تدوين- آراء ومدونات
حين اقتحمت فصائل المقاومة مستوطنات ومعسكرات غلاف غزة، وتبعها الفلسطينيون في مشهد سريالي أقرب إلى الخيال، لاقت تأييد الفلسطينيين ومحيطهم العربي والإسلامي الجماهيري، واستبشروا جميعا بإمكانية النصر والثأر، فمع تحقق صورة العبور والهجوم الكبير، تحققت صورة سحل المحتل بكامل عتاده على الأرض وتحطيم صورته التي ادعى دوما أنها لا تقهر، قد يستغرق تحليل هذه الحالة وقتا طويلا، سيكتب فيها الكثير، لكن مهما كانت هذه التحليلات وما سيقال، إلا أن عنصرا أكثر أهمية لا يمكن إغفاله، وهو المخيال الشعبي لتحرير فلسطين، ففي خيالنا تتشكل صورة مثالية رومانسية جمعية، لشكل هذا التحرير، وهو العبور الكبير بقوة شعبية وبعناصر يعلقون الجرس في مقدمتهم، وأحيانا دونهم، لذا لا يستغرب أحد من الفلسطيني والعربي أن شعروا بالنصر أو اقتراب موعد التحرير، أمام هذا المشهد. فهو ليس مشهدا سينمائيا فرديا مخترعا للتعبير عن موقف، بقدر ما هو صورة ذهنية جمعية ترسخت عبر سنوات الظلم والمقاومة، في مقاربة الحرب والأمل.
*سفر الدخول والداخل الفلسطيني
لماذا تسمى المناطق الفلسطينية المحتلة عام 48 بالداخل والداخل المحتل؟ هذا الاسم لاقى أحيانا غضب بعض الفلسطينيين في تلك المناطق، إذ فسر بعضهم أنها شكل من أشكال التمييز، وهي ليست تمييزا بقدر ما هي صفة، فبعد هجرة ال48 إثر هزيمة الجيوش العربية، كان لا بد للمخيال الشعبي أن يخلق فردوسه المفقود مقابل واقعه السيئ، ولأنه أصبح فردوسا كان على الفلسطيني أن يذهب بطموحه إلى دخوله، على شكل فردي لاستعادة بعض من حقه عبر التسلل أو على شكل جماعي منظم كعمليات فدائية، وحتى سعيه فيما بعد ليجد عملا هناك، وارتبط باستمرار قضيته السياسية.
لقد أصبح الدخول سفرا مقدسا وإن كان محدودا، وبات يشار إلى العمليات الفدائية إلى الدخول حتى أن دخول الفدائيين إلى المناطق المحتلة عام 67 لم يلق مثل هذه التسمية دائما، أو لنقل لم تأخذ صفة الدخول كالمناطق الأخرى، ولكن في كلا الحالتين ارتبط الدخول بالعمل الفدائي.
* سقوط الاحتلال واقع.. إلا أن الحلم جاء ليؤكده
ولم تتشكل هذه الصورة المثالية بناء على خطة عسكرية، بل هي مزيج ما بين أمان وشعور جماهيري بقوتها الجمعية وقدرتها على تحقيق المستحيل، الأسطوري، كأمنية وحلم وهدف، ناتج عن مجموعة مسلمات وحقائق عقائدية وفكرية تمتد من الديني المقدس المتقدم وحتى الفكري العقائدي بشكله التقدمي والمتقدم.
ولا نغفل أن تراكم التجربة الفلسطينية والعربية في التصدي إلى قوات الاحتلال لعبت دورا في تأكيد هذا الحلم عبر معارك صغرى وكبرى وعمليات حققت انتصارا ولو معنويا عبر تكبيد الاحتلال خسائر في العمق الفلسطيني وعلى حدودها.
ومن هنا يدرك الفلسطيني والعربي رمزية الحشد على حدود فلسطين، وأن الحشود طالما استطاعت الوصول إلى الحدود فإن عبورها ضمن الصورة المثالية أصبح واقعا في يوم من الأيام.
* هذا هو العرس الفلسطيني
هناك قناعة لا يمكن لأحد فهمها إلا إن كان من المقتنعين فيها، وحتى مراكز الدراسات والأبحاث _ الاستخباراتية - الاحتلالية لا يمكن لها فهم هذه الحالة، وهي أن العبور بشكله المثالي والأسطوري هو أمر واقع ولا محالة من وقوعه، وفي كل عمل مهما كان أثره، ستقفز هذه الصورة إلى الذهنية الشعبية، عبر "موثبات" عدة.
