الأحد  22 كانون الأول 2024

الأَسئلة المشتبكة في رواية "أَكثر من وهم" لعبد السَّلام صالح... بقلم: أحمد أبو سليم

2019-02-23 12:33:49 PM
الأَسئلة المشتبكة
في رواية

ثمَّة أَدب متصالح مع المجتمع، وأَدب متمرِّد عليه، يرى الواقع بطريقة أُخرى، ويعيد إنتاجه ضمن رؤية فلسفيَّة مختلفة، يحاول أَن يفسِّر الماضي كي يخرج بنتائج مقنعة للحاضر، وعليه، فهو يبني بطريقة ما، رؤياه للمستقبل، لكنَّ السُّؤال البديهيَّ الَّذي يطرح نفسه هنا: هل كلُّ أَدب متمرِّد على المجتمع هو أَدب جادٌّ سيقود بالضَّرورة إلى تغيير إيجابيٍّ؟ أَم إنَّ التمرُّد على المجتمعات مرض قديم تتوارثه أَجيال المثقَّفين؟ وأَنَّ التَّغيير هو فكرة، مجرَّد فكرة، مهما كان شكل هذا التَّغيير؟ أَم هل يمكن القول إنَّ التَّغيير نابع من التأَثُّر أَو حتَّى التَّقليد للمجتمعات الأُخرى الَّتي سبقتنا بأَجيال، ومحاولة اللَّحاق بركبها، من خلال ضرب البنية الثَّقافيَّة الموروثة، وإعادة إنتاجها بما يتلاءم مع هذه الرؤية، بما في ذلك الطَّعن في الموروث الدِّينيِّ والاجتماعيِّ الَّذي يتضمَّن كثيراً من العادات والتَّقاليد، والأَنماط الاجتماعيَّة السَّائدة؟

ممَّا لا شكَّ فيه أَنَّ هذا العالم محكوم بالحركة، وأَنَّ الحركة تشكِّل قانون الحياة، حياة الفرد، وحياة المجتمعات، إذ ثمَّة قوانين محرِّكة لكلِّ مجتمع من المجتمعات، لكنَّ ذلك لا يعني أَبداً أَنَّ كلَّ حركة للمجتمع هي حركة إيجابيَّة، هناك تمدُّد، وبالمقابل تقلُّص، وفي الوقت الَّذي يسمح فيه التمدُّد باستيعاب التَّغيُّر الحاصل في الكون، النَّاتج عن الحركة، وبالتَّالي إعادة إنتاج المجتمع وهويَّته بما يتلاءم مع تطوِّر هذا العالم، هناك التقلُّص الَّذي يؤدِّي إلى الانكماش، وتحجُّر الهويَّة، وقد يؤدِّي ذلك فيما يؤدِّي إلى الاندثار.

من البديهيِّ أَن يكون لأَيِّ عمل فنيٍّ فكرة يجسِّدها، حتَّى لو كانت فنَّاً لأَجل الفنِّ في المجتمعات الَّتي صار بوسعها نتيجة لتطوِّرها أَن تطرح هذا الشَّكلَ للفنِّ، وعلى صعيد الرِّواية، إذا استطاع الرِّوائيُّ أَن يجعل القارئ يطرح على نفسه، حين ينتهي من العمل، سؤالاً مفاده: ما الَّذي يريد الكاتب قوله؟ يكون الرِّوائيُّ قد أَصاب هدفه.

قد تتجاوز الفكرة في الكتابة ما هو محسوس، ملموس، مباشر، قد تحاول القفز فوق الحواسِّ، وتتجاوزها كي تخاطب الوجدان والوعي بطريقة مباشرة، إنَّها في هذه الحالة كتابة لا تثق بالحواسِّ، وتشكِّك بمصداقيَّتها، وما تنقله إلى الوعي من حقائق، لذلك سنرى هذه الكتابة مشوَّشة، لا تنتظم على شكل معادلة رياضيَّة، تحمل حلاً واضحاً، وأُحاديَّاً، لأَنَّ الخطاب الموجَّه إلى الوعي، والوجدان، العابر للحواسِّ، هو خطاب يتَّخذ شكلاً مشوَّشاً كي يتوافق مع اللُّغة الَّتي يفهمها الوعي، الَّذي لا يستسلم بسهولة لأَيِّ معلومة عابرة للحواسِّ الَّتي تحاول أَن تشكِّل منذ الأَزل منظومة المنطق، والبديهيَّات، إثر التَّراكمات المحسوسة، وغير المحسوسة الَّتي شكَّلته عبر زمن طويل.

