الأحد  22 كانون الأول 2024

لماذا ما زلنا نقرأ غسان كنفاني؟

رولا سرحان

2023-07-08 12:31:15 PM
لماذا ما زلنا نقرأ غسان كنفاني؟
غسان كنفاني الذي يكتب عنا ولا يكتب لنا

تدوين-رولا سرحان

"لأن غسان يكتبُ عنا ولا يكتُبُ لنا". بتلك العبارة عبر صديق غسان كنفاني المقرب، فضل النقيب، عن رأيه في غسان. وليست العبارةُ مجرد رأي عابر، فهي عبارة تحدد معنى الكاتب ومعنى ما يكتب. فسنجدُ ما بين حرفي الجر فارقاً في المعنى والمغزى. أما المنطلقُ، فهو العلاقةُ ما بين الصوتِ والصمت وعن اتجاههما. فأن يكتب الكاتب لنا يعني أنه يمتلك جوابا جاهزا يُصدِّرهُ لنا، فيظل الصوت صمتا؛ أما أن يكتُب عنا فإنه يمنح صمتنا صوتا، لنسمعه نحن أولاً وليسمعه الآخرون تاليا. أما مصدر الصوت فليس الكاتب إلا منفذا لوصولهِ إلينا، فتُصبِحُ الكتابةُ صوتاً أو صرخة أو سؤالاً. وفي هذه الحالة، يكون الكاتب والقارئ والفلسطيني، مشتركين في الصوت والسؤال، ومشتركين في مشروع البحث عن جوابٍ للسؤال. أما السؤال فهو: من هو الفلسطيني؟

واليوم هو سؤالٌ برسم الحاضر، لماذا ما زال ينغلب الفلسطيني وينتصرُ الصهيوني؟ هذا السؤال الممتد من الماضي إلى الآن، هو الجواب على هذا الحضور الذي ما يزال كثيفاً لغسان كنفاني، روائيا وقاصا، لا ينازله في مكانته الأدبية أحدٌ من الأدباء الفلسطينيين اليوم، والذين يكتبون لنا ولا يكتبون عنا. فمتى يستطيعُ الكاتبُ الفلسطيني أن يكتب عنا؟

 كان غسان كنفاني يكتب عنا في سياق حياةٍ عاشها مثلنا، مهجراً من عكا، ولاجئاً في دمشق، ومعلما يعمل في المنفى في الكويت، ومن ثم روائيا وصحافياً وقياديا حزبيا وفدائياً في لبنان. وكانت تجربة اللجوء والمنفى تلك، والمقترنة بانتصار المشروع الصهيوني، تطرحُ دائماً سؤال المغلوبية والانتصار، لماذا انغلب الفلسطيني ولماذا انتصر الصهيوني؟ لماذا أصبح الفلسطيني لاجئاً مشرداً في المنافي دون وطن، ولماذا أصبح الصهيوني مواطناً مقيماً له أرض(نا)؟ واليوم هو سؤالٌ برسم الحاضر، لماذا ما زال ينغلب الفلسطيني وينتصرُ الصهيوني؟ هذا السؤال الممتد من الماضي إلى الآن، هو الجواب على هذا الحضور الذي ما يزال كثيفاً لغسان كنفاني، روائيا وقاصا، لا ينازله في مكانته الأدبية أحدٌ من الأدباء الفلسطينيين اليوم، والذين يكتبون لنا ولا يكتبون عنا. فمتى يستطيعُ الكاتبُ الفلسطيني أن يكتب عنا؟

إن شرط "الكتابة عن" مرتبط بالزمن. أي أن يكون الكاتب قادراً على طرح أسئلة، يحملها مشروعه الأدبي، فيما يتعلق بزمن الآن، المتجه نحو المستقبل. ولا يكون الماضي في هذه الحالة إلا سياقاً للفهم وسياقا جديراً بالتخلص منه بجعله ماضياً منتنهياً، فلا يكون شرطاً مستمرا حاضراً في وقف سيرورة تطور الهوية أو محددها الوحيد. فالفلسطيني، الذي صار لاجئا، وما زال يُعرَّف كلاجئ، لا يُريد للجوء أن يظل أحد معايير تحديد هويته ومَن يكون، بل يريد الخلاص من شرط اللجوء وما يُضيفه على هويته من استلحاقات. والفلسطيني الأسير، الذي تصبح كلمة "الأسير" كلمة دالة على مَن يكون، لا يريد أن يظل أسيرا ومعرفا بمأسوريَّته. والشهيد، لما كان يريد أن يكون شهيدا، لو أن الماضي لم يَفْرض عليه كما الحاضر أن يختار هوية الشهيد. فـ "الفلسطيني" الإنسان، يُصبح غير قابلٍ للتعريفِ إلا عبر أمورٍ تنفي عنه إنسانيته، فلا تكون كلمة "الفلسطيني"، وحدها، كافية للتعبير عنه، بل يجبُ تفصيلها بحجم الظلم الذي لحق به وحرمه تمام التمتع بإنسانيته الكاملة.

