الأحد  22 كانون الأول 2024

حتّى لا نسير على رؤوسنا؟ بقلم: مهند ذويب

2019-02-28 10:16:33 AM
حتّى لا نسير على رؤوسنا؟
بقلم: مهند ذويب
مهند ذويب

اعتقدَ الراحل الشاعر سَميح القاسِم في سرديّته "إلى الجَحيم أيّها اللّيلك" أنه في حديثه/تشخيصه/محاولة تعريفه للوطن يفسّر الماءَ بالماء، وسأقتبس ما قاله حرفيًا مخالفًا على الأغلب قواعد الاقتباس في العدد والتّقديم والتّأخير، لأنّنا يا سميح –والكلامُ لنا- نفتقد اليوم هذا الماء جدًا، نفتقده لصالحِ تيمّم بالقار والتّراب والضّياع واللا تشخيص، هذا الماء تسرّب من بينِ أصابعنا، تسرّب .. تسرّب.

"سَام أو حام أو يافطِ، هذه الأمور الإثنولوجيّة لا تعنيني كثيرًا، المهم أنّني فقدت وطنًا كاملًا وحقيقيًا بترابه وصخوره وأشجاره، بناسه ومدنه ودكاكينه وقراه، بأثاثِه وملابِسه وقهوته الساخنة، فقدت وطنًا في حالة جيّدة، تعرفون جيّدًا وطني الذي ضاع بلا أيّ منطق، في زمن مِن المفترض أنْ ينتصر فيه المنطق ... أن نُبعث معًا، أن نستردّ طفولتنا، وأن نسترد وطننا . . . وطنُنا؟ وما هو الوطن؟ الوطن هو أنت وأنا، الوَطن هو الإنسان لا أكثر ولا أقلّ، والإنسان هو الشّجرة وحفنة التّراب والصّخرة والعتبة واللّيلك والوضوح، ها أنت ترى جيدًا أنّني أفسّر الماء بعد الجهد بالماء".

إلى معنىً شبيه ذهبَ غسّان كنفاني: " أتعرفينَ ما هو الوطن يا صفيّة؟ الوطن هو ألا يَحدث ذلك كلّه"، " أخطَأنا حينَ اعتبرنا أنّ الوطن هو الماضي فقط، أمّا (خالد) فالوطن عنده هو المستقبل"، ودرويش في قَصيدة أنا مِن هناك، وفي قصيدته لفدوى:" وَطني ليسَ حقيبة"، وابراهيم طوقان، وفدوى، والكَرمي، ويحيى يخلف في: نهر يستحمّ في بحيرة، والعراقي أحمَد مَطر: "نموتُ ويحيا الوَطن، يحيا لِمن؟" وغيرهم الكثير.

لكن؛ سأكون صريحًا بأنّني أواجه إشكاليّة حقيقيّة في تعريف الوَطن، حتّى في اللّغة، وأنا ابنها الحافي، فمعجم لسان العَرب لم يقدّم معنىً وجدانيًا خالصًا لللّفظة، كما أنّها لم تظهر بشكل واسِع وكثيف في الشّعر والأدَب إلّا مؤخرًا، وحتّى الوَطنيّة لا أعرف تعريفًا خالصًا لها، الأمور تُصبح أكثر تداخلًا، خاصّة مع استمرار الحديث عن الحل الإقليمي، فماذا سَتعني الوَطنيّة لو زحفت أقدامُنا/دُويلتنا إلى سيناء؟!

بعيدًا عن هذه الإشكاليّة، والمقدّمات المطلوبة/المباشرة/القَلِقة، عليّ أن أشير إلى أهميّة اختلافِ الموقف الثّقافيّ وانفصاله عَن الموقف السّياسي، لاعتقادي الجازِم أنّ الثقافة "التّراكم الإنساني للتاريخ والجغرافيا والتّراث والأدب" أعم وأثبت من السّياسة المتحوّلة/المتغيّرة حسب متطلبات المرحلة في أحسن الأحوال، لهذا؛ فإنّ فلا يصح تعميم الموقف السّياسيّ على الموقف الثقافيّ إطلاقًا، إنّنا كفلسطينيين/ككتاب/كمثقفين مقتنعون بحقّنا بكامِل التّراب الفلسطيني من رأس الناقورة وحتّى آخر شبرٍ في سيناء/أم الرشراش، ولن تجدَ موقفًا ثقافيًا يقول غير هذا، الأمر ليسَ مرتبطًا بالشّعارات، بل برواية طروادة التي نَكتبها بأيدينا، ويرتبط أيضًا بظهور وتأثير المثقّف والسّياسي، لن نحبّ أن نفقد ورقتنا الحقيقيّة/ المثقف، أو أن نقلب التّلفاز في وجهه كأي سياسي.