تلك النُّصوص بالذَّات تتطلَّب جهداً استثنائيَّاً من القارئ لامتلاك مفاتيحها، من هنا، يمكن القول، إنَّ القارئ، في هذه الحالة، بحاجة إلى حصانة معرفيَّة، وإحساس مختلف لتذوُّق النصِّ، وسبر غوره، والوصول إلى مكنوناته، ودلالاته، وبالتَّالي، فهو قارئ استثنائيٌّ لا يحكم على النصِّ من عنوانه فقط، أَو من إحدى جزئيَّاته، إنَّه القارئ الَّذي يفهم أَنَّ مهمَّته في القراءة هي الإحساس بدوالِّ السُّؤال، من أَجل وضع احتمالات الإجابات الممكنة، وغير الممكنة، لا من أَجل الوصول إلى حقيقة مطلقة، بل من أَجل وضع كافَّة الاحتمالات الممكنة في الوصول إلى كلِّ احتمالات الحقيقة، مهما بدت هذه الاحتمالات، في مرحلة زمنيَّة ما، ضعيفة.

إنَّ المتتبِّع لما يقدِّمه عبد السَّلام صالح من أَدب روائيٍّ سيكتشف أَنَّ ذلك هو المحور الرَّئيس الَّذي يدور حوله أَدب عبد السَّلام صالح، فهو يقدِّم رواية مشوَّشة، مبعثرة، بذلك القدر الَّذي تشوَّشت به الحواسُّ وما عادت قادرة على الوصول إلى منطق بعينه، والقطع بحقيقة بعينها، من هنا، فبوسعنا القول واثقين إنَّ عبد السَّلام صالح يكتب رواية الشكِّ والأَسئلة، ونراه في أَكثر من وهم قد ظلَّ وفيَّاً لأُسلوبه الكتابيِّ، بل تجاوز رواياته السَّابقة بجرأَة لم يتعوَّد القارئ العربيُّ عليها، ما جعل الرِّواية موضع نقد، وهجوم قاس أَحياناً من قبل بعض القرَّاء، فقد صدمهم بطريقة قاسية، لم يتعوَّدوا عليها، ما سيقودنا بالضَّرورة إلى إعادة فتح ملفِّ التَّابوهات المحرَّمة الثَّلاثة: الدِّين، والجنس، والسِّياسة.

ليس صعباً على الدَّارس للواقع العربيِّ أَن يفهم بسهولة إنَّ هذا الواقع الاجتماعيِّ يسير بخطَّين متوازيين، خطٌّ سفليٌّ في العالم المظلم، يمارس خلاله الإنسان العربيَّ كلَّ القبح، والشُّذوذ، والانفلات، وخطٌّ علنيٌّ ظاهر يحاول خلاله أَن يحافظ على صورته الَّتي يبدو فيها عفيفاً، متديِّناً، وقد تجلَّى ذلك بصورة أَكثر وضوحاً بعد انتشار مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ الَّتي سمحت بارتداء هذه الأَقنعة دون حسيب ولا رقيب، وممارسة كلِّ القُبح القابع في النَّفس المشوَّهة دون خوف من العقاب، أَعني عقاب المجتمع....

سيقود ذلك بالضَّرورة إلى السُّؤال التَّالي: إن كان الموروث المتراكم يشكِّل حالة الضَّمير حسب فرويد، الَّتي تحاسب الفرد في لحظة نشازه عن هذا الموروث الأَخلاقيِّ، فأَينَ يذهب الضَّمير هذا حين يصبح الإنسان المفصوم ضمن الخطِّ المظلم، وبمعنى آخر، أَين تذهب مخافة الله، وحساب الذَّات، وتأنيب الضَّمير؟

كلُّ ذلك سيقودنا بالضَّرورة إلى تشخيص خطير لسيكولوجيا الإنسان العربيِّ، إذ ثمَّة تشوُّه خطير جدَّاً مفاده شخص لامنتم إلى ذاته حسب تعبير كولن ولسون.