بحث غسان كنفاني عن الفلسطيني الذي يُمكنُ أن يكون معرفاً بفلسطينيته وعَبْر فلسطين وحدها، ووجده وحدد ملامحه في موتيفة مركزية تشغلُ معظم أعماله: "الرفض". فالفلسطيني هو "الفلسطيني الرافض" لواقعه ولحياة بؤسه وللظلم الذي وقع عليه. قام غسان بتسليح "الفلسطيني" بقيمة تُعيدُ المعنى لفلسطينيته التي تُصبح قيمة مساوية لمعنى إنسانيته، فـ "الفلسطيني الرافض" هو الفلسطيني الكامل، مهما كانت ظروفه الذاتية أو الموضوعية. في روايته غير المكتملة "الأعمى والأطرش"، تكتملُ الروايةُ فقط عندما نفهمها من خلال موتيفة "الرفض". فالنقصُ في الرواية يأتي مُتمِماً للنقص في الحواس عند بطليها المصابين بالصمم والعمى، "أبو قيس" و "عامر أو عبد العاطي".

الفلسطيني، الذي صار لاجئا، وما زال يُعرَّف كلاجئ، لا يُريد للجوء أن يظل أحد معايير تحديد هويته ومَن يكون، بل يريد الخلاص من شرط اللجوء وما يُضيفه على هويته من استلحاقات.

فـ"أبو قيس" المصاب بالصمم، عندما عرَّفه عامر على نفسه ولم يتمكن من سماع الاسم، قرر أن يسمي "عامرا" "عبد العاطي"، تيمنا بحادثة اكتشاف زيف الولي المختلق الذي يحج إليه أهل القرية تباركا وسؤالاً. حقيقةُ الصمم لم تمنع "أبو قيس" من رفضها وفرضِ واقعه الخاص على عامر. تماماً مثلما لم يستسلم عامر لحقيقةِ عماه، فكان هو من صعد على ظهر "أبو قيس"، لينظر إلى رأس الولي المعلقة بين غصني شجرة، وليتحسَّس تفاصيلها، فيكتشف أن الرأس المباركة هي مجرد حبة فطر. ولينزل من هناك ليُحاول أن يسمع "أبو قيس"، الذي لا يسمع، الحقيقة، فيصرخ ويظل يصرخ "إنه فطر. فطر". غير آبه بالحقيقة الواقعة المستقرة في صمم "أبو قيس"، فيقول "عامر": "وصحتُ بكل قدرتي: "فطر" فراق لي صوتي يرتد إلي في البرية وكأنه صراخ آلاف من الناس المختبئين تحت الحجارة ووراء الأشجار:" فطر. مجرد ثمرة فطر! ألا تسمع بعد؟ فطر". .. "إنه فطر، رأس عبد العاطي مجرد ثمرة فطر طلعت هناك بالصدفة". أما الاثنان مجتمعان، "أبو قيس وعامر"، فهما ترميز يُحيل إلى المقدرة على الرفض حتى في أشد لحظات العجز، والافتقار إلى أدوات التغيير البسيطة، أو التي هي من المسلمات، والتي يرمزها غسان بالافتقار إلى الحواس، التي لا تحول بين الرفض ومن ثم التغيير. فكأنما الفلسطيني مهما كان ظرفه أو استحكم عليه قدره يكون دائما قادراً على الرفض.

 

