الأحد  22 كانون الأول 2024

هذا الوراءُ الأمام ..! بقلم: مهند ذويب

2018-12-13 10:14:56 PM
هذا الوراءُ الأمام ..!
بقلم: مهند ذويب
مهند ذويب

هُناك من قحِفِ مخيّم برج البراجنة تقومُ سيّدة بكامِل شالها التسعينيّ، وتجاعيدها التي تشكّل خارطة البِلاد، تشدّ مئذنة المخيّم من ياقتها إلى أثر صدأ المفتاحِ في صدرها، تجمعُ أحفادها العالقينَ بماضيها، ماضٍ يستحقّ وحده أن نعلق فيه وبه، وتقول: البِلادُ ترجِع خطوةً للوراء، هذا الوراءُ الأمام .. هذا الوراءُ الأمام.. تقول هذا، أملًا برحلة جبليّة محتملة، وصوتُ الفَرح يغطّي عنق المخيّم، تقول هذا فتنتصبُ ساقها، ساقَ عشرينيّة متأخرةٍ عن بيتها/يافا.

وهُنا، تبتلعُ الطّرقاتُ صوتَ أقدام المارّة، يمشي الغُرباءُ منتصبي الرأسِ والهامة من ثقل السّر الذي يعلِك صُدورهم، كحالة استثنائيّة وحيدة تُصبح "ملأى السّنابلِ رؤوسهنّ شوامخُ، هُنا ترجعُ الأحاديثُ الجانبيّة، نقاشاتُ المقاهي، صوتُ المذياع الطازج، يمشي الغُرباء الذين فقدوا الكثير إلّا أنفسهم بينَ طاولاتٍ مربّعة لا تشبه شكل الوطن، يديرونَ المذياعَ على صوتِ أمّ كلثوم، يُسرّون لهم: ربّما تكون اللّيلة الأخيرة، نرمقهم بغرابة عاطفيّة، بغرابة "ما لم نُحط به خُبرى"، فيقولون بصوتِ الراوي العليم كلامًا غير مرئي.

الأسرار أكثرُ صدقًا، الرّجل الذي فتح بيته صدرًا لمن قطّعت بهم السّبل ولم يكتب هذا في مذكراته، الرّجل الذي دخل المعتقلَ وخرج منه دونَ أن يسمعَ به أحد، الرّجل الذي بكى من الداخِل؛ لأنّه لا يملك إلا نفسه الهزيلة، الرجل الذي أوصى أبناءه على أنفسهم بنظرة وابتسامة، ولم يودّع زوجته إلا بقلبه، الذي لا يحبّ تعابير الوجوه ولا الكلمات، اللامبالي من الخارج، المرتجف كطفل لو تأخرت حبيبته في نومها ساعةً إضافيّة، هذه الأسرار قوتُ رواياتِنا القادمة، يكتبها الأطفال بمخيلاتهم، وينقلها الزّمان أسطورةً حقيقيّة من الخيال، كحالةٍ استثنائية أيضًا.

والأسرار زغاريدُ الأمّهات بارتفاعِ أبنائهن، كأنّهن يقدّمن وجبةً إضافيّة من التّعاسة للمحتل المتعطّش للدّمع بعد الدّم. بوضوحٍ أكثر كتب إبراهيم نصر الله في رائعته أعراس آمنة هذا فقال: "نزغردُ حتّى لا نجعل المحتلّ يحس لحظة أنّه هزمنا، وإن عشنا سأذكرك أننا سنبكي كثيرًا بعد أن نتحرر"، سنبكي حتّى يرجعَ الغائبون، هذه المُبالغة للكثرة مع الاستحالة.

اليَوم، أقفُ على الشّرفة المطلّة على رام الله، وأستذكر جبل عزّت الغزّاوي(رواية جبل نبّو)، ونهر يحيى يخلف(رواية نهر يستحم في بحيرة)، وأردد: "فلسطين الواقع ليست فلسطين الخيال، وإنّنا نفتقد المنفى"، أنظر لوجهي في انعكاسِ الزّجاج، هذا الوجه، الذي لم تعفّره معارك المنفى، ولم يشرب خوفَ بيروت مع قهوته "أخت الوقت"، يحسّ بهذا، أنظرُ إلى الوراءِ الأمام، وشبحُ الواقعيّ يطبقُ يده على فكرتنا جميعًا.

"لمثلِ هذه اللّيالي تخبّأ الدّموع"، لا أعرفُ من قال هذا، لكنّ صدورَ الرّجال المكرّة المُقبلة تؤكّد أنّ البلادَ -كما تقولُ جدّة المخيّم التي لا أعرفها/جداتُنا جميعًا- ترجعُ خطوة للوراء، هذا الوراءُ الأمام، ولا أحدَ سيستطيعُ الآن على الأقل أن يكبحَ جماحَ عاطفته لصالح أيّ شيء آخر.