إنَّ شخصيَّات عبد السَّلام صالح في أَكثر من وهم، هي شخصيَّات لامنتمية، مشوَّهة تماماً، فاقدة الثِّقة بكلِّ ما حولها، جميعها، بلا استثناء، والمثير في الأَمر أَنَّ عبد السَّلام لا يحاول أَبداً تجميل الواقع، إنَّه واقعيٌّ بامتياز، صادق مع نفسه، ومع روايته، يذهب مع شخصيَّاته إلى أَبعد ما يمكن لها أَن تذهب، في محاولة لكشف غورها السَّيكولوجيِّ، وبالتَّالي، فهو هنا، لا يلجأُ إلى التَّجميل حتَّى على صعيد اللُّغة، إذ نراه يطرح الواقع بمكنوناته القبيحة، بلغة أَقرب ما تكون إلى لغة الذِّهن في لحظة التَّوتُّر الذَّاتي، والانفراد بالذَّات، والانفلات منها، على الخطِّ المعتم، بكلِّ ما تحمله هذه اللُّغة من شبق، وجنون، وانفلات.

إنَّه صادق مع نفسه، ومع روايته، حدَّ الفجيعة، إنَّه ذلك الشَّخص الَّذي يقشِّر أَمامك الواقع كي يريك كم أَنت قبيح.

ومع ذلك، فالأَمر لا يتوقَّف عند اجتهاد، وتشخيص، ومحاولة لامتلاك زمام الحقيقة، جلَّ ما يُطرح هنا، أَمام هذا القبح، هو السُّؤال، السُّؤال فقط....لكنَّه سؤال مبنيٌّ على تشريح عميق للواقع، والموروث.

ثمَّة حرَّاس للسِّياسة، يدافعون عن مصالح في عمليَّة التَّناقض الوطنيِّ، لكنَّها ليست مصالح وطنيَّة بالضَّرورة، إنَّهم حرَّاس الاستعمار، وديمومته، يلبسون الوجه الوطنيَّ، وهم بذلك، ذاتهم، أُولئك الَّذين يسيرون بخطَّين أَيضاً، معتم، وواضح، فالواضح مزيَّف، والمعتم حقيقيٌّ يعكس جوهر انتمائهم، من هنا فقط، سيصبح بوسعنا أَن نفهم من هي عمَّان.

إنَّها باختصار سماء، إنَّها محكومة بقطعان عائلات خدمت الاستعمار ذات يوم، في سوريَّة، والعراق، وفلسطين، فكافأَها الاستعمار بعمَّان، إنَّها مقبرة للحقائق، للإبداع، للشَّفافيَّة، للمستقبل.

 لا شكَّ أَنَّ عبد السَّلام يفهم تماماً أَنَّ الكتابة خارج التَّابوهات الثَّلاثة هي كتابة تزيِّف الماضي، والواقع، والمستقبل بطريقة أَو بأُخرى، فأَيُّ كتابة هي تلك الكتابة الَّتي لا تضع إصبعها على الجرح تماماً محاولة أَن تشخِّص الحالة؟...

إن كان الإنسان في علم النَّفس هو ابن بيئته، فعبد السَّلام صالح يقلب المعادلة في أَكثر من وهم، ويطرحها بطريقة أُخرى، المكان أَيضاً هو ابن ساكنه، يحمِّله البشر ملامحهم، فتلك معادلة جائزة على الوجهين، وإلاَّ لن تصبح معادلة صحيحة....

عبد السَّلام ينتصر لسماء، وعمَّان، يعطي سمَّاء مفاتيح القوَّة، لكنَّها قوَّة مشوَّهة، لأَنَّ الموروث مشوَّه، الأَصل، البنية مشوَّهة، لذلك فهي في البداية، ضحيَّة الواقع الدِّينيِّ، والسِّياسيِّ، ضحيَّة العادات والتَّقاليد، لذلك نرى سماء المشوَّهة تحاول أَن تقلب صورة سطوة الذَّكر، وتحاربه في أَكثر نقاطه قوَّة، على طريقتها، لتثبت أَنَّ نقطة قوَّته هي بالذَّات نقطة ضعفه، لكنَّه ليس أَيَّ ذكر، كما أَنَّها هي ليست أَيَّة أُنثى.

