَوفُورَ الْعَافِيَة والنِّعْمة.

وإذْ كُنْتُ أُبْصِرُكَ، وأَحُسُّ بأنفاسكَ العَطِرةِ تُلامسُ بشرتي، وأَسْمَعُ وقْعَ خَطْوكَ الْوَاثِقِ على الْيَابِسَةِ وفَوقَ الْمَوجِ، إذْ كُنْتَ تَأتِي خَاطري على مُهرة الحدسِ، فلا تُفارقني ولا أُفَارِقُكْ، كُنْتُ أُطَمْئِنُ قَلْبِي عَلَيْكَ، فَتَهْدأُ دقَّاتُهُ وتنتظمْ، فَتَسْتَعِيدُ أُمُّكَ بَعْضَ بريقِهَا مُنْتَظِرةً، بلهفةِ الأمِّ، عَوْدَتَكْ كي يَغْمُرُهَا الْبَرِيقُ.

وكانَ أنْ حَلَّقتْ ذاتَ أصيلٍ في أجواء بلادك أسرابُ يَمامٍ ناصِعَة البياضِ، ظلَّت تأتي من جهةِ البحرِ ثُمَّ تَرجِعُ إليه مُحلِّقةً على هيئةِ سِهَامٍ تُوجِّهُ الأبصارْ، وسِرْعانَ ما استجابَتْ أمُّكَ وأبناؤكَ لمشيئةِ اليمامِ، فأبْصَرَتْ وأبْصَرُوا راياتِ سُفُنٍ وأشرعةً رفرافةً تَمْخُرُ عُبَابَ الْبَحْرِ آتيةً من الأُفُقِ الْبَعِيدْ، وما كانت تلكَ إلا راياتُكَ الأرجوانيةُ، وأشْرِعَةُ سُفُنِكَ العائدةُ إلى قَلْبي المِعْطاءِ تَضُخُّ في عُرُوقِهِ أجْمَلَ ما عَرفَتهُ حَضَارةُ الإنْسَان وأَنْبَلَهُ.

وحينَ اقتربتِ السُّفُنُ من الوَسَطِ المرئيِّ مِنْ أُفُقِ الْبَحرِ، رأيتُكَ، كما رأَتْكَ أُمُّكَ وأبناؤكَ حُرَّاسُ شَواطِئكَ الْوَاقِفِينَ بِأُهْبَةٍ على رَوابي الشَّواطئِ الْعَالِيةِ، تُغادرُ مَتْنَ السَّفينِ وتَمْضِي مَاشِياً فوقَ الْمَوجِ، وكأنَّ سَطْحَ الْبَحْرِ مَتنُ سَفِينَةٍ مُمْتَدٍ يَسْتَقْبِلُ خُطَاكْ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تقفزُ سَابِحَاً في مَدى الْمَاء، فإذا بالْبَحْرِ يَبْسِطُ ذِرَاعَيهِ سَاحِبَاً السُّفُنَ إلى شَاطِئِهِ، وإذا بالرِّيحِ تُرْخِي كفَّيهَا كَي تُسَاعِدُهُ، وإذا بالسُّفنِ تَرْسُو على الشَّاطئِ في مُحَاذاةِ مَراسيها، مُسْتَسْلِمَةً لِسَواعِدِ أبْنَائِكَ وأكفِّهُمُ التي شَرَعَتْ تَعْتَنِي بهَا، وتُفْرِغُ حُمُولَتَهَا، وتُرحِّبُ بالضُّيوفِ الآتينَ على مَتْنِهَا، وتُقدِّم لهم الْمَاءَ، والْبُرْتُقَالَ، وأرغفةَ الخبزِ السَّاخن الْمُشْبَعِ بالزَّعْتَرِ الْبَريِّ، وزَيْتِ الزَّيتُون.