ولسياق الرفض عند كنفاني مقامٌ آخر، فهو صنو "الموت"، الذي لا يفهمُ إلا باعتباره اختيارا. وعندما لا يكون "الموتُ" اختياراً يُصبح عقوبة. وما يحدد طبيعة "الموت"، هي فلسطين، مدى قرب أو بعد الفلسطيني مادياً وروحياً عن فلسطين. فلكي يكون الفلسطيني فلسطينياً عليه أن يكون قريباً روحيا و/أو ماديا من فلسطين. أما معيار القرب أو البعد فهو "الموت". ويمايز غسان بين صنفين من "الموت" على أساس الاختيار أوالقدر. في الأول يُصبِحُ "الموتُ" في القرب كرامة، وفي الثاني يصير في البعد عقوبة. فمصير كل من يبحث عن فلسطين بعيداً عن فلسطين موتٌ مخزٍ. في روايته ذائعة الصيت "رجال في الشمس"، يموت أبو قيس ومروان وأسعد، في محاولة تهريب إلى الكويت، مختنقين داخل خزان. ولا يكون الموتُ عقوبةً كافية لمن يختارُ الابتعاد عن فلسطين مهما كانت ذريعة الابتعاد وأسبابه. ويُمعنُ غسان في إهانة الثلاثة، ليتحكم فيهم، بعد موتهِم، رجلٌ عِنِّين، "أبو الخيزران"، الذي فقد رجولته بعدما فقد وطنه، فصار مخصي الهوية. يتكاسلُ "أبو الخيزران" عن دفنهم، ويُلقي بالثلاثة، بعد أن يجردهم من أموالهم ومقتنياتهم، بالقرب من المزابل الحدودية. أما "الموت" على أساس الاختيار، فيظهر بوضوح على لسان إحدى شخصيات مسرحية "الباب": "الموت! الموت! إنه الاختيار الحقيقي الباقي لنا جميعاً، أنت لا تستطيع أن تختار الحياة لأنها معاطة لك أصلا... والمعطى لا اختيار فيه...اختيار الموت هو الاختيار الحقيقي، أن تختاره في الوقت المناسب قبل أن يفرض عليك في الوقت غير المناسب..قبل أن تدفع إليه بسبب من الأسباب التي لا تستطيع أن تختارها كالمرض أو الهزيمة أو الخوف أو الفقر، إنه المكان الوحيد الباقي للحرية الوحيدة والأخيرة والحقيقية!"

ولسياق الرفض عند كنفاني مقامٌ آخر، فهو صنو "الموت"، الذي لا يفهمُ إلا باعتباره اختيارا. وعندما لا يكون "الموتُ" اختياراً يُصبح عقوبة. وما يحدد طبيعة "الموت"، هي فلسطين، مدى قرب أو بعد الفلسطيني مادياً وروحياً عن فلسطين.

أما الفلسطيني، القريبُ من فلسطين روحياً ومادياً، هو الذي يقاوم رافضا لعدوه وعلى استعدادٍ للموت وهو يواجهه، فلا يكون حينها بحاجةٍ إلى هوية تعرِّفه، لأن الثابت في هويته واضحٌ ويُعرِّفه. في روايته "العاشق"، يتحرك بطل الرواية، الذي يقاوم الاحتلال الإنجليزي، بأكثر من اسم ودون اسم محدد. وكأن الأسماء لا تضيف للمقاوم شيئاً، ولا تمنحُ هويته تعريفاً، فالبطل اسمه أحياناً "قاسم"، هكذا تبدأ الرواية، ثم يصبحُ اسمه "العاشق". ومن ثم نكتشفُ فعلياً أنه "عبد الكريم"، والذي يسجن في سجن عكا بعد اعتقاله فيصبحُ اسمه "السجين رقم 362"، لكنه كان، قبل أن يحمل كل تلك الأسماء، مطارداً يحملُ اسم "حسنين". و"العاشقُ" دائماً صامت، هكذا وصفه أهل قرية الغبيسة عندما جاء إليهم. وهو صامتٌ لأن فعل الرفض يتحدث بالنيابةِ عنه، فلا يكون له اسم، فيحضرُ الغياب الذي هو غياب من أجل تحقيق الرفض، فيكون حاضراً. حتى عدو "العاشق"، الكابتن "بلاك"، يُصبِحُ قادراً على تحديد معنى حياته بفضل أفعال "العاشق".  يقول راوي الحكاية: "طوال شهور مديدة كان عبد الكريم كل شيء في حياة الكابتن بلاك، يمثل أمامه، ليل نهار، اليأس والأمل والخيبة والانتصار والدين والسداد في آن واحد. كان جزءا من مشاعره وأضحى دون إرادته مقياسة للأمور والأشياء، وحتى عيد الميلاد كان بالنسبة للكابتن بلاك مناسبة يقيسها على عبد الكريم." فعندما يتوقفُ فعلُ الرفض، تتوقفُ حياة المستعمر عن أن تكون ذات مغزى أو قيمة. وهذه الرسالةُ التي خبأها كنفاني في ثنايا روايته، هي بحد ذاتها تحتاجُ إلى دراسة أو مقالة مفصلة.

ما زال كنفاني قادراً على تحديد الفلسطيني الذي فقدناه في مرحلةٍ ما، وبدأ يعود من جديد مقاتلاً منفرداً أو من داخل المخيم. فسؤال من هو الفلسطيني اليوم، هو السؤال الذي يصرخ داخل رؤوسنا، وهو ما يجعلُ من غسان كنفاني حاضراً في مضارعنا الماضي بكل هذه الكثافة والراهنية.