تبدأ من المرويات بأشكالها الفنية والأدبية الشعبية وحتى الأشكال الفنية والأدبية المثقفة.
وقد كان من أهم هذه الأشكال الشعبية هي الأغنية وتحديدا أغاني الأعراس، التي طالما تغنت بأعمال بطولية والتبشير بأخرى، وحولت الفدائي بطلا شعبيا وأسطورة تمشي على قدمين، وتحطيم صورة المحتل الذي يظهر عاجزا أمام ضربات الفدائي، كالتغني بعملية الشهيدة دلال المغربي، وحداء المغني الشعبي الفلسطيني راجح السلفيتي مثلا الذي استخدم حداءه في نقد المشاريع السياسية ومهاجمة الأهداف الاحتلالية وشحذ الهمم باتجاه هدف متفق عليه جمعيا. وقد اشتركت الأعراس الفلسطينية على اختلاف أماكن وجودها ووجودهم في هذه الثيمة الفنية / السياسية/ الشعبية، وظلت لفترة طويلة هي شكل العرس الفلسطيني.
*البطل كحاجة مجتمعية
الشعوب لا تملك رؤيا سياسية، ولا تعنيها تلك الرؤيا، لكنها تتحرك بالحلم والأمل، بحلم وأمل مثالي جمعي، تختزن صورة مثالية لحركتها حتى وإن كانت مستحيلة، وكل المقاومات الشعبية في العالم كانت تتحرك بالحلم والأمل. الرؤية السياسية هي للكيانات والتجمعات المنظمة فقط، وعلى هذه الجماعات بمستوياتها السياسية والجماهيرية، أن تؤثر على الجماهير/ الشعوب برؤيتها، ومع ذلك فهي ستتلقف هذه الرؤية كنظرية داعمة لحلمها وأملها فقط.
إن تاريخ الظلم لا شك أنه يخلق حلما جمعيا كما يخلق أبطالا يجسدون هذا الحلم، أو يكونوا مادته الأصيلة، وخلق البطل يتأتى عبر أشكال عدة، فمن الخيال القصصي والروائي الشعبي، إلى استنباط نماذج تاريخية وحتى محاكاة الواقع، وربطه بالعنصرين المذكورين، ولتعزيز فكرة البطل ومن بعده العبور الأسطوري، كان لا بد من تحويل البطل إلى أسطورة، بشكل واع ومقصود أو بشكل غير واع ولكنه مقصود أيضا، لذلك كان لا بد للبطل أن يحمل الصفات المتقدمة للمجتمع وأهمها الصفات الأخلاقية، أما القوة فهي تغيب أحيانا، رغم أهمية صورتها الجاذبة والمغرية للمجتمع. وضرورتها، وتستبدل في بعض الأحيان بقوة بالحق والانتصار الأخلاقي وقوة الدافع الإنساني الحالم، لذلك كان عنترة بطلا ليس لقوته القاتلة بقدر حبه، وهو يستذكر حبيبته أثناء المعركة متعاليا على جراحه الواضحة على أسنة "بيض الهند" وكان علي الزيبق بطلا لإصراره على مقارعة الظلم، وكذا تحول ناجي العلي بطلا أيضا، بتمثيلهم وتمثلهم للصفات المتقدمة للمجتمع.
*العبور الفلسطيني وصورة البطل والمجموع
أثناء عبور الفلسطينيين نحو غلاف غزة، تجسدت لدى المجموع الفلسطيني والعريي تلك الصورة المثالية/ الأسطورية، بكامل تفاصيلها، العبور، المواجهة البطولة، التفوق الأخلاقي، المستحيل/ الممكن، هذه الصورة والعناصر كانت مرسخة في ذهن الشعب المصري قبل خمسين عاما، لذلك ومنذ اللحظة الأولى تمت المقاربة بين العبور المصري في العام 73 وبين عبور الفلسطيني من غزة، والذي تزامن بالتاريخ أيضا، في السابع من أكتوبر 2023.
ألا أن هذه الصورة/ الأسطورة، كادت أن تجرح بسبب بعض التصرفات الفردية غير المسؤولة، فمع الانجراف الشعبي استجابة للفعل / الأسطورة/ الصورة، الأمر الذي استدعى موقفا يحذر من خطورة أي تجاوزات أخلاقية_ وهي دعوى حق بلا شك_ حتى مع استغلالها من قبل البعض ككلمة حق يراد بها باطل، أو خوف من تبني موقف، وعليه كان الصراع بين فريقين كل يرى الأخلاق والإنسانية بطريقة مختلفة سياسيا وموحدة أخلاقيا، فجاءت صورة المقاتل الذي يمنع أفرادا من التمثيل بجثث القتلى، وأخرى تقدم المساعدة الطبية لنساء مدنيات، كما جاءت شهادات إنسانية من بعض المستوطنين لتكذب الإعلام الاحتلالي والغربي، رغم إصرارهما على كذبة قطع رؤوس الأطفال والمتاجرة بصور مزورة لإدانة الفعل الفلسطيني. ولاستكمال صورة البطل المثالي والعبور كأسطورة.
إن خلق حالة جدال ونقاش عامة أثناء المعركة حول ما هو أخلاقي وما هو ضروري، بحد ذاته تفوق أخلاقي لنا، في مقابل إصرار احتلالي أميركي أوروبي رسمي على تحطيم صورة العبور حتى بالطرق اللاأخلاقية، والإصرار على المزيد من المجازر وتبرير الفعل اللاأخلاقي للاحتلال بدعوى محاربة تنظيمات همجية، فالعالم "الحر" لم يستفزه وصف الاحتلال للفلسطينيين بالحيوانات البشرية في حين أن هذه الكلمة لو قالها فلسطيني سيواجه بالرفض والإنكار الفلسطيني والعربي الشعبي قبل الرسمي، ليس حفاظا على صورتنا أمام العالم فحسب، لكن لأنها جزء أصيل من صورة العبور الأسطوري المرسخة في الذهن الفلسطيني والعربي.
وللحقيقة علينا أن نعترف أن الصور المثالية الجمعية مهما حرصت الشعوب على بقائها نقية، إلا أن خدشا على الأقل سيصيبها، خاصة إذا كان العبور ليس لقوى منظمة فقط بل لجماهير تختزن سنوات من الظلم والقهر، سيتصرف بعضها بطريقة انفعالية. إلا أن الملاحظ أن مع وجود مثل هذه التصرفات، إلا أن الصورة لم تلوث بما يدعيه الاحتلال بالمجازر.
*الصورة الذهنية للضحية والجلاد واحدة
لماذا أصر الغرب الاستعماري على مساندة مستعمرته المتقدمة في المنطقة _ تل أبيب_ على ممارسة كل أشكال الذبح؟ إن هذه الدول الكبرى قد مارست القتل الإرهابي في كل حروبها، وخاصة حروبها فيما بينها هي ذاتها، ففي الحربين العالميتين لم يكن هناك تنظيم فلسطيني متهم بالإرهاب، ولا حتى داعش، لكن دول العالم "الحر" دمرت مدنا أوروبية بأيد أوروبية، وبسلاح أوروبي، دون نقاش إذا ما كان ذلك ضروريا أم لا، فقد كان من الصعب أثناء دخول هذه القوات إلى عواصم خصومها أن تسيطر على عناصرها وتضبطهم، على الرغم أنهم قوة منظمة يسهل ضبطها وتوجيهها، واحتاجوا لسنوات كثيرة بعد انتهاء حروبهم وتدمير قارتهم ليقروا مواثيقا إنسانية تحفظ حياة الناس في الحروب، هذه المواثيق التي سرعان ما تمت خيانتها والتحايل عليها في مواجهة حركات التحرر الوطنية للدول التي تستعمرها، فبذلك فإن هذه الدول لا تدافع عن مصالحها فقط في تأييد جرائم الاحتلال، بل عن صورتها القديمة / الحديثة في استعمار الشعوب التي مارست عليها كل أنواع الذبح.
وكان على هذه الدول وعلى الاحتلال أن يتصدى لصورة أخرى في ذهنيته، وهي ذات الصورة التي تسكن أذهاننا، وهي العبور، فإذا كنا نستحضر هذه الصورة الأسطورية للتحرير، فإن الاحتلال ومشغليه يستحضرون ذات الصورة لنهاية استعمارهم، فكان لا بد من تحطيم هذه الصورة في أذهاننا وأذهانهم معا..