الأحد  22 كانون الأول 2024

أصعب ما في الأمر، أنني صدّقتُ العدم، وأنكرتُ الوجود بقلم: محمد الريماوي

2018-12-07 09:57:25 PM
أصعب ما في الأمر، أنني صدّقتُ العدم، وأنكرتُ الوجود
بقلم: محمد الريماوي
محمد الريماوي

دائما كنتُ أجلسُ في حديقتي الآمنة، التي لا برد فيها ولا نار، حيث إنها كانت سلامًا عليّ، تجمّلها الأزهار، وتسيّجها الأشجار الخضراء، والربيعُ مبثوثٌ على أرضها كالرمال في الصحراء. آتي إليها وقت طلوع الشمس، أستلقى على ربيعها، وأشتمُّ زهرها، وتحجبُ عنّي الشمسَ أشجارُها.

ذات مرّةٍ، كنتُ متعبًا إلى حدّ الانحناء وعدم التوازن في المشي، تراخت أضلعي، وإذ بي أنام لثلاث ساعات دون وعي وإدراك، لم أكن معتادًا على النوم في الحديقة، كنتُ أشعرُ أن جمالَها لا يمكن أن يجعل المرء أن يغفى ويتغاضاه. صحوتُ من نومي الذي شعرتُ أنه ثلاث سنوات. فتحتُ باب الحديقة؛ لأطل على العالم، فوجدته مستوحشًا، يأكل القويُّ لحم الضعيف، وينافقُ الضّعيفُ على القوي، ويحتلّ المتسلّطُ أرض الجاهل. هُرعت من رداءة المنظر، عدتُ إلى وسط الحديقة هرولة، واستلقيتُ تحت شجرة اللوز، ونسيتُ الباب مفتوحًا. بعد ساعات، دخل عليّ قطٌ لطيف، شعرُه كثيف، وجميل قليلًا، لا يشبه باقي القطط، صار يبكي بعدما دخل، ظنَّني سأطرده، كعادتي أطردُ العابرين، أدخلته، وذهبتُ لأحضر ماءً وصابون، وغسّلته، واستمعتُ لحديثه عن حياته، لمّحَ لي بأنّه جائعٌ جدًا، أطعمته وأسقيته، وأطلعته على المكان.

ظلّ القط يسرحُ في مكاني وزماني وحديقتي، كان لطيفًا، يلعبُ، ويضحكُ، ويغني، ويداعبني كثيرًا، حيث كانَ بارعًا في جذبي إليه، يتمشّى بجانبي، كنعامة، ويفردُ حبَّهُ لي، كطاووس يفردُ الكبرياء.

كنتُ أبتعدُ شيئًا فشيئًا عن حديقتي.

في يومٍ من الأيام، أتى القطُّ إليَّ، ليلًا، وأخبرني أن جيشًا من الوحوشِ تطارده، خبئته بينَ ذراعيّ، كعلامة التنصيص، كان الجو صيفًا، طمأنته، خلعَ ملابسه، وارتمى على سريري، ظلّ يرتجف حتّى نام، ونمتُ أنا أيضًا. صرتُ أرى القطَّ اللطيفَ، ملهمًا للحياة، مُميتًا للماضي الأليم والذاكرة، كان يعزّ عليَّ أن أفارقه، كنا نأكلُ ونشربُ معًا، ونمسّدُ للسماءِ غيومها.

حديقتي الآمنة كدتُ أنساها، لم أزورها منذ شهرين.

حدث معي كما حدث (لأخيل) في الأساطير اليونانية، اغتسلتُ بماء الحياة، والنسيان، والقوّة الأبديّة، ولكن بقيَ قلبي دون غسيل، مثل كعب أخيل، بقيَ معلّقًا بحديقتي الآمنة، وباقي جسدي خرج منها طوعًا.

طوى جسدي الزمن، وجرَّ مساحتي نحو الهاوية والعدمية. قلبي ظلَّ ينبض، كمطرقة يطرقُ قفصي الصدري، وأنا لاهٍ بالقطّ، غيرُ مكترث بالقلب الذي لم يغتسل، ولا بالخطورة التي سترافقني نتيجة لذلك.

لمسَ القطُّ قلبي -نقطة ضعفي- بيديه الناعمتين، بعدَها تفجّرَ بالبكاء، وهنا تذكرتُ حديقتي الآمنة، الدموع صارت تذرف، وقليلُها سقطَ على جسد القط، هنا الكارثة! الدموع التي سقطت على جسد القط حوَّلتهُ إلى شكلٍ لم أتخيّله، صعَقني رأسه المثلث، وقدماه الطويلتان، وعيناه الحمراوتان، أما يداه وباقي جسمه كانت على شكل نار، تحرق من يقترب منها، صرخت (إنه جن، يا للهول! أنقذيني يا حديقتي الآمنة)، ولم يخرج صوتًا لصوتي، ولم يَسمع ندائي أحد، قاومت، بكلِّ ما أوتيتُ من مقاومة، لكن دون جدوى، فهذا جن! تذكرتُ بعضًا من تعاليمنا الدينية، غير متأكد إذا كانت صحيحة أم لا، قلتُ لا وقتَ للشك، وبدأتُ أقرأ ما قاله اللهُ للناس في قرآنه، مرة، مرتين، ثلاثة، واختفى الجن.

لم أكن يومًا أتخيّل أن هذا القط اللطيف به شيء يعاب، وكنتُ كلما جلستُ بجانبه، أردّدُ بيتًا من الشّعر "رماك الحاسدون بكل عيبٍ وعيبُك أن حُسنكَ لا يعابُ"، ولكنّه كان.

نظرتُ إلى حديقتي الآمنة، كم أبدو ذليلًا أمامها، قلّة إيماني بها، وحماقاتي جعلتني أخرج منها. وكانت الحياة بدونها حياةً من العدم، حيث لا وجودًا حقيقيًا لها. الآن أنا كالمهزوم، أتردد كثيرًا في اللجوء إليها، ولكن صرتُ أعرف أن لا أمانًا ولا وجودًا في هذه الدنيا سواها.