إنَّها زوبعة، ثورة منفلتة من عقالها، تحارب على جبهتين، الجبهة الأُولى هي جبهة الذُّكوريَّة المتسلِّطة، والجبهة الثَّانية هي الذَّات، إنَّها في لحظات ما تحارب ذاتها في ذاتها، حين تواجه الذَّكر، وذكورته، في داخلها، وتحارب ذاتها على جبهة أُخرى حين تواجه تلك الأُنوثة الَّتي تكاد تكون متساوية مع الذُّكورة في أَحمد...

وكأَنَّ الحلَّ هنا يكمن لا في الذُّكورة المطلقة، ولا في الأُنوثة المطلقة، بل في منطقة التَّلاقي بينهما، الأَنيما، والأَنيموس القابعة في الذَّات البشريَّة، كيف يمكن استنهاض أَحدهما ليتصالح مع الآخر داخل هذه الذَّات؟

هل الشعر أَنيما أَم أَنيموس؟ ما الجمال؟ ما السَّعادة؟ ما القبح؟ ما الحبُّ؟ ما الجنس؟ ما الفحش؟ ما العهر؟ ما التَّاريخ؟ ما المرأَة؟ ما الرَّجل؟ ما الحزن؟ ما الهزيمة؟ ما الواقع؟ من هي عمَّان؟ أَليست كلُّ تلك الأَسئلة هي أَسئلة الرِّواية؟

يتنقَّل عبد السَّلام بين اللُّغة الشَّاعريَّة الشفَّافة، العميقة، وبين لغة الفحش، ولغة الشَّارع، وصولاً إلى العاميَّة حين يشعر بأَنَّ الفصحى تعجز عن التَّعبير عن القبح الَّذي يريد أَن يوصله للقارئ، يقسِّم الحالات النَّفسيَّة النَّاتجة عن الهزائم ذاتها، ويبحث عن انتصارات مهما بدت بسيطة، ويعبَّر عن كلِّ حالة بلغتها، مهما بدت تلك اللُّغة مبتذلة بنظر المجتمع، ومرفوضة.

يرسم عبد السَّلام صالح في أَكثر من وهم خارطة الإنسان المهمَّش، المقهور، المهزوم، الفقير، يرسم خارطة الواقع الاجتماعيِّ، سماء الموزَّعة بين مازن وأحمد، وبين رجال عمَّان، وشبابها المحتقنين تعطي ملامحها للمكان، فيتداخلان، كلاهما، عمَّان من؟ أَحمد المهزوم؟ سماء الضَّحيَّة الَّتي تسعى للانتقام؟ رجال الأَعمال المرموقين؟ محمَّد طمَّليه؟ جهاد هديب؟ عمَّان التَّاريخ؟ العائلات العريقة؟ عمَّان من؟ إن كان علينا أَن نفهم الواقع، فعلينا أَن نقرأَ التَّاريخ الحقيقيَّ للمكان، لا التَّاريخ المزيَّف المدوَّن في الكتب الصَّفراء.

لم يكن عبد السَّلام صالح في أَكثر من وهم منبريَّاً، ولا خطابيَّاً، ولا حزبيَّاً، ولا مسيَّساً، كان روائيَّاً يعيد كتابة الواقع بطريقة مختلفة، وبين كلِّ سطر وآخر كان يطرح علينا سؤالاً يجعلنا نعيد في أَذهاننا صياغة الأَسئلة الَّتي ورثناها دون تمحيص وتدقيق.....لقد كان يحاول أَن يطرق أَسئلة الواقع بشجاعة وإقدام، وأَيُّ الأَسئلة أَكثر واقعيَّة في مجتمعاتنا من الأَسئلة المحرَّمة: الدِين، الجنس، السِّياسة؟