وبعيدًا عن سميح القاسِم، يستضيف فيصل"القاسم" الأقطش وكوهين، وبالمناسَبة فإنّ الأقطش يعي تمامًا ويقصد ما قاله، وأين قاله، ولأنّ مفهوم التّطبيع أصبح فضفاضًا هلاميًا، غير محدد الملامح، فسيعتذر مرارًا بأنّه لا يعرف/لا يعتبر هذا تطبيعًا، غسّان كنفاني قال في مقاله عن التطبيع والمقاطعة، مجلة الشؤون الفلسطينيّة، العدد 12، آب للعام 1972: " إنّ الجلوس مع العدو حتى في أستوديو تلفزيوني هو خطأ أساسي في المعركة، وكذلك فإنه من الخطأ اعتبار هذه المسألة مسألة شكليّة إنّنا في حالة حرب وهي بالنسبة للفلسطينيين على الأقل مسألة حياة أو موت ولابدّ من التزام جمهرة الشعب الفلسطيني بالشّروط التي تستوجبها حالة حرب من هذا الطراز"، وفيصل "القاسم" قال مخاطبًا كوهين: "حتّى إبراهيم حمامي إلي طلع ع الجزيرة (تسع تلاف وتمانميّة) مرّة بقلك ما بدّي شارك، صارت تطبيع"، لا يُهم كل هذا، أودّ أن أشير له بشكل مُلح ما قاله كوهين إنّ الشّعوب العربيّة "التي تحمي إسرائيل مؤخرات حكامها على حدّ قوله" كانت تظنّ الإسرائيليّ كائنًا بقرنين، مفارقة مضحكة، الجنود على حدود القطاع تحدّثوا في الحرب الأخيرة أنّ الفلسطنيين عمالقة، أكبر من الدّبابة، إسرائيلي شبّه جندي "الدّفاع" بالقط حين يُحشر في زاوية إذا رماه الأطفال الفلسطينيون بالحجارة، وصحفيّة أجنبيّة في الانتفاضة الثانية تعلق على تصريحات جيش الاحتلال بأنّ الجيش يضرب النار على الأرجل، "يبدو أنّ الفلسطينيين يسيرون على رؤوسهم" في إشارة إلى أنّ الإصابات أغلبها في الصّدر والرأس، هذه أحداث ربّما لا رابط بينها، أو هناك "رابط عجيب".

ليسَ عليّ أن أعيد ما كتبته عَن اجتماع القمّة العربيّة السابق في الرّياض، يمكن إعادة قراءة ذلك على صفحتي في مدوّنات الجزيرة، "هذه القمّة القاع، الرئيس الفلسطيني ليسَ لديه خيارات أخرى، ويعلم جيدًا أنّ العرب ورقته الوحيدة والخاسرة، حطوك في حجرٍ وقالوا لا تسلّم، انتقال التّطبيع العربي من تحت الطاولة إلى فوقها، موقف القمّة العربيّة كبير، ويتّسع لنحو مئة سيارة، دولة فلسطينيّة على حدود العام 37، أو وثيقة جد جدّه للسّعودي، القمة التي لن نعرف قراراتها كسابقاتها".

 ليسَ ليّ أن أتذكّر أيضًا فيلم "سمك، بن تمر هِندي"، لكن الحديث عَن مصالحة باتَ أمرًا مضحكًا جدًا، واستمرار ماراثون الجري في المكان أمر ساذج/ عبثي، وبالمناسبة فإنّ العبثيّة لا تعني أنّ الأمر مستحيل منطقيًا، بل مستحيل بالنّسبة للإنسان/الفلسطيني في هذه الحالة، وهو من حيثُ ندري أو لا ندري يسهم في إدارة الحكومة الإسرائيليّة للصراع حتّى اللحظة الأخيرة المناسبة، وعلى ذكر اللّحظات الأخيرة فطريق "عناتا-زعيّم الجديدة" تختصر نحو 20 دقيقة، وتقترب 20 خطوة من مشروع القدس الكبرى/مجمع المستوطنات، أمام كلّ هذا، والانتخابات الإسرائيليّة، والقائِمة العربيّة، أو القوائِم، وأموال الضّرائب، وباب الرّحمة، وأموال قطر، "هل يسير الفلسطينيون اليوم على رؤوسهم حقًا؟" في إشارة إلى شيء آخر تمامًا، بغياب الرؤية والوعي الوطني مثلًا، وتسرّب مفهوم الوطن كالماء.