الأحد  22 كانون الأول 2024

بحر ميت، لم يشبع موتا؛ فأحيا موته من جديد! بقلم: سماح خليفة

2018-10-26 07:34:35 PM
بحر ميت، لم يشبع موتا؛ فأحيا موته من جديد!
بقلم: سماح خليفة
سماح خليفة

قلبي ما عاد يحتمل....
حاولت أن لا أفكر بتلك الزهور التي أعدمت السيول طفولتها، والتهمها غول البحر الميت قلبه، حاولت ان أترحم عليها بصمت، أن أحتفظ بدمعتي الحرّى في مقلة عيني العاتبة، حاولت أن لا ألتقط مشهدا للأم التي حرصت على إعداد الشطائر والشكولاته والعصائر وترتيبها في حقيبة ولدها دون أن يفوتها وضع علبة للمحارم المعقمة والمياه المعدنية حرصًا منها على نظافة كَفّيه الصغيرتين اللتين ستقبلهما قبل ذهابه، كي لا تعلَق بهما جرثومة تُعييه أو تشوه جمال ابتسامته وبراءتها.
حاولت أن لا أرصد مشهدا للطفل المستلقي على سريره وعينيه تحدقان في السقف ترسم خططا لمشاكساة أصدقائه منذ اعتلاء أول درجة في الحافلة وحتى العودة.

حرصت على منع مخيلتي المتمردة من التقاط صورة دقيقة للنور الذي يشع بكلمات امتنان من عيني طفل لأمه التي أيقظته باكرا كي لا تفوته حافلة الرحلة، مما اضطره تقبيلها على عجل والتلويح بكفه الصغيرة المنبثقة عن جسده الصارخ بالبهجة.
حاولت أن لا أتسلل لذاكرة الطفل الذي يفك أحجية الهدايا التي عليه إحضارها لأفراد عائلته؛ سلسة تحمل قلبا ينبض بالحب في عنق والدته، قلم لوالده يخط به كل صباح لعائلته كلمة "أحبكم"، بندقية لأخيه الأصغر كي تترصد أشباح الموت إن غافلتهم يوما.
حاولت أن لا أطرب على أصواتهم وهي تغني وتنشد في قلب الحافلة قبل لحظة سقوط الجسر "سيدنا يا سيدنا، الله ينصر سيدنا، هاشمي والكل يقول سيدنا يا سيدنا".
تاهت أصواتهم يا سيدنا في خور الإهمال وغضب الماء، فكيف ستنصرهم يا سيدنا وتنقذ طفولتهم؟
حاولت أن لا أتسلل إلى قلوب أمهاتهم وأن لا تؤرقني دقات قلوبهن وهي تتجاوب ودقات الساعة المصلوبة على الحائط، ترقب طرقات أصابعهن وهي تحصي أسباب القلق الذي غافلها دون سابق إنذار.
حاولت أن لا أتسمّر مشدوهة في فم فاغر وحدقة عين تتسع بقوة إبصار تلتقط قبضة الماء صوب النافذة الذي جاهد الطفل من أجل الجلوس بجانبها، بل خاصم زميله في سبيل ذلك، وأن لا ألمس قلبه الذي جمدته اللحظة وهو يرتعش لحضن والدته الذي فقده منذ لحظات.
حاولت أن لا أسمع صراخهم عند سقوط الجسر بحافلتهم، أن لا ألمس دموع معلمتهم التي تحتضنهم بذراعيها وتبتهل إلى الله أن ينجيهم، حاولت أن لا أختنق بمياه السيول التي قطعت أنفاسهم ونفخت حناجرهم وبطونهم.
حاولت أن أذوب في نفسي أن أنصهر؛ فيتشربني جلد الأرض قبل أن أتحد بجسد أمٍّ وقفت تنتظر ولدها لتتسلمه جثة في كيس أحمر يشعل نار الفقد في قلبها، حاولت أن لا أذرف الدموع من مقلتيها، أن لا أرسل الآهات عبر المدى فترتج لصداها السموات والأرض.
حاولت أنا لا أتجسد في كلمات شكر نطقتها أم كانت قد منعت طفلها من الذهاب في تلك الرحلة فنجا لها، ومات هو كل يوم وحيدا وهو ينتظر زملاءه في صفه الفارغ إلا منه.
حاولت أن لا ألوم الحكومة لإهمالها في صيانة الجسور والإشراف على نزاهة إنشائها.
حاولت ان لا أوبخ إدارة المدرسة التي تجاهلت نشرة الأحوال الجوية التي تصدح منذ أسبوع، وأن لا ألوم استهتارها ولا مبالاتها، ولا ألعن الوزارة التي أذنت لهم بالذهاب في هذه الأجواء.
حاولت أن لا أصرخ في وجوه أولياء الأمور الذين تجاهلوا حالة الطقس وسمحوا لأبنائهم بالذهاب، بل حاولت أن أرفق بهم وأن أتعاطف معهم وألقي بكل نقمي وغضبي وحزني على القدر وأترحم عليم وأقول هو قضاء وقدر.....
وحاولت أيضا أن أسبر غور قلب هذا الإنسان الشجاع المخلص لعمله الذي لازال يقطر قلبه رحمة فألقى بنفسه لإنقاذهم، وحاولت ان أستجمع كل الفرح الذي نبت على حواف قلبه وهو ينقذ 14 طفلا ويعيدهم للحياة.
حاولت أن أنظر في وجه أطفالي كل لحظة أقبلهم وأحمد الله وأترحم على أطفالنا في الأردن الشقيق.
رحمهم الله وألهم ذويهم الصبر والسلوان ولقلبي الذي لم يعد يحتمل حسن العزاء...