ثُمَّ رأيناكَ، مرَّاتٍ ومرَّاتٍ، تُكَرِّرُ الصُّعودَ إلى السَّطْحِ مَاشِيَاً فَوقَ مَوْجِ الْبَحْرِ، ثُمَّ قَافِزَاً مِنْ جَدِيدٍ إلى أعْمَاقِهِ الْمُوغِلَةِ، فإذا بكَ تَعثرُ، في المرَّة الأخيرةِ التي أطلتَ فيها المكوثَ في قاعِ الْبَحرِ والتي لم يَكُنْ لأحدٍ من النَّاسِ أنْ يُبْصِرَكَ خلالها سِوى أُمّكَ وأَنَا، عَلَى غَارٍ فَسِيحٍ سَحِيقٍ يُوغلُ قاعُهُ صَوبَ أعْمَاقٍ تَكَادُ تُلامِسُ شِغافَ قلبي، وأطرافَ بِشْرَتِي.

كان ذلك غَاراً ذا مَدْخَلَينِ واسعينِ يَنْفَتِحُ أحدُهُمَا على جِهَةِ الشَّاطئِ، فِيمَا يُفْضِي الآخرُ إلى غَدِيرٍ يُفْضِي إلى مَداخِلِ أقبيةٍ تُفْضي إلى شَواطئ عديدةٍ أخرى؛ كانَ غَاراً على يَمِينِ مِدْخَلِه المَفْتُوحٍ على جِهةِ الشَّاطئ ينبوعُ مَاءٍ عَذْبٍ قَرَاحٍ يُشَكِّلُ غَدِيراً يَتَوضَّأُ فيه كلُّ داخلٍ إليهْ؛ غَاراً تُشَكِّلُ جُدْرَانه العاجِيَّةُ الْمَكْسُوَّةُ بِعُشْبٍ مُخْمَلِيٍّ قَبْواً فَسِيْحاً في آخِرِهِ مِحْرابٌ يَمُوجُ بالنُّور، وتَعْلُو سَقْفَهُ قُبَّةٌ مُنيِّرةٌ تُبْحِرُ في سَمَائِهَا شُمُوسٌ كَثِيرَةٌ، وأقْمَارٌ ونُجُومٌ، وكَواكِبُ لامِعةٌ مُضِيئةٌ شكَّلتها أصَابعُ الْبَحْرِ مِنْ لؤلؤٍ وزُمُرُّدٍ ومَرْجَانَ، وتَكْسُو جُدْرَانَهُ كَلِماتٌ وعِبَاراتٌ وجُمَلٌ برَّاقةٌ خُطَّتْ بِماءِ ورُودٍ أُرجوانيةٍ، وَعُشِّقَتْ بَحبَّاتِ دُرٍّ وزَبَرْجَدٍ وَمَرْجَانٍ وعُروقِ زَنْبَقٍ بَحْرِيٍّ وَرَيْحَانٍ، فلا تَكَادُ تَعْبُرهُ الأمْوَاهُ الْمُتَعدِّدةُ الألْوَانِ، الآتِيَةُ مِنْ كُلُّ قَبوٍ، حتَّى تَصْطَبِغَ بلونِ الأُرْجُوانِ فائحاً بعَبِيرِ الزِّنْبَقِ والرِّيحانِ، فَتَصْفُوَ وتَتَجَوهَرَ، فَمَا أنْ تَرْجِعَ إلى الْقَبْوِ الَّذِي مِنْهُ جَاءتْ حتَّى تَجْتَافَ أمْواهُهُ جَوْهَرَ خَصَائِصَهَا الجديدة، فَتَتَمَاهى بها، فَتَنْفَتُحَ على أنوارِ السَّماء، فَتَسْتَنِيرَ، وَتَسْمُوَ، وتجعلَ الأقبيةَ قِبَاباً مُنيرةً تنفتحُ على سَماواتٍ ذات فضاءاتٍ مفتوحةٍ على آفاقٍ لا تُحَدُّ، ولا تنتهي، ولا تتناهى".