الأحد  22 كانون الأول 2024

عندما قتل حي الماصيون في رام الله 19 جنديا إسرائيليا وكان وادا ثوريا

2019-01-14 06:25:24 AM
عندما قتل حي الماصيون  في رام الله 19 جنديا إسرائيليا وكان وادا ثوريا
قصة مقتل 19 جنديا إسرائيليا في حي الماصيون في رام الله عام 1948 وكيف ساهمت طبيعة الوادي في تطويق مجموعة الجنود الإسرائيليين وقتلهم حيث كانوا في مهمة القيام بمجزرة في بلدة قلنديا

الحدث- إبراهيم أبوصفية

"لم أنبذ الرومانسية موضة فنية بل الحياة ذاتها هي التي لا شغل لها إلا إسقاط رومانسية البشر. إنها تدفعنا دفعا نحو تراب شديد الواقعية"، يؤكد هذا النص لمريد البرغوثي في روايته "رأيت رام الله"، أن الفلسطيني مهما تجمّل في تصرفاته ولكناته ومارس رومانسية الموضة الفنية، إلا أن واقعه سيلفحه، ويشده إلى صورة الحصار الذي يعيشه، فإذا أراد أن يمارس الرومانسية ربما عليه أن يمارس الرومانسية الثورية، ربما تنجيه من الانفصام والتناقض الذي يحياه.

في الصباح الأول لمريد البرغوثي في مدينة رام الله، سارع لفتح النافذة، سائلاً قريبه "شو هالبيت الأنيق يا أبو حازم"، وأشار بيده إلى الجبل الطويل المطل على رام الله والبيرة -متعجبًا- مستوطنة!، من هذه اللحظة بدأت العلاقة الاستئنافية لمريد مع وطنه. ثم يعود ليؤنب نفسه "لماذا تداهمني السياسة هكذا؟، إن في رام الله والبيرة أشياء أخرى غير المستوطنات".

يعود مريد في هذه اللحظات بذاكرته 30 سنة، إلى ما قاله له الصحفي أحمد سعيد عقب احتلال الضفة الغربية عام 1967، "من هنا، من إذاعة صوت العرب، قال لي أحمد سعيد إن رام الله لم تعد لي وإنني لن أعود إليها - المدينة سقطت، ياه المدينة سقطت". في أي معنى اليوم سنعيد دمج هذه الكلمة، هذا التشاؤم الذي كرهنا بأحرف "السين والقاف والطاء والتاء). كلمة جمعت أحرف التفخيم والترقيق، جمعت الرومانسية موضة وعكسها أو مقابلها تمامًا الثورية.  

يستطرد مريد قائلاً  "رابين سلبنا كلّ شيء، حتّى روايتنا لموتنا"، ويقصد هنا حين كان يخاطب رابين العالم بقوله: "إنّنا ضحايا الإرهاب"، فيصفق العالم له سامحين له بممارسة كل شيء حتى التمثيل بجثث الشهداء فأقر سياسة تكسير العظام آنذاك".

هذا النص المتجدد كأنه يصلح لكل زمانٍ ومكان، بعد عقدين من الزمن على كتابته نعيد تشكيله وتأويله مشخصين حالة الواقع. إضافة إلى أنه يعيد الذاكرة الفلسطينية الثورية، والتصدي لقوات الاحتلال وعصاباته منذ 1948 حتى اليوم.

اقتحامات رام الله والرأي العام!

انطلقت في بداية شهر ديسمبر الماضي، موجة من العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة في منطقة "عوفرا" شمال مدينة رام الله، وبدأت عمليات الاقتحام الإسرائيلية الجلية المخترقة لشمس النهار لأحياء رام الله تتزايد في ضوء زيادة قوة وحدة وكثافة هذه العمليات. وما ميز هذه الاقتحامات أنها تركزت في أحياء ينظر إليها الفلسطينيون على أنها "أحياء ليبرالية متقدمة ناعمة فيها وزارات الدولة"، وأنها حدثت في وضح النهار، لتثير الرأي العام، وضجته على ما أسموه "كشف عورة الدولة". وكانت أكثر الصور تناقلا لآليات وجنود الاحتلال، تخرج من حي الماصيون أو الماسيون.

حي الماصيون الذي أربك القلم في كتابة اسمه!

خلال الحديث المتكرر عن الماصيون في الأحداث الأخيرة، ارتبك الكثيرون في التعريف عن الحي باسمه، هو هو بالصاد أم بالسين، الماصيون أم الماسيون.  وكأن هذا الإرباك عاد بنا إلى الإرباك الذي أحدثته كلمة "سقطت" لمريد البرغوثي، وثورية الحرف، كأن يعتبر الناشط أو الكاتب أن "الماصيون بالصاد" تفخيمًا ثوريًا، بينما يعتبر ناشط آخر "الماسيون بالسين" ترقيقًا رومانسيا يعبر بها عن حالة الحي الاقتصادية، ظنا أن هذا الوجه الاقتصادي الباهظ، أفقد المكان خصوصيته وسياقه، وأخرجه من حالة الصراع مع الاحتلال. إلا أن الحالة الثورية المتجددة هي سمة الفلسطيني مهما ربا في سبات، إلا أن اللكنة الحقيقية للاسم حسب سجلات بلدية مدينة رام الله هو "الماسيون" وليس الماصيون، ولكن لكنة المجتمع فخمت الاسم.  

تقمص المسؤولون مقولة مريد "نتنياهو سلبنا كلّ شيء، حتّى روايتنا لموتنا"، رواية هذا الحي الليبرالي الجديدة التي ساعد الاحتلال بتكوينها، بسبب أن الانتفاضة الثانية كانت قد أوجعت الاحتلال، وخصوصا مدينة رام الله التي شهدت صد المقاومين للاجتياحات، فأراد الاحتلال قتل هذه الصورة بتغليف رام الله اقتصاديا، وأيضا نظر العالم لرام الله بأنها الصورة "المنتهكة" من قبل الاحتلال آنذاك، فأراد أن يعيد الصورة الحضارية للمدينة لكي يقدم نفسه بأنه احتلال لا ينتهك حضارية المدن والمدن الحضارية، فتركها تنتعش اقتصاديا وعمرانيا وسياسيا بعض الشيء. فتشكلت المدينة التي وصفها مريد أنها شديدة النظافة ويتعجب من تنوّعها، ومواكبتها للحداثة والمدنيّة الفائقة، فيقول: "عجيبة رام الله! متعدّدة الثقافات، متعدّدة الأوجه، لم تكن مدينة ذكوريّة ولا متجهّمة، دائما سبّاقة للّحاق بكلّ ترف جديد"، ويصف طبيعة رام الله "رام الله السرو والصنوبر، أراجيح المهابط والمصاعد الجبليّة، اخضرارها الّذي يتحدّث بعشرين لغة من لغات الجمال"، ولكن الاحتلال لا يريد أن تغيب ذاكرتك عن أنه موجود، بل يقتحم ذاكرتك عنوة في كل جهة تنظر إليها، فيخبرك مريد واضعا يده على مكان الجرح، بأن رغم كل هذا الجمال تبقى رام الله وغيرها من المدن التي تسعى للتحضر كـ"غرفة حراسة عاديّة، الجنديّ فيها يحرس وطننا منّا". هذا الجندي الذي تحميه بحداثتك، لم يعجبه الأمر اليوم يريد أن يقتلك مرة أخرى، مرة قتلك بحداثتك ومرة يقتلك بسلاحه.  

ما أشبه الاحتلالات فهي تمعن في قتل الأصلانيين، غير أن المتعاون المساهم في حمايتها من أهل التراب، يبقى في نظرهم عدو لا بد من قتله يوما ما، بل ويحرجونه أمام أبناء شعبه. خلال اقتحامات الماصيون الأخيرة، نشر الدكتور عبد الرحيم الشييخ نصا بليغا لابن كثير من كتاب البداية والنهاية وصف فيه الاحتلال الإفرنجي لفلسطين، وكيف دخلوا الحصون والقلاع دون مقاومة، فقمصه الشيخ واقع الاقتحام المتكرر لحي المصيون الذي فيه مجمع الوزارات: "ثم دخلت سنةٌ، وفيها أخذت الفرنجةُ بيت المقدس، وقتلوا، وجاسوا خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيرا. وفيها ملكت الفرنجة قلاعاً كثيرة، منها قيسارية وسروج، وسار ملك الفرنجة كندر، وهو الذي أخذ بيت المقدس إلى عكا، فحاصرها… وفيها ادعى رجل النبوُّة، وسمى أربعة من أصحابه بأسماء الخلفاء الأربعة. وفيها جاء كتاب من الفرنجة… فيه: إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبديها،  وفيها وجد رجل يفسق بصبي، فألقي من رأس منارة. وفيه ملكت الفرنجة عدة حصون… وفيها باض ديكٌ بيضةً واحدة، ثم باض بازٌ بيضتين، وباضت نعامةٌ من غير ذَكَرْ… وفيها اقتربت الفرنجة من دار الحكومة أكثر من مائة متر، وكان وليُّ الأمر غائبا". ً

الماصيون التي قتلت 19 جنديًا إسرائيليا! "صدت الغزاة"

في خضم النقاش الدائر حول الحي، والتعليقات الناقدة له، لا بد من التنقيب عن صورته في زمن ثوري، وإماطة الغطاء عن معركة "الماصيون- الماسيون" التي وقعت قبيل النكبة عام 1948، إذ تعد تأصيلاً لتاريخ المكان الذي يتجاوز عمره الـ100 حسب ما بين كامل جبيل عضو سابق في بلدية رام الله.

وأشار جبيل لـ الحدث" أن طريق رام الله - رافات هي طريق تاريخية، وهي الطريق التي كانت تربط مدينة رام الله بقرى شمال القدس.  

في صباح الرابع من مارس/ آذار 1948، عبر 19 جنديًا إسرائيليا من سكان مستوطنة "عطاروت" الواقعة جنوب مدينة رام الله، السهل الواقع شمال قرية رافات، وكمنوا لباص عربي قرب نقطة تربط مدينة رام الله بـ "باب الواد"، وعندما مر الباص قاموا بقذفه بالقنابل وأطلقوا الرصاص عليه، إلا أنهم فشلوا بالهجوم وأصيبت امرأة وطفلة بجروح طفيفة، وفرّوا عائدين إلى المستوطنة، ولكنهم اختاروا استبدال الطريق الأساسية خلال العودة، حتى لا يمروا بالقرب من قرية رافات فيتصداهم المرابطون هناك، فعبروا في وادي الدير الذي يفصل بين رام الله وبيتونيا، وعند صعودهم التل المعروف "بالماصيون" كان مجموعة من المناضلين من قوات جيش الجهاد المقدس بقيادة السيد عبد الدايم عبد الصمد رئيس مسلحي البيرة، والدكتور جليل بدران، ولبيب حشمة، وعبد الرؤوف اسماعيل، والمشرف الرئيس على المعركة  قاسم محمد الريماوي الذي دون أحداث المعركة في مسودة كتاب عن الشّهيد عبد القادر الحسيني.

طوق المقاتلون الجنود من كل جانب، وبدأت أحداث المعركة، فقتل 5 جنود، وفر الآخرون عبر وادي الماصيون، إلا أن قوات إضافية من الجيش المقدس والمناضلين المرابطين من قرى الجيب والجديرة ورافات وبيتونيا، وصلوا للمكان، وحاصروهم من جديد وقُتل 6 منهم، واستسلم الباقون، فألقوا بنادقهم ورفعوا أيديهم، ولما اقترب المقاتلون لاستلامهم، كان أحد الجنود مصابا وبيده قنبلة فألقاها على المقاتلين الثوار، إلا أنه لم يصب أحد منهم، فارتاب المقاتلون وأطلقوا عليهم النار وانتهت المعركة بقتل "19" جنديًا. وغنم المقاتلون خمسة رشاشات، وعشرين بندقية، وعشرة مسدسات وكمية كبيرة من الذخيرة والمعدات.

وعند نهاية المعركة لم يسمح لأحد مغادرة مكان المعركة، بانتظار القوات الإسرائيلية أن تحضر لنقل جثث القتلى ولكنهم لم يحضروا، وبعد وقت قليل جمع المقاتلون الجثث ووضعوها في سيارات، وعادوا لمدينة رام الله، وقد ركبوا وراء الجثث وهم يهتفون لفلسطين، واستقبتلهم جماهير مدينة رام الله من نساء وشيوخ وأطفال ورجال.

ويتحدث عارف العارف عن هذه الحادثة، في مجلداته "فلسطين والفردوس المفقود"، موضحا أن المقاتلين الثوار قتلوا "17" جنديًا بينما تمكن اثنان منهم من الهروب والعودة إلى "مستوطنة  عطاروت".

وأوضح أنه وصل مكان المعركة قائد الجهاد المقدس عبد القادر الحسيني، كما وصلت مصفحة إنجليزية تقل عددا من رجال الأمن بعضهم عرب وبعضهم إنجليز، فحملوا الجثث في سيارة كبيرة، وجاءوا بها إلى مدينة رام الله، حيث كان العارف آنذاك مسؤولا عن قطاع رام الله، وطلب منهم تسليمها إلى أصحابها.

وقال العارف "عند مراجعة أسماء القتلى وهوياتهم التي انتزعناها منهم ظهر أن 5 منهم من موظفي مصلحة البريد في مدينة القدس، وقد طلبوا من مسؤوليهم إذنا لكي يتغيبوا عن الدوام لقضاء إجازة مع أهاليهم، ولكنهم كانوا ينون الاشتراك بالقتال في الجيش".

وأشار أن قسمة الأسلحة التي غنموها في هذه المعركة من نصيب أهل الجيب كون المعركة قريبة عليهم رغم أن غالبية المقاتلين من رام الله.

حنين الذاكرة ورسالة الواقع، جسدتها اقتحامات الاحتلال للحي، لتكون الرسالة أن لا شيء يتغير في ظل الاحتلال، وأن بعض المشاعر والظواهر خادعة تحترق عند أول اختبار حقيقي لطبيعة الشرط الكبير ألا وهو الاحتلال، فحين أخفق المفاوضون البيض في معاهدة فورت كروسينغ أيلول/سبتمبر 1879 في إقناع الزعيم الهندي كروفوت ببيع بلاده، تقدم منه أحد المفاوضين ونثر أمامه كومة من الدولارات لإغرائه وإغوائه، فأدرك الزعيم أن مفاوضه المتعجرف بطيء الفهم فانحنى إلى الأرض والتقط بكثير من الاحترام حفنة من الطين، كوّرها ثم وضعها في النار، وقعد صامتاً إلى أن تحولت إلى قرميدة صلبة، عندها أخرجها وقال لمفاوضِه: تفضل الآن، وضع أوراق دولاراتك في النار لنرى ما إذ كانت ستصمد كما صمد طين هذه الأرض، قال المفاوض الأبيض: لكنها ستحترق، إنها مصنوعة من الورق، وهنا قال الزعيم، إذن فإن دولاراتك أوهى وأبخس من هذه الحفنة من طين الأرض، ما نفع دولاراتك إذا كانت النار تحرقها، والريح تسفعها والماء يعطبها".

وآخيرا مريد البرغوثي في روايته "رأيت رام الله" جسّد المشاعر المؤجّلة للمكان، واختزل عاطفة عمرها 30سنة آنذاك، ونحن اليوم نحاول أن نثير ذاكرتنا بتغذية راجعة لـ70 سنة من عمر الاحتلال، الذاكرة الثورية التي تنبش عن أي حدث نربطه بالمكان كي لا تُطمس العقول بالبيت الزجاجي الذي قد يتحطم مع أول صوت ينفجر في ذاكرتنا